كلمة “مخلوع” وفعل “خلع” .. ترتبط في أذهاننا غالبا بالأضراس التي نعاني من آلامها المتعبة أحيانًا فنضطر لانتزاعها من جذورها، ويرمزون للأمور الصعبة بالمثل الدارج “مثل خلع الضرس”، كما كانت ترتبط بالمسامير التي قد تخرج من مكانها بصورة جزئية أوكليّة، فيضطر النجّارون والحرفيون لإعادة دقّه، حتى لا يسبب مشاكل بسبب هذا الخلع، ولكنه هذا المصطلح استخدم في لغة السياسة والإعلام أيضًا، وارتبط غالبًا بإجبار الرؤوساء على ترك مواقعهم السيادية بفعل الانقلابات والثورات، وصار أكثر تداولاً وحضورًا في الإعلام العربي ومواقع التواصل الاجتماعي إبان ربيع الثورات العربية، قبل نحو خمس سنوات، للإشارة إلى عدة رؤوساء اضطروا مُكرهين لترك مناصبهم، مثل التونسي “زين العابدين بن علي”، والمصري “محمد حسني مبارك”، واليمني “علي عبد الله صالح”.
قد يكون من الصعب إعادة الضرس المخلوع، مرة أخرى إلى مكانه، ولكن المسمار المخلوع يمكن إعادته إلى مكانه، كما سبقت الإشارة .. ليس هذا هو المهم .. المهم أن “الرؤساء المخلوعين” يبدو أنهم لم يفقدوا الأمل في العودة إلى أماكنهم السابقة مجددًا، أو القدرة على التأثير في البيئات المحيطة بهم، وإمكانية ممارسات أدوار جديدة أخرى، بفعل عوامل كثيرة، خصوصًا أن صورهم لم تعد تحيط بها تلك الهالة الكثيفة من السواد والسمعة السيئة في الإعلام، بل وحتى في أوساط عامة الجماهير، كما الحال سابقًا.
ويبدو أن هذا الأمر ثمة من يشتغل عليه بجدّ، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، على أن كثيرًا منه ليس من بنات نظرية المؤامرة الخارجية، وإنما هو لأسباب أخرى منها:
ـ التقاء المصالح والولاءات بين بقايا مكوّنات الدولة العميقة للأنظمة والرموز السابقة التي لم تجتث رغم الثورات، على مستوى أجهزة الأمن والجيش والإعلام والدبلوماسية من جهة، والحكام المخلوعين والدائرة السابقة المحيطة بهم من سياسين وعسكريين ورجال أعمال فاسدين من جهة أخرى.
ـ ممارسات قطاع واسع من الجماهير التي مازالت تحتاج لجهد تربوي توعوي طويل المدى لتخليصها من الفساد القابع في أعماقها، والمتمثل في إعادة التهليل للحاكم المخلوع واستقباله من الشباك بعد أن طردته من الباب، وانتخاب نواب ورؤوساء جدد، يعدّون واجهة جديدة للمخلوعين، أو يشبهونهم إلى حد بعيد.
ـ تصرفات شارع المعارضة الثورية والأحزاب السياسية المعارضة، والتي كان أداؤها متعثرًا، يطبعه التشرذم والتنازع وتقديم الأنا على المصلحة العامة، والفساد أحيانًا؛ مما أدى لتقديم نموذج سيء، جعل الكثير من الشعوب تنفر منها، ويكون حالها كحال المستجير بعمرو، تستجير “من الرمضاء بالنار” وتصل إلى درجة الإحباط، وهي ترى هذه الممارسات وتقارنها بما كان يتم في عهد المخلوعين.
يضاف إلى ما سبق جهود إقليمية ودولية خبيثة وماكرة، وجدت أنه ليس من مصلحتها أن تنال شعوب منطقتنا حريتها وتستعيد كرامتها، وتأخذ زمام بناء مستقبلها بأيديها، فهي عملت من تحت الطاولة ولاتزال لإجهاض الثورات العربية، وقتل الأمل لدى الشعوب التي انتفضت ضد الظلم والتبعية، وإيصالها لدرجة الإحباط، من خلال ممارسات كإعادة تأهيل حكام مستبدين ليواصلوا حكم شعوبهم ، رغم كل جرائمهم.
خلاصة المشهد لثلاثة رؤساء تمّ خلعهم في الماضي كالآتي اليوم، مجرم مُنح براءة، وقاتل يتمتّع بحصانة، وفاسد تصدّر من هم على شاكلته تحت قبة البرلمان من جديد، فضلاً عن جزّار ينتظر إعادة تأهيله ليواصل حكم شعبه، رغم أن عدد النازحين واللاجئين بسببه قد وصل هذا العام 10.5 مليون شخصًا.
والحقيقة أن قصة المخلوعين ومحاولات عودتهم، لم تبدأ من اليوم وإنما تجلت في أبشع صورها بنيل مبارك حكم البراءة مؤخرًا، بطريقة استفزّت الرأي العام.
عودة المخلوعين برأيي بدأت منذ أن نال “أحمد شفيق” أحد رموز نظام مبارك حوالي 49 بالمائة تقريبًا من أصوات الناخبين في الشارع المصري، وكانت المعارضة إلى حد كبير متكتلة، وعودتهم تعود لترك “علي عبد الله صالح” يعيث في الأرض فسادًا بعد ثورة اليمن والكيد لها، حتى وصل الحال إلى ما وصلت إليه، أي سيطرة الحوثيين عليها بدعم إيراني خفي ومساندة لبقايا عسكر “الأفندم صالح”.
والأهم من ذلك أنّ عودة المخلوعين قد لا تقلّ سوءًا عن عودة دولتهم العميقة من جديد، وبأساليب ملتوية، كما حدث في انقلاب مصر ضد الرئيس الشرعي الدكتور “محمد مرسي”، بل ربما تكون الأخيرة أخطر لأنها تغطي على حقيقتها بتمويه ماكر كاذب. لابد من الإشارة إلى الخشية المرتبطة من احتمال استثمار الانقلابيين في مصر لبراءة مبارك كفزّاعة، بتخطيط مسبق منهم، من أجل تخويف الشعوب بهم ليرضوا بهم، أو ليغضّوا الطرف عن أخطائهم المتفاقمة ووعودهم الكاذبة.
وعودًا إلى المسامير المخلوعة، فإنّ “المخلوعين”، قد يكونون فعلاً كمسمار أو مسامير جحا، ويضرب المثل بمسماره لمن يتخذ الحجة الواهية المخادعة للوصول إلى الهدف المراد، ولو بالباطل، والقصة معروفة.
المصدر: الشرق