في 10 يونيو/ حزيران 2014، استيقظ العراقيون على نبأ سيطرة مجموعات من “داعش” على الموصل، كانت فضيحة عسكرية بكلّ المقاييس، بضعة مئات من مقاتلي “داعش” دخلوا المدينة فجرًا وسيطروا على الجانب الأيمن منها.
حتى تلك اللحظة، كان من الممكن فعل الكثير لإخراجهم، حيث كانت تضمّ المدينة عدة فرق يصل تعدادها إلى 60 ألف جندي من الجيش والشرطة مسلحين بدبابات أمريكية، وكان تعدادهم وقوتهم النارية يفوقان بالتأكيد قوة المهاجمين لو أنهم قاتلوا، لكن ذلك لم يحصل، حيث قال مقاتلو “داعش” لاحقًا إن خطتهم لم تكن تقضي هذا التقدم، لكنهم وجدوا كل شيء مفتوحًا أمامهم، في كارثة عسكرية لا يزال العراق يعيش وطأتها حتى اليوم.
خلال السنوات اللاحقة، ظهرت المزيد من الحقائق، وحادثة انهيار الموصل تحكي رواية طويلة من الفساد، لا تبدأ من دخول مسلحي “داعش” إلى المدينة.. وإنما قبل ذلك بكثير.
بناء مائل
فكّكت الولايات المتحدة الجيش العراقي بعد الغزو عام 2003، وأنفقت 20 مليار دولار ضمن خطة لبناء قوة جديدة لحفظ الأمن قوامها 800 ألف جندي، معتمدة على قدرتها في حفظ السلام عندما انسحب الجيش الأمريكي عام 2011.
وفي حين أدّى قرار حلّ الجيش العراقي عام 2003 إلى حرب أهلية دامية، كان يُنظَر إلى القوات العراقية على أنها مؤهّلة بشكل عام بحلول عام 2011 حين خفّت حدّة القتال الطائفي، ما منح الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما بعض الثقة لاتخاذ قرار بسحب جميع القوات الأمريكية.
بدأت أولى مشاكل القوات الأمنية عمومًا خلال سنوات الاقتتال الطائفي ما بين عامَي 2005 و2008، إذ كان موقفها سلبيًّا جدًّا في حفظ الأمن، كما اتّسم أداؤها بالكثير من الانحياز فضلًا عن انتهاكات حقوق الإنسان، ما أدّى إلى تفاقم الوضع بصورة أكبر.
برزت أولى مظاهر الفساد في القوات الأمنية من خلال عمليات دمج الميليشيات التي كانت تعارض الحكومة العراقية، فترة حكم الرئيس الأسبق صدّام حسين، ويستخدَم مصطلح “ضباط الدمج” في العراق للإشارة إلى الذين لم يكملوا الكلية العسكرية، وتمَّ منحهم رتب عسكرية في زمن الاحتلال الأميركي، الذي قام بترقية أكثر من 20 ألف جندي وعريف ونائب ضابط إلى رتبة ضابط، لخدمتهم له فترة 2003-2009.
لم يكن البناء وحده ما جرى بطريقة خاطئة، فقد شاب تسليح القوات الأمنية عمليات فساد كبيرة توازي ميزانيات دول، ففي جلسة برلمانية شهيرة قال وزير الدفاع الأسبق، خالد العبيدي، إن هناك ضغوطًا كبيرة لتمرير صفقات فساد بعقود شراء عربات مدرّعة، وصفقات عربات مدنية وصفقات فساد في عقود الطعام والذخائر والتجهيزات العسكرية، وكلها عقود تعود لمتنفّذين من أعضاء البرلمان العراقي.
لاحقًا، قال الوزير إن الوزارة ألغت 16 عقد تسليح تشوبها قضايا فساد بقيمة حوالي 4 مليارات دولار، كان من المزمع أن تسهم في بناء الجيش العراقي ورفد متطلبات المعركة التي يخوضها مع “داعش”.
كما تقول لجنة الأمن والدفاع النيابية إن الفساد في صفقات الأسلحة تسبّب في ضعف أداء الجيش العراقي وسقوط مدينة الموصل في أيدي “داعش”، وأشارت اللجنة أيضًا إلى عدة ملفات تمَّ فتحها والتحقيق فيها بعد الانتكاسة الكبيرة التي تعرّض لها الجيش العراقي في الموصل وصلاح الدين والأنبار، خلال عام 2015.
قال نواب عراقيون إن صفقات الأسلحة تعتبَر من أكبر عمليات الفساد الإداري والمالي في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، لم تكن أية عملية بسيطة تخلو من فساد تقريبًا، فحتى صفقة بسيطة لشراء 50 ألف بندقية تشيكية بقيمة 36 مليون دولار كانت فاسدة، بعدما تبين أن البنادق غير صالحة للاستعمال.
لكن من بين الصفقات الأكثر عصفًا بالبلاد، صفقة أجهزة “IDE 651” لكشف المتفجرات، والتي تبيّن فيما بعد أنها أجهزة للكشف عن بقايا مواد التنظيف وكُرات الغولف، حيث كلفت هذه الأجهزة العراق 85 مليون دولار لصالح شركة بريطانية، لكنها كلفت أيضًا مئات الضحايا الذين راحوا جرّاء التفجيرات نتيجة فشل هذه الأجهزة في كشف السيارات المفخّخة التي كانت تضرب بغداد خلال السنوات العشر التي سبقت احتلال “داعش” للموصل، وبينما أسفرت التحقيقات البريطانية عن إدانة صاحب الشركة وحبسه ودفع تعويضات بقيمة 2.8 مليون دولار، لم يَقُم القضاء العراقي بمحاسبة أي شخص في هذا الملف.
كان يفترض بالعراق تسلُّم 50 طائرة من طراز تي-50، تتطلب إنشاء قواعد ذات مدارج خاصة بها، لكن العراق تلكّأ عن بناء هذه القواعد، وتسبّب ذلك في إلزام العراق دفع 5 ملايين دولار شهريًّا ولم يتسلم في النهاية سوى بضع طائرات منها، وبقيَ الملف طيّ الرفوف دون محاسبة.
وتذكر مصادر برلمانية إن الحكومة أنفقت على شراء السلاح أكثر من 150 مليار دولار من مناشئ مختلفة، ما استدعى التوقف عند هذا الرقم، ومقارنة ترسانة الجيش ووضعه الهزيل واسترجاع انكساره أمام بضعة مئات من مقاتلي تنظيم “داعش” في الموصل، أو خسارته للمدن الشمالية رغم ما تمَّ إنفاقه على الجيش.
في هذا الخصوص، قال عضو لجنة النزاهة البرلمانية، عادل نوري، إن اللجنة راجعت عقود التسليح التي أبرمها العراق خلال السنوات العشر الأولى، مبيّنًا أن “تلك المراجعة نتج عنها كشف ملفات فساد كبيرة بمليارات الدولارات تتعلّق بعقود الأسلحة الروسية والطائرات التشيكية، فضلًا عن العقود التي تمَّ توقيعها مع بلغاريا والصين وأوكرانيا، والتي شملت كميّات كبيرة من الأسلحة ضمّت دبابات ومدرّعات ومدافع”.
وأشار نوري إلى وجود مخالفات متعلّقة بعقد وُقّع مع إحدى الدول لشراء 400 مدرّعة، اتّضح فيما بعد وجود تشقّقات في 86 منها، ومع ذلك أُرسلت إلى جبهات القتال بدل إعادتها إلى بلد المنشأ أو تغريم الشركة المصدّرة، لافتًا إلى “أن تلك الدولة عوّضت العراق تحت مسمّى “مواد أخرى” بدل تغريمها مبلغ تلك المدرّعات، وتمّت تسوية الموضوع”.
وأضاف: “كان هناك أيضًا عقد شراء الطائرات التشيكية إل-159، وتعلّق الأمر بالتلكُّؤ في مدّة التجهيز والنوعية والمبلغ الذي تمَّ تسديده”، حيث إن “بعض تلك المخالفات تورّط بها مسؤولون في مديرية التجهيز والعقود بوزارة الدفاع، وأحد وزراء الدفاع السابقين”.
يعتبَر عقد طائرات التدريب التشيكية نوع إل-159 إحدى أشهر عمليات الفساد في تسليح الجيش، حيث ذكرت مصادر تشيكية أن “الجيش التشيكي اشترى من شركة “أيرو فودوخودي” 72 طائرة نوع إل-159 القتالية الأقل من سرعة الصوت، اُستخدم ثلثها وظلت البقية جاثمة دون استخدام، وحاول الجيش التشيكي بيع 28 طائرة غير مستخدَمة من طراز إل-159 لمؤسسة طيران أميركية، لكن العقد أُلغي لأسباب تقنية في مواصفات الطائرات”.
ثم حاولت الحكومة العراقية شراءها بعقد خيالي بلغت قيمته مليار و4 ملايين دولار، ولكن الشركة أعلنت في 24 مايو/ أيار 2013 عن تعثُّر مفاوضاتها مع الحكومة العراقية بسبب المفاوضات لشراء طائرة إف إيه-50 الكورية الجنوبية، ولكن السبب الحقيقي كان سقوط إحدى الطائرات أثناء اختبارها ومقتل طيارها التشيكي.
وفي 15 أبريل/ نيسان 2015 عادت الحكومة العراقية ثانية للتعاقد على شراء هذه الطائرات، وأعلن المتحدث باسم مجموعة شركات بينتا (Penta Investments) أن “وزارة الدفاع العراقية وافقت على شراء 12 طائرة تدريب هجومية خفيفة الوزن تشيكية من طراز إل-159 من طائرات الجيش التشيكي التي سبق أن رفضت استلامها بقيمة 200 مليون دولار”.
إذًا هذه الطائرة لا تستخدَم إلا في جيشَين فقط: الجيش التشيكي الذي اقتناها (ربما تشجيعًا للصناعة الوطنية) ثم أراد التخلص منها، والجيش العراقي الذي سهّل للجيش التشيكي مهمة التخلص من طائراته غير الصالحة للاستعمال.
إضافة إلى صفقة الطائرات الكورية الجنوبية التي كلفت العراق أكثر من مليار دولار، وكان يفترض بالعراق تسلُّم 50 طائرة من طراز تي-50، وهي طائرة مقاتلة خفيفة أسرع من الصوت، تتطلّب إنشاء قواعد ذات مدارج خاصة بها، لكن العراق تلكّأ عن بناء هذه القواعد، وتسبّب ذلك في إلزام العراق دفع 5 ملايين دولار شهريًّا ولم يتسلّم في النهاية سوى بضع طائرات منها، وبقيَ الملف طيّ الرفوف دون محاسبة.
الجنود الفضائيون
لم يكن فساد صفقات السلاح والتجهيزات العسكرية هي وحدها ما كشفته الحرب على “داعش”، وإنما كشفت ظاهرة أخرى أخطر، وهي الجنود الفضائيون.
الفضائيون، هم ظاهرة منتشرة في دولة العراق، ويُقصد بهم الموظفون المسجلون على الورق في سُلَّم الرواتب، دون أن يكون لهم وجود حقيقي في الواقع، مردّ هذه الظاهرة تسلُّم الأحزاب للوزارات لفترات طويلة مع انعدام الرقابة.
بحسب رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، يقدَّر عدد الفضائيين في القوات الأمنية بحوالي 50 ألف مقاتل -ما يعادل تقريبًا فِرقًا-، وخلال مرات عديدة توعّدت رئاسة الوزراء بإنزال أشد العقوبات بحقّ منتحلي صفات ومراتب الجيش، دون أن يكون لذلك الوعد أي تطبيق عملي.
أدّت هذه الظاهرة إلى مشكلة ذي عدة وجوه في الداخل العراقي، فالقوات الأمنية التي تتسلم أكثر من 20% من موازنة البلاد سنويًّا، تعجز في كثير من المواقف الحاسمة عن التحرك ويعود ذلك لعدة أسباب، أولها البناء المختل للقوات الأمنية، إذ تمَّ بناؤها من البداية على أساس طائفي هدفه دعم الإقصاء في تلك المرحلة، وثانيها التوسع الكبير الذي شهدته القوات المسلحة في الفترة التي أعقبت ارتفاع أسعار النفط عام 2010، خلال الولاية الثانية لرئيس الوزراء نوري المالكي.
شهدت تلك الفترة اتفاقية وضع القوات (SOFA) التي وقّعتها الحكومتان الأمريكية والعراقية عام 2008، ونصّت على انسحاب القوات القتالية الأمريكية من المدن العراقية بحلول 30 يونيو/ حزيران 2009، ومن العراق تمامًا بحلول 31 ديسمبر/ كانون الأول 2011، وهذا عنى زيادة في نفوذ رئيس الوزراء نوري المالكي الذي أراد المسك بالسلطات من خلال ضمان ولاء المؤسسات الأمنية، وهكذا تمَّ تحشيد الكثير من الجنود والمراتب في القوات الأمنية دون امتلاكهم كفاءة حقيقية، سوى الولاء للمالكي.
بحسب النائب حميد عبيد المطلك، عضو لجنة الأمن والدفاع السابق، هناك ما يقارب الـ 1.5 مليون عنصر أمني في العراق، وهذا يعني أن ما يقارب 23% من جميع الموظفين العراقيين يعملون تحت إدارة إحدى الدوائر الأمنية، ونتيجة لذلك تخصِّص الحكومة الأموال لضمان ولاء نسبة كبيرة من مواطنيها، ما يعزّز بدوره شعبية المالكي الانتخابية.
إضافة إلى هذه الأسباب، لم تكن هناك إرادة حقيقية من الأساس لبناء دولة وطنية علاوة على أن يحميها جيش وطني، حيث كانت النتائج المباشرة لكل هذا فشل الأجهزة الأمنية في الأغلبية الساحقة من المهامّ المكلفة بها.
يقول المبعوث الأممي الخاص، غسان سلامة، إن الفساد كان العنصر الحاسم لانتصار “داعش” في الموصل: “حين يعرف الجندي أنه في الحقيقة لا يدافع عن بلده، وإنما يدافع عن منظومة الفساد التي تبدأ من رؤسائه وصولًا إلى أعلى الهرم السياسي، فإنه يفضّل الانسحاب على القتال أو الموت ليبقى الفاسدون في السلطة”.
نتائج كارثية
في الفترة التي أعقبت عمليات التحرير، ظهرت النتائج الكارثية لبناء المؤسسة العسكرية بشكل مختلّ، حيث تولى الحشد الشعبي، وهو اتحاد لمجموعة من الميليشيات، مهمة قتال “داعش” وطردها من الأراضي العراقية، وأعطى هذا الأمر تلك الميليشيات اليد الطولى في الشأن العراقي الداخلي، وتحوّلت قوات الأمن ذات المليون مقاتل إلى مجرد قوات متفرّجة لا تتدخل أمام عمليات القتل التي تمارسها الميليشيات.
خلال الاحتجاجات السلمية التي اندلعت في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، سقط ما يقارب 1000 قتيل و30 ألف جريح على يد المجموعات المسلحة، ولم تتكبّد الحكومة حتى عناء تسمية مرتكبي الجرائم ضد المدنيين، واستخدمت بدلًا من ذلك مصطلح “الطرف الثالث”.
بالمجمل العام، يمثّل الفساد في المؤسسة الأمنية انعكاسًا لحالة الفساد العامة في الدولة العراقية، وهذا تبيّنَ من حصول قطاع الأمن على تقييم منخفض جدًّا في مؤشر الشفافية العالمية، بحصوله على 9 نقاط فقط من 100، ما يجعل البلد معرّضًا ومكشوفًا أمام المخاطر الأمنية الداخلية والخارجية.