ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يحظ الاتفاق البحري الإسرائيلي اللبناني بوساطة أمريكية بانتباه الإعلام، مع أنه من المحتمل أن يسهّل اختراقًا آخر في الصراع العربي الإسرائيلي. لم يتفق لبنان و”إسرائيل” على خط فصل بحري مؤقت فحسب، بل أقاما “حدودًا بحرية دائمة”، وذلك حسب ما أكده الرئيس جو بايدن. ولأول مرة في التاريخ، اعترف لبنان بأن له حدودًا مع “إسرائيل”. وإذا تم الآن إنشاء حدود المياه الزرقاء، فما المانع من مدها إلى اليابسة؟ ولماذا لا تواصل الوساطة الأمريكية حل النزاعات البرية بين الأطراف أو حتى التفكير في خطوات نحو إحلال السلام بين طرفين لا يزالان رسميًا في حالة حرب؟
عندما تم الإعلان لأول مرة عن موافقة لبنان و”إسرائيل” على الشروط التي صاغتها الولايات المتحدة للتفاهم البحري، سألني أحد المحاورين عما إذا كنت أعتقد أنها الخطوة الأولى نحو التطبيع بين لبنان وإسرائيل. كانت إجابتي قاطعة: “لا”. أما الآن بعد قراءة الشروط، أرى فرصة محتملة للتطبيع. ومن غير الواضح ما إذا كان سيتم اغتنام هذه الفرصة. تحدد القوى القوية مصالحها الخاصة فيما يتعلق بعرقلة الجهود الرامية للتخفيف من حدة الصراع الإسرائيلي اللبناني على الأرض ومنع إرساء السلام بين الدولتين في نهاية المطاف. ومع ذلك، يبدو أن تجنب بذل جهود لحل هذا الصراع نظرًا لحدود الاتفاقية البحرية أمر لا يمكن تصوره.
منذ تأسيس ما يسمى بـ “إسرائيل” في أيار/ مايو 1948، أنكر لبنان باستمرار أن يكون له حدود من أي نوع معها. كان له لمدة ربع قرن “حدود دولية لسنة 1923” مع فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني. وبالفعل، هذه الحدود – مع فلسطين – لا تزال قائمة. في سنة 1949، وقّع لبنان اتفاقية هدنة تنص على خط يفصل بين القوات المسلحة من المفترض أن يتوافق مع حدود الانتداب لسنة 1923. وفي سنة 2000، وافق (مع بعض التحفظات) على “الخط الأزرق” الذي رسمته الأمم المتحدة بهدف تأكيد انسحاب “إسرائيل” الكامل من الأراضي اللبنانية. حتى اللحظة الراهنة، امتنع لبنان عن التأكيد على أن له حدودًا من أي نوع مع “إسرائيل”.
يقضي نص الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة على أن الهدف من الوساطة هو “ترسيم الحدود البحرية بين جمهورية لبنان وإسرائيل”. لم يكن هذا مجرد خط فصل بحري (المصطلح الفني المستخدم خلال الوساطة البحرية 2011-2012)؛ بل تم إنشاء حدود دولية بشكل صريح بموافقة الطرفين. وخلال المحادثات قبل عقد من الزمن (التي ترأستها كوسيط) اتفق الجانبان على أن الموضوع قيد المناقشة كان خطًا مؤقتًا يمكن أن يتغير إذا كان الطرفان يفكران في إنشاء حدود. وكان الهدف من ذلك مد الخط الأزرق إلى البحر لأن لبنان لم يكن مستعدًا لترسيم الحدود. واستخدام بايدن لعبارات “الحدود البحرية الدائمة” يعكس بدقة ما هو لبنان الآن على استعداد للاعتراف به.
سيكون لقضايا الحدود البرية التي ستتم معالجتها وتسويتها عنصران: مسار الخط الأزرق حيث يتوافق بشكل أو بآخر مع الخط المتفق عليه خلال الهدنة اللبنانية الإسرائيلية لسنة 1949 والخط الأزرق الممتد الذي يفصل لبنان عن مرتفعات الجولان.
مع ذلك، يبدو أن التفاهم البحري والاعتراف المتبادل بالحدود لا يُنهيان حالة الحرب القانونية بين لبنان وإسرائيل. وقد جادل خبير واحد على الأقل – آشر كوفمان من نوتردام – في مقابلة مع “تايمز أوف إسرائيل” بأن “هناك عملية واضحة جدًا لجعل الحدود البحرية معترفًا بها دوليًا، وهذا الاتفاق لم يتبع هذه العملية”. ومهما كانت هذه “العملية”، فمن المؤكد أنه لا يزال من الجدير بالذكر أن لبنان و”إسرائيل” سيعترفان من خلال قبول شروط الاتفاق البحري بأن لهما حدودًا مشتركة. من هذا المنطلق لسائل أن يسأل: من الذي سيرفض الاعتراف الدولي بمثل هذا الاتفاق؟
على الرغم من أن الخبراء سوف يناقشون النقاط الدقيقة لما تم الاتفاق عليه – وكيفية تطبيق كلمة “الحدود” على الحدود الإقليمية (12 ميلًا بحريًا في حالتي لبنان وإسرائيل)، والمناطق المتاخمة (12 ميلًا بحريًا أخرى) والمناطق الاقتصادية الخالصة (في هذه الحالة تمتد إلى الخط الذي رسمته قبرص) – والفرصة المحتملة في المستقبل في أيدي القادة السياسيين والدبلوماسيين وليس العلماء والمحامين.
عندما ترأست الوساطة البحرية الأمريكية بين “إسرائيل” ولبنان، كنت آمل أن يؤدي الاتفاق على خط الفصل البحري إلى وساطة أمريكية في النزاعات البرية على الخط الأزرق بين البلدين. لم يكن الهدف أن يكون السلام بالمعنى الحقيقي، الذي كان يعتمد كليًا في ذلك الوقت على تسوية بين سوريا و”إسرائيل” أولاً. بدلا من ذلك، كان الغرض من توسيع الوساطة من البحر إلى البر هو القضاء، إلى أقصى حد ممكن، على الخلافات حول مسار الخط الأزرق – أي النزاعات التي تسببت في اشتباكات مسلحة دامية. وبما أنه تم التوصل إلى اتفاق بحري حاليا، هل ستتحقق فرصة الوساطة البرية المتوقعة لسنة 2012؟
تعتبر وجهة النظر هنا وجود فرصتين مترابطتين ولكنهما مختلفتان. ففي حال كانت جميع الأطراف تركز حصريًا على التخفيف من حدة النزاعات ومنعها، فقد تنتقل وساطة الولايات المتحدة مباشرة من البحر إلى البر. أما إذا كان الهدف هو السعي لتحقيق سلام رسمي بين الطرفين، فستكون هناك حاجة إلى اتفاق أكثر ابتكارا.
سيكون لقضايا الحدود البرية التي ستتم معالجتها وتسويتها عنصران: مسار الخط الأزرق حيث يتوافق بشكل أو بآخر مع الخط المتفق عليه خلال الهدنة اللبنانية الإسرائيلية لسنة 1949 والخط الأزرق الممتد الذي يفصل لبنان عن مرتفعات الجولان.
وإذا كان الهدف من هذا الاتفاق الحد من النزاعات وتجنبها، فإن تحديد التعديلات المقبولة للطرفين لجعل الخط الأزرق يتوافق مع خط الهدنة لسنة 1949 لن يتطلب جهودًا دبلوماسية عظيمة. وهناك نقاط ذات حساسية كبيرة، لا سيما فيما يتعلق بمنطقة واحدة مأهولة بالسكان في “إسرائيل” على الأقل، ولكن يبدو أن المسائل التي يمكن المقايضة بشأنها متاحة بسهولة.
من شأن قضية الخط الأزرق أن تلقي بظلالها على قضية مرتفعات الجولان التي تواجهها تحديات حقيقية. تخضع بلدة الغجر، التي تحتلها “إسرائيل” منذ سنة 1967، للتقسيم الآن (على الورق) بواسطة الخط الأزرق. وعندما دُرست مشكلة الغجر قبل عقد من الزمن، بدا أن سكان البلدة يفضلون الحكم الإسرائيلي القائم على الحكم اللبناني أو السوري.
يمثل ما يسمى بجدل “مزارع شبعا وتلال كفر شوبا” عقبة حقيقية مرتبطة بالحدود أمام السلام. وقد هدد الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من لبنان في أيار/ مايو 2000 بإخراج حزب الله من تجارة “المقاومة اللبنانية” تماما. فبدون احتلال، ماذا تقاوم؟
قام ضابط استخبارات لبناني كبير بحل معضلة مقاومة الاحتلال مشيرا إلى وجود قطعة ضئيلة من مرتفعات الجَولان المجاورة للبنان التي استحوذت عليها الحكومات اللبنانية السابقة وطلبت من سوريا نقلها. ويبدو أن الرعايا اللبنانيين يمتلكون أصولا في هذا الشريط الضيق، وأن الجهود الفرنسية المتساهلة خلال فترة الانتداب لترسيم الحدود بين سوريا ولبنان قد أسفرت، في هذه المنطقة وغيرها، عن قدر كبير من الغموض. وقد جرت المحادثات السورية اللبنانية قبل حرب حزيران/ يونيو 1967، لكن الأرض بقيت تحت سيطرة الولاية السورية إلى أن احتلتها القوات الإسرائيلية في حزيران/ يونيو 1967. ولم تكن هناك مطالبات لبنانية تتعلق بالمنطقة المعنية حتى سنة 2000. كما تظهر الأوراق النقدية والخرائط اللبنانية أنها داخل سوريا.
بحلول صيف سنة 2000، كان حزب الله يدعي أن الاحتلال الإسرائيلي لم ينته بعد، وأنه لا يزال قابعا فوق الأراضي اللبنانية في شكل مزارع شبعا وتلال كفر شوبا. ومن ثم اضطرت الحكومة اللبنانية إلى الوقوف خلف حزب الله. وأخيرا، اتصل وزير الخارجية السوري هاتفيا بالأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ليؤكد أن الأرض المعنية لبنانية بالفعل.
هذا التأكيد على أن “إسرائيل” ما زالت تحتل الأراضي اللبنانية أساس ادعاء حزب الله بأنه “المقاومة اللبنانية”، وهو الأساس المنطقي الرئيسي لحزب الله للحفاظ على قوة مسلحة قوية مستقلة عن الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني. مع أن حزب الله قد وافق على وضع ترتيبات للبنان لإنشاء حدود بحرية مع “إسرائيل”، إلا أن المنظمة التي تستجيب للأهداف والأولويات الإيرانية لم تبد أي اهتمام على الإطلاق في تسوية نزاعات الخط الأزرق، ناهيك عن تعزيز السلام بين لبنان وإسرائيل.
من أجل التأثير في مكانة حزب الله باعتباره ممثل “المقاومة اللبنانية” والدور الذي تضطلع به إيران في لبنان، تبدو الوساطة الأميركية في مسألة مزارع شبعا – وتلال كفر شوبا بمثابة جسر دبلوماسي بعيد المنال. ومن شأن وساطة الولايات المتحدة في نزاعات الخط الأزرق التي اقتصرت على محيط خط الهدنة لسنة 1949 أن تواجه حق نقض من حزب الله.
لكن ماذا لو أشارت “إسرائيل” إلى أن السلام الذي يلبي احتياجات الطرفين سيشمل نقل مزارع شبعا وتلال كفر شوبا إلى لبنان؟ سيكون لكل من لبنان و”إسرائيل” الحرية في الاستشهاد باعتراف سوريا سنة 2000 بصحة ادعاء لبنان. وبالفعل، طالب الاعتراف السوري ضمنيا بأن تقوم “إسرائيل” بتسليم الأرض المذكورة إلى لبنان دون الرجوع إلى دمشق. وبالتالي، يبدو أن النقاشات حول وضع مرتفعات الجَولان (الأراضي السورية المحتلة ضد السيادة الإسرائيلية) لن تحول دون نقل القطاع المعني إلى لبنان، نظرا لأن سوريا تصنفه على أنه أراض لبنانية.
