في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2020 توصل كل من السودان و”إسرائيل” إلى اتفاقية لتطبيع العلاقات بينهما في إطار تهافت بعض الحكومات العربية لتطبيع الأمور بينها وبين دولة الاحتلال، وبتوقيع السودان لهذه الاتفاقية أصبح خامس دولة عربية، بعد مصر والأردن والإمارات والبحرين، تطبع العلاقات مع دولة الاحتلال.
وأقرت الاتفاقية تسوية العلاقات بين البلدين وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بينهما، يأتي ذلك بعد عقود من اعتبار السودان لـ”إسرائيل” دولة عدوة.
سنتان على الاتفاق
وُقعت الاتفاقية في ذات الوقت الذي أعلنت فيه الإدارة الأمريكية حينها بقيادة الرئيس السابق دونالد ترامب عن سلسلة اتفاقيات بين دول عربية و”إسرائيل” تحت اسم “اتفاق أبراهام”، وبعد الاتفاق بين حكام الخرطوم الجدد وتل أبيب أعلن ترامب توقيعه مرسومًا برفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، ووصف بيان مشترك (أمريكي سوداني إسرائيلي)، اتفاق التطبيع بين السودان و”إسرائيل” بالتاريخي، واعتبره شهادة “على النهج الجريء لقادة الدول الأربعة”.
وعدا عن تطبيع العلاقات وإنهاء حالة العداء بين الطرفين ينص بيان الاتفاق على جملة من التعهدات والالتزامات والاتفاقات، منها بدء العلاقات الاقتصادية والتجارية، مع التركيز على الزراعة، إضافة إلى اجتماع الوفود للتفاوض بشأن اتفاقيات التعاون في مجال تكنولوجيا الزراعة والطيران وقضايا الهجرة، وغيرها من “المجالات لصالح الشعبين”.
كما أن الولايات المتحدة و”إسرائيل” اتفقتا على “الشراكة مع السودان في بدايته الجديدة، وضمان اندماجه بالكامل في المجتمع الدولي”، وتعهدت واشنطن بأنها ستتخذ خطوات لاستعادة الحصانة السيادية للسودان، وإشراك شركائها الدوليين لتقليل أعباء ديون السودان، كما التزمت أيضًا بدفع المناقشات بشأن الإعفاء من الديون بما يتفق مع مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون.
بعد سقوط حكم الرئيس عمر حسن البشير أراد الحكام الجدد للبلاد ممثلين بالعسكر الذين باتوا يسيطرون على مفاصل البلاد أن يوفروا موارد نقدية جديدة لإدارة الأزمة الاقتصادية المستمرة وتثبيت الوضع السياسي في البلاد لصالحهم، حيث يعاني عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي في البلاد من احتجاجات مستمرة نتيجة لاتجاهه مع محمد حمدان دقلو “حميدتي” للسيطرة على مفاصل الحكم والاستئثار بالسلطة.
التقى البرهان، برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو في أوغندا في فبراير/شباط 2020، وقال