ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد انتخاب قيس سعيّد في سنة 2019؛ عاش المشهد الأكاديمي (التونسي) جدلًا حول تبني الفكر الشميتي (نسبة إلى كارل شميت) من طرف قيس سعيّد، فقد اقترب الحقوقي الألماني المحافظ والمناهض لليبرالية (1888-1985)، والناقد لجمهورية فايمار (1918-1933)، من النازيين ليصبحوا أحد منظريه، وهذا الماضي الجريء جعله منبوذًا طيلة عقود. ولكن في مطلع السبعينات؛ عادت كتاباته إلى ركب الموضة مرة أخرى، وأثرت على مفكري اليمين المتطرف مثل المنظر الفرنسي لليمين الجديد آلان دي بينويست (العاصفة، 2022)، ووصل تأثيره إلى دوائر اليسار الراديكالي عبر إرنستو لاكلو وشانتال موف.
ونشر أستاذ العلوم السياسية محمد شريف فرجاني مقالاً في صحيفة “هافينغتون بوست /مغرب” الأمريكية؛ حلل فيه أوجه التشابه بين فكر المفكر الألماني ومواقف الرئيس الجديد من مناهضة البرلمانية وتعزيز الديمقراطية الاستفتائية والعلاقة بين الحاكم والشعب. وردًّا على هذا السؤال، أجاب اثنان من علماء السياسة من المرصد التونسي للتحول الديمقراطي، وهما: محمد صحبي خلفاوي وحمادي الرديسي (…)؛ بالنفي، فقد وضعا سعيّد في مصفّ الشعبوية البسيطة، وأصرّا على غياب “القرارية” لدى المفكر التونسي.
وأُطلق النقاش من جديد بعد 25 تموز/يوليو 2021، مركزًا هذه المرة على الظرف الاستثنائي للبلد؛ حيث يستند العديد من المتخصصين إلى جملة من كتاب اللاهوت السياسي لإقامة صلة بين انقلاب قيس سعيد والمفكر الألماني الذي كتب: “هو صاحب السيادة الذي يقرر الوضع الاستثنائي” (…).
وفي ما يلي؛ سنقوم بتحليل أفكار وأفعال الرئيس من خلال منظور شميت، مع الأخذ في الاعتبار أن التطورات المستقبلية قد تتعارض بشكل جذري مع الحكم الحالي.
تقليب الهرم
لكن ما هي القرارية؟ يعرّفها محمد صحبي خلفاوي على النحو التالي: “إنها نظرية قانونية- سياسية، نظرًا لأن النظام القانوني هو ثمرة قرار سياسي، وأن هذا الأخير يمكن أن يبطل أي قاعدة سابقة ما دامت تتخذها سلطة شرعية، فمنذ 25 تموز/يوليو 2021؛ قام قيس سعيد بتعديل النظام القانوني الحالي بشكل كبير من جانب واحد، وكان له تفسيره الخاص للمادة 80 من الدستور، أو المرسوم 1175، أو حتى إعادة تشكيل الهيئات الدستورية المنتخَبة من جانب واحد ومن خلال أخذ الحريات مع القانون الأساسي. وفي بعض الأحيان؛ كان التنفيذ يسبق النص القانوني، كما كان الحال بالنسبة لحل المجلس الأعلى للقضاء، ولهذا يمكننا إذن التحدث عن القرارية.
قد يظن المرء أن سعيد يتأرجح بين قرارية شميت ومعيارية كيلسن
(…) هناك أوجه تشابه بين الوضع في ألمانيا بين الحربين، وبين تونس ما بعد “البن عليين” (نسبة إلى الرئيس بن علي)، فقد أنشأ نظام فايمار نظامًا برلمانيًّا يتمتع فيه رئيس الجمهورية المنتخب بالاقتراع العام ببعض الصلاحيات المهمة مثل استخدام التدابير الاستثنائية (المادة 48)، ويعين المستشار الذي يجب أن يحظى بثقة الرايخستاغ؛ وهذا التكوين يعيد إلى الأذهان الوضع التونسي. وأنتج شميت، المناهض لليبرالية، عددًا كبيرًا من الكتابات ضد جمهورية فايمار، مستخدمًا الحجج التي سيتم العثور عليها في فكر سعيد (…). ويوصف يوم 25 تموز/يوليو 2021، بأنه لحظة شميتية من حيث أنه يرفع الحواجز القانونية المفروضة على الرئيس ويفتح الطريق أمام ديكتاتورية مطلقة، ويجعل من منفّد القانون مشرّعًا.
(…) وتسبب المرسوم 117 الصادر في 22 كانون الأول/سبتمبر 2021، في إسالة الكثير من الحبر، فمن خلال وضع مرسوم بسيط فوق الدستور؛ انتهك “المعلم” قيس سعيد المبدأ الذي يعلّمه لطلاب السنة الأولى في القانون، ألا وهو “هرم كيلسن”. فوفقًا لرجل القانون المساوي؛ النظام القانوني ليس نظامًا للمعايير القانونية يوضع جميعها في نفس المرتبة، بل هو صرح به عدة طوابق متراكبة، فهو عبارة عن هرم أو تسلسل هرمي يتكون (إن صح التعبير) من عدد معين من المستويات أو الطبقات من القواعد القانونية. وبدعوى حالة الاستثناء؛ قام سعيد بقلب هذا الهرم رأسًا على عقب، بإعطاء لائحة (مرسوم) مستوى هرمي أعلى من القانون الأساسي.
(…) وقد يظن المرء أن سعيد يتأرجح بين قرارية شميت ومعيارية كيلسن. وفي الواقع؛ لا يرفض المفك الألماني تمامًا مبدأ المعيار المصادق عليه من خلال ما هو أعلى منه. ففي الأنواع الثلاثة للفكر القانوني؛ يُؤخذ هذا المنطق إلى أقصى الحدود ويطرح سؤالًا حول من يحدد ومن يصادق على القاعدة الموجودة في أعلى التسلسل الهرمي. وبالنسبة لمحمد صبحي خلفاوي؛ يحل قيس سعيد هذا الجدال الظاهري بوضع نفسه على رأس الهرم.
الشرعية والأحقّية
وغالبًا ما يركز سعيد في خطاباته على التمييز الشميتي بين الشرعية والأحقّية. فهو يرى، على سبيل المثال، أن الشرعية الثورية (في إشارة إلى ثورة 2010-2011) يجب أن تحكم النظام القانوني الجديد،ويعتقد منذ انقلابه أن مظاهرات 25 تموز/يوليو والانتخابات التي جاءت لصالحه، تمنحه الشرعية اللازمة لقلب النظام الدستوري، واتهاماته المتكررة التي تستهدف النواب أو القضاة، الذين سيدفع لهم لتمرير القوانين أو تنفيذ الأحكام، وكسر شرعية الهيئة ككل (البرلمان، المجلس الأعلى للقضاء) وهي شرط أساسي للمصادقة على قرار الحل.
وحذر الأكاديمي وليد العربي من خطورة هذا التمييز منذ أزمة التعديل الوزاري في شباط/فبراير 2017. وفي هذا الشأن فضل الرئيس تجاوز الدستور متحججًا بإدانته بفساد بعض الوزراء المرشحين، وهذا الموقف من الرئيس ذكّر العربي بموقف شميت من المرشد (الفوهرر) الذي سيحمي القانون من خلال تفسيره وفقًا لمنشور ميتافيزيقي. وقبل خمسة أشهر من الانقلاب؛ حذر العربي من الانتهاكات التي قد تنجم عن الشعبوية الممزوجة بمناهضة الحداثة والشرعية الشميتية.
نظرة محافظة عن المجتمع
ولم يُخفِ قيس سعيد نزعته المجتمعية المحافظة سرًّا؛ ففي المقابلة التي أجراها مع صحيفة “الشارع المغاربي” والتي توضح بالتفصيل رؤيته البرامجية ومصفوفته الأيديولوجية، تحدث “المعلم” عن أهم القضايا الخلافية في هذا المجال. فهو يؤيد عقوبة الإعدام وضد المثلية الجنسية وضد المساواة في الميراث، أما فيما يتعلق تلك المثلية التي يسميها “الشذوذ”، فإن مقاربته تمحورت حول المؤامرة؛ حيث يتهم الغرب بتمويل المثليين جنسيًّا لإفساد المجتمع.
ويجب قراءة رفض المساواة في الميراث من زاوية رؤية أكثر عمومية للعلاقات بين الفئات الإجتماعية، ففي المقابلة التي أجراها مع “لوبسرفاتور”، بين جولتي الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، قال إنه يفضل العدالة على المساواة. وبالنسبة لحالة الميراث الخاصة، يؤكد أنها عنصر من عناصر النظام الذي يحكم العلاقات بين الجنسين، وتغييرها -حسب قوله- سيضر بالجميع، اعتقادًا منه أن المساواة الشكلية ليست ضمانًا للعدالة، مستحضرًا فكر الفيلسوف الفرنسي جورج فيديل.
يصر سعيد على التمييز بين النساء البرجوازيات ونساء الشعب
وعندما وصل إلى السلطة، أوضح أفكاره، خاصة خلال الخطاب الرئاسي التقليدي في اليوم الوطني للمرأة، 13 أغسطس/ آب 2020. وفي أول ممارسة له، يستذكر سعيد معارضته للمساواة في الميراث، متذرعًا بكل من “وضوح” النص القرآني من حيث الميراث والجدلية بين المساواة والعدالة، كما أنه ينغمس في تمرين غالبًا ما يمارسه القيمون على المعرض: مطالب “برجوازية” بالمساواة مقابل العدالة الاجتماعية. وفي سنة 2021، لم يلق خطابًا في 13 أغسطس/ آب بل قابل حِرَفيَّات من حي شعبي في ضواحي العاصمة. وفي سنة 2022؛ عاد لمقابلة هؤلاء النساء بينما تولت زوجته ورئيس الحكومة، نجلاء بودن، إلقاء الخطاب الكلاسيكي. وبذلك؛ يصر سعيد على التمييز بين النساء البرجوازيات ونساء الشعب، ويزداد هذا الانقسام خطورة من حيث أنه لا يقترن بأي تساؤل حول السياسات الاقتصادية، فمنذ وصوله إلى السلطة وعلى الرغم من بعض الخطب ذات الدلالات الإجتماعية؛ لم يحاول قيس سعيد الانفصال عن المنطق النيوليبرالي الذي يضعف في المقام الأول النساء غير المستقرات اللائي يقعن ضحايا للسيطرة الأبوية والعنف الاقتصادي. ووفقًا لدراسة أجرتها منظمة الأغذية والزراعة سنة 2004؛ تمتلك المرأة الريفية 4 بالمئة فقط من الأراضي الزراعية (وزارة الزراعة والموارد المائية، 2006). وهذا ما يتوضح من خلال الضغوط الاجتماعية التي تجبر المرأة في كثير من الأحيان على التخلي حتى عن الجزء الإسلامي من الميراث.
وفي تحليل لخطابه في 13 آب/أغسطس 2020؛ وافقت الفيلسوفة والمتخصصة في النسوية الانفصالية، سمية مستيري، على نقد قيس سعيد لحركة نسوية الدولة التي قام بها بورقيبة، وتستذكر الأكاديمية حدود هذا النموذج، الذي يعتمد على حسن نية قائد مستعد لاستغلال المساواة الشكلية والإجرائية من أجل تجاوزها بشكل أفضل إذا لزم الأمر، وهو عنصر ذكّر به سعيد باستدعاء الطريقة التي تبرأ بها أول رئيس تونسي من حكمه، وذلك من خلال الزوجة التي أصبحت غير ملائمة سياسيًّا، لكن الباحثة ياسمين عكرمي ترى في تعيين نجلاء بودن رئيسة للحكومة -لأول مرة في العالم العربي- مظهرا من مظاهر نسوية الدولة القائمة على النساء كذريعة. في الواقع؛ بجعل بودن منفذًا بسيطًا لسياسته، بدون مجال للمناورة، يكون لسعيد رؤية أبوية!
ويمكن أيضًا ملاحظة النزعة المحافظة السعيدية في الرؤية العمودية لعلاقات القوة؛ فسعيِّد معلم مهني، لديه تصور خاص للعلاقة بين المعلم والطالب. وهكذا رأيناه في مناسبات عديدة يستخدم هذه الاستعارة لرفض الانتقادات الموجهة لسياسته، وكان هذا هو الحال بشكل خاص عندما هددت وكالة التصنيف بخفض التصنيف السيادي لتونس أو عندما انتقدت لجنة البندقية قانون الانتخابات. وكما يرى الكاتب صدري خياري أن اختيار المرشح سعيد لتعبير “حملة توضيحية” بدلاً من “حملة انتخابية” يشهد على نزعة عمودية وأبوية، وهو الأمر نفسه بالنسبة لتكوين المجالس المحلية والإقليمية المخطط لها في مشروع رئاسي.
وأخيرًا؛ توجد النزعة المحافظة أيضًا في طريقة التعامل مع المسألة الاقتصادية، فإذا كان سعيد غالبًا ما يستحضر العدالة الاجتماعية، فإن لديه توجهًا خيريًا تجاه الطبقات المحرومة. لذلك، فإن صاحب السيادة، الغاضب من ظروف الحرفيات في منطقة شعبية، من شأنه تحسين ظروف عملهن، وتجعل الصدقة من الممكن شجب الظلم دون مهاجمة أسبابه. وفي حين أن العديد من البلدان تفرض ضرائب على المنتفعين من الأزمات، فإن سعيد، الذي يتمتع بسلطات كاملة في الشؤون التشريعية، لم يفعل شيئًا لتحسين المساهمة في التضامن الوطني حتى ولو قليلاً. ويلاحظ عفيف داوود، المحلل المالي وعضو حزب التكتل، نفس سلوك سعيد مع حاشيته، فمن خلال توزيع المناصب على أتباعه على أساس تقديري؛ فإنه يضع نظام يانصيب يجعل الجميع يعتقدون أن لديهم إمكانية تولي منصب المسؤولية.
عندما يلتقي الخليفة بالشعبوية
تونس دولة واحدة ولا يوجد فيها سوى رئيس واحد في الداخل والخارج! صدرت هذه الجملة في 23 أيار/مايو 2020 بمناسبة تهنئة الرئاسة بعيد الفطر. في ذلك الوقت؛ نُظر إلى هذا التذكير على أنه رد على رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، الذي كان يستغل منصبه لخلق نوع من الرئاسة الثنائية، من خلال التدخل في الدبلوماسية الرسمية في الملف الليبي.
إن لممثلي الدولة المركزية (المعينين من قبل الرئيس) اليد العليا على الأشخاص الذين يريدون ويعرفون ما يريدون
لكن نطاق هذا التأكيد يتجاوز إطار صراع الشرعية؛إنه مفهوم للسلطة، فقيس سعيد يرى أن الرئيس التنفيذي شخصية قديرة، مسؤولة عن كل ما يحدث في منطقته. وفي مقابلته مع صحيفة “الشارع المغاربي” في حزيران/يونيو 2019، قال إنه اتخذ عمر بن الخطاب كرجل دولة نموذجي. وكثيرًا ما يتذكر سعيد اقتباسًا منسوبًا إلى الخليفة الثاني: “لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها”. ونجد هذه الاستعارة الخاصة بالفروسية في تحييد القوى المضادة بعد 25 تموزة/ يوليو 2021 وخاصة في دستور 2022.
وألغى القانون الأساسي الجديد معظم الحالات الدستورية. والوحيدة الذي نجت، هو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والتي أصبحت تعتمد بشكل عضوي على السلطة التنفيذية. وعارض سعيد، باسم وحدة الدولة، مرارًا وتكرارًا نقل السلطات التنفيذية إلى هيئات غير منتخبة؛ حيث إن العداء تجاه الهيئات الدستورية أمر شائع بين الشعبويين. وبعض الحجج المقدمة مقبولة؛ فمن الضروري بالفعل حل التوتر بين احترام السيادة الشعبية من خلال المؤسسات المنتخبة وصعود سلطة الهيئات غير المنتخبة، التي يفترض أن تحمي المصلحة المشتركة والحقوق الفردية واحترام الاتفاقيات الدولية. هذه كلها عناصر يمكن أن تمنح المواطنين شعوراً بالتسلّب الديمقراطي.
ويرد سعيد على هذه المعادلة بأخذ كل الصلاحيات؛ حيث إنه ممثل الشعب وبالتالي مستودع الإرادة الشعبية، أي أنه المرشد (الفوهرر) الذي يحمي القانون وإذا لم يمتثل القضاة لإرادته، فيجب أن يكون له الكلمة الأخيرة، وسنرى أنه حتى بالنسبة لأدوات الديمقراطية الشعبية، فإن لممثلي الدولة المركزية (المعينين من قبل الرئيس) اليد العليا على الأشخاص الذين يريدون ويعرفون ما يريدون. وتلخيصًا للمرسوم 117 و”الدولة الكلية” التي يتضمنها، فإن العالِم السياسي حاتم مراد لديه هذه الصيغة: “كل من لا يقع تحت سلطة الرئيس قيس سعيد بصفته الرئيسية، يبقى تحت اختصاص الرئيس بصفته الفرعية، ما يعني أن الانزلاق نحو الاستبداد أمر محتمل للغاية”.
وأخيرًا؛ يضيف مدرس القانون لمسة من النزعة القانونية إلى مفهوم القوة الكلية. في الواقع؛ يبدو الرئيس مقتنعًا بأن المعيار يمكن أن يحل كل شيء؛ حيث إن الإجابات الوحيدة التي يقدمها سعيد معيارية، فتم حل الأزمة السياسية عن طريق تغيير النظام، وتم تقديم المراسيم الثلاثة الصادرة في 20 آذار/مارس 2022 (مكافحة التهريب، والفئات المجتمعية والمصالحة الجنائية) كإجابات على الصعوبات الاقتصادية الهيكلية. والتضخم التشريعي والنصوص التي تصحح نفسها أحيانًا (القانون الانتخابي، النسختان من الدستور) كلها عناصر تميل إلى إظهار إيمان صاحب السيادة بفضيلة إصلاح القاعدة.
المصدر: أوريون 21