يعد تنفيذ الاتفاقية البحرية والحفاظ عليها بحسن نية من الأهداف الرئيسية. ولكن ما تم الاتفاق عليه في البحر يجب أن يكون قابلا للتطبيق على الأرض أيضًا. وهي فرصة تستحق الاستكشاف والاغتنام.
كيف يمكن أن يتفاعل حزب الله مع مثل هذا العرض الإسرائيلي؟ لا شك أنه سيرفض المبادرة والتمسك بحقه الأبدي في حمل السلاح، مستشهدا بنيته فيما يتعلق بتحرير القدس. وقد يعيد إحياء مناورة مزارع شبعا – كفر شوبا، أو ما يسمى بادعاء “القرى السبع”. ولكن رفض حزب الله قبول النصر والتفكير في التنحي كقوة عسكرية سيكون مشهدا رائعا يشهده الشعب اللبناني – بما في ذلك ناخبي حزب الله.
من المؤكد أن السلام الإسرائيلي اللبناني يتطلب أكثر بكثير من مجرد نقل الأراضي التي تعتبرها “إسرائيل” ملكا لها – أرض مرتفعة يعتبرها جيش الدفاع الإسرائيلي ذات أهمية أمنية كبيرة. كما توجد مسألة التوصل إلى حل عادل لوضع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. ويجب حل الخلافات القديمة المتعلقة بالمياه والمتعلقة بنهر الحاصباني، إلى جانب ضرورة تأمين المساعدة الإسرائيلية فيما يتعلق بإزالة الألغام الأرضية والذخائر العنقودية من الأراضي اللبنانية. وستكون الاتفاقات المتعلقة بالتمثيل الدبلوماسي والتجارة والسياحة وما شابه ذلك إلزامية. ويجب ترسيم حدود برية من البحر الأبيض المتوسط باتجاه جبل حرمون (الشيخ). كما يجب التوصل إلى ترتيبات أمنية يمكن التحقق منها، بما في ذلك نزع سلاح حزب الله والقواعد المتفق عليها لحفظ السلام على طول الحدود.
بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات البرلمانية المقبلة، من المرجح أن تثبت “إسرائيل” اهتمامها بتحقيق السلام مع لبنان بقدر اهتمام حزب الله في لبنان بعدم تحققه. ومن المرجح أن تساعد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية كل هؤلاء الأطراف على التعامل معًا في المستقبل المنظور. ومن الواضح أن حكومة لبنان، رغم اتخاذها خطوة مهمة للاعتراف بأن لها حدودا بحرية مع الدولة اليهودية، ليست في وضع يمكّنها من الشروع في الخطوات التالية، سواء كانت تنطوي على حل قضايا الخط الأزرق أو استكشاف إمكانية السلام مع “إسرائيل”. ومن المرجح أن يعرقل الإستيلاء الإيراني على أجزاء كبيرة من بلاد الأرْز لبعض الوقت ليس فقط السلام مع الجار الجنوبي وإنما أيضا الانتعاش الاقتصادي وإنشاء دولة لبنانية يمكن العيش فيها.
مع ذلك، يشير الاتفاق البحري إلى أن إحدى الحقائق البديهية المقبولة منذ فترة طويلة لجهود السلام العربية الإسرائيلية – بأن يكون لبنان آخر من يصنع السلام مع “إسرائيل” – قد لا تكون فعالة. وهو على الأقل اقتراح يستحق الاختبار، ويمكن لإسرائيل اختباره إذا ما شاءت. كما يمكن للدول العربية التي تعيش في سلام مع “إسرائيل” أن تدعم الرد اللبناني الرسمي الحذر والمرتقب. و بطموح أقل، يمكن لواشنطن أن تعرض خدمات الوساطة للمساعدة في تسوية نزاعات الخط الأزرق المتفاقمة والخطيرة.
ويعد تنفيذ الاتفاقية البحرية والحفاظ عليها بحسن نية من الأهداف الرئيسية. ولكن ما تم الاتفاق عليه في البحر يجب أن يكون قابلا للتطبيق على الأرض أيضًا. وهي فرصة تستحق الاستكشاف والاغتنام.
المصدر: نيو لاينز أنستيتيوت