استعادة لمشاهد مضت أو مراجعة للتاريخ، لنقُل إنها تأمّلات هادئة في مسار عايشناه من قريب، مسار ضُخّمت فيه صورة الإسلاميين في تونس فظنّوا وظنّ كثيرون أنهم الفاعل الرئيسي في مشهد السياسة والاجتماع، فغطّى الظن على حقيقة الفاعلين الأقوى على الأرض، وغطى أيضًا، وهو ما نودّ الحديث فيه، على الهشاشة الداخلية التي تضعف بنيان الإسلاميين وتبقيهم خارج الدولة وخارج النظام وإن كانوا في عمق المجتمع.
لقد كيّف اليسار التونسي الإسلاميين على هواه، ووضعهم حيث أراد أن يكونوا في الهامش السياسي بلا فعالية ولا تأثير، وذلك منذ ظهورهم في السبعينيات.
النشأة الدعوية والزهد الاجتماعي
طغى حب الخير للناس على خطاب النشأة، وكانت الجمل الوعظية الوافدة من الشرق الإخواني والمستعادة من دفاتر الزيتونة المغلقة، تهيمن على حلقات الدروس المسجدية وعلى مجلة “المعرفة”، وكان الخير في الانشغال بإصلاح عقائد الناس بردّهم عن التغرّب أو الذوبان في الثقافة الغربية إلى دينهم هو محور الخطاب، بينما أخذت المسألة الاجتماعية مكانًا ثانويًا يعالَج بالتحريض على الصدقة أو إقامة فريضة الزكاة دون وسائل الدولة الحديثة.
في آخر السبعينيات حصلت صدمة وعي نتيجة الأزمة النقابية، فاكتشف الإسلاميون النقابات وأداورها وإمكانات توظيفها في المجال الاجتماعي، هذا التوجه نحو الاجتماعي بالتوازي مع الدعوي سيزداد قوة بموجة خطاب ثوري اجتماعي بثّته الثورة الإيرانية في كل المنطقة، وانخرط فيه شباب التيار الإسلامي، الطالبي منه بالخصوص، وصارت جريدة “المجتمع” منشور دعاية يسارية تقريبًا.
مطلع الثمانينيات كانت الجامعة قد صارت مجال حركة ثابتًا للشباب الإسلامي، بينما تراجع تأثير اليسار إلى مواضع ضيقة (كليات الحقوق والآداب)، وكانت محاولات إسلاميين التسلُّل إلى العمل النقابي بالاتحاد العام التونسي للشغل من القاعدة نذيرًا مرعبًا لليسار، وهنا حدث تحول كبير في تونس لا نراه قد دخل دفاتر التاريخ.
الهزيمة الماحقة لمحاولة اليسار مواجهة السلطة من خارجها بوساطة النقابة، ثم تمدد الإسلاميين في الجامعة والشارع جعلا اليسار يغيّر خطته تغييرًا جذريًّا، فقد يقن اليسار أنه لن ينتصر في معركة يلعب فيها العدد دورًا حاسمًا، لذلك قام بمناورة كبيرة وتخلّى عمليًّا عن معاداة السلطة وشرع في التسلُّل داخل أجهزة الدولة في المجالات ذات التأثير الواسع، وأهمها قطاع الثقافة والتعليم والإعلام.
التسلُّل والإقصاء
في الوقت الذي كانت نخب اليسار تتّخذ مواقعها في أجهزة الدولة والماكينة التعليمة والثقافية، كانت تصدر خطابًا ثوريًّا جذريًّا وتظهر عداء للسلطة يظن السامع أنه فجر ثورة بلشفية، وسنكتشف لاحقًا أنه كان خطابًا مكتوبًا في أروقة الداخلية وموجّهًا لجمهور يخدعه دخان الكلام، وكان الإسلاميون من المخدوعين من هذا الخطاب، لقد أربكهم ودفعهم إلى أقصى أشكال معاداة السلطة وأغمض أعينهم عن حركة التسلل الكبيرة لليسار داخل الأجهزة.
ويجب التذكير بأن عقد الثمانينيات كان عقد حرب على الإسلاميين منذ إعلان وجودهم في يونيو/ حزيران 1981، وهي فترة تدليل الدولة لليسار بالمنح الدراسية في فرنسا، وعندما وصلت معركة الإسلاميين إلى نقطة اللاعودة مع النظام كان اليسار هو من يمسك أجهزة التعذيب في الداخلية.
لماذا وقع الإسلاميون ضحية هذه المزايدة الثورية الخطابية؟ هنا تتضافر إجابات كثيرة صنعت هشاشة الإسلاميين الفكرية فوقعوا ضحية لليسار، ونظن هذه الهشاشة مستمرة تنخر كل المشروع الإسلامي.
أهم أسباب هذه الهشاشة الاستناد إلى تاريخ إسلامي محسَّن ووضعه في مواجهة نموذج الدولة الحديثة، ومن تفريعات ذلك البحث عن نماذج من العدالة في التاريخ لوضعها مقابل خطاب الثورة الاجتماعية اليساري.
لقد كان الإسلاميون يستحضرون أبا ذر الغفاري كلما رفع يساري صورة تشي جيفارا، وكان الإسلاميون يؤمنون فعلًا بنموذج أبي ذر بينما كان اليسار يتخفى خلف صورة تشي جيفارا ويتسلل إلى أجهزة الأمن، ولم يشفع للإسلاميين عند اليسار أنهم صاروا يعلّقون صور جيفارا ويرددون أغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام، لقد كان تقمصًا مثيرًا للسخرية والشفقة، لأنه من أكبر علامات الهشاشة الفكرية بل الروحية أيضًا.
لم يتخذ الإسلاميون موقعًا فكريًّا إزاء المسألة الاجتماعية، وظلوا يتأرجحون بين موقف ليبرالي لأن مرجعهم الديني يحمي حق الملكية، وآخر يساري يصوّر الملكية الخاصة كنقيض للعدالة الاجتماعية، وقد سهّل هذا مهمة اليسار المزايد، فالإسلاميون عملاء الإمبريالية.
في هذه الحيرة (وجب أن نذكر أنها حيرة تزامنت مع ربع قرن من السجون والمنافي) كان اليسار بكل فصائله قد صار هو النظام الذي يخدم طبقة رأس المال (الذي يسميه الكمبرادور)، 20 سنة من التسلل ملك بها اليسار مفاصل التأثير في الدولة، ولم يسمح لمن تُشَمّ منه رائحة تعاطف مع الإسلاميين أن يلج إلى أي موقع حتى حارس مدرسة ريفية.
الثورة والتيه الأبدي
الثورة التي فتحت باب الانتخابات وأعادت سلطة العدد في الصندوق أعادت الإسلاميين إلى مقدمة المشهد، لكن لم يتأخر الزمن لنكتشف أنهم عادوا بكل هشاشتهم السابقة لا بفعل السجون والمنافي فحسب، بل بغياب كل مراجعة للموقع الفكري من المسألة الاجتماعية، لذلك سرعان ما ركبتهم النقابة بالمزايدة الثورية وحرّفت عمل حكومتهم حتى أسقطتها.
الزيادات في الأجور وإدماج القطاعات المهنية الهشّة في مظلة التأجير العمومي لم تكن ضمن مشروع دولة اجتماعية مفكّر فيها من قبل الإسلاميين، بل كانت هروبًا جبانًا من أمام النقابات، وخطاب الحفاظ على مؤسسات القطاع العام المفلسة والمنهارة لم يكن عن تصور لدور الدولة التعديلي، بل كان خوفًا من النقابات الماسكة بخناق هذه المؤسسة تحلب ضرعها حتى ينزّ.
تلك النقابات هي اليسار، والذي نشاهده في هذه اللحظة (بعد الانقلاب) يتخلى عن كل هذه اليسارية الاجتماعية لصالح انقلاب أنجزته المافيا وتدعمه الإمبريالية، لكن لا يسمح للإسلاميين بالوجود أو التأثير، وما دام كذلك فيلفعل بالبلد ما يشاء، علمًا أن خطاب المزايدة بالاجتماعي يتواصل في تقسيم أداور لا يعمى دونه إلا العميان.
أبواق الإعلام اليسارية تتباكى على الفقراء، وأيديهم النقابية تصفّق لمن يفكك المؤسسات العمومية ويرفع الدعم عن المواد الأساسية، مع جرعة الاتهام الضرورية بأن حكومة الإسلاميين هي سبب الخراب، وأن الإسلاميين يهربون إلى جهة مجهولة ويقسمون أغلظ الإيمان أنهم أبرياء، ويرسلون رسلهم لهذا اليسار للتنسيق في إسقاط الانقلاب.. هل توجد هشاشة أشد فظاعة ممّا نرى؟
ماذا على الإسلاميين أن يفعلوا؟
ليس هناك وصفة جاهزة، خاصة أن كل من عرف الرقن على الحاسوب ذهب يلقّن الإسلاميين، هناك أمر بنيوي يحتاج التفكير، لا يمكن لجماعة سياسية مهما كانت مراجعها أن تكون في اليمين واليسار في وقت واحد، فلا يمكن أن يكون هناك حزب ليبرالي يدافع عن حرية السوق واستبعاد دور الدولة، وفي الوقت نفسه يحمي الفئات الهشّة والعمّال بواسطة تدخل الدولة نفسها.
لقد كان حزب الدستور البورقيبي يفعل ذلك، فحوّل البلد إلى مزرعة خاصة للطبقة المهيمنة على الحزب، وعندما حكم الإسلاميون أعادوا التجربة خوفًا من تهمة الليبرالية التي ألصقها بهم اليسار.
لذلك هناك خطوة يجب قطعها روحيًّا/ نفسيًّا وفكريًّا تمهيدًا للخروج منها سياسيًّا، وهي أن اليسار التونسي ليس مرجعًا أخلاقيًّا يؤخذ منه أو يجادل من موقع الشريك. عقدة النقص التي غرسها هذا اليسار في الإسلاميين يجب علاجها، بخطاب واضح لداخل الإسلاميين ولجوارهم.
هذا اليسار عصابة سياسية لا يمكن التعامل معها إلا بوصفها عصابة تشتغل عند المافيا المهيمنة على البلد، عندما يستوعب الإسلاميون هذه المسألة سيؤسّسون كيانًا مختلفًا وينتجون فكرًا بلا عقدة نقص، وسيكون منهم يسار ويمين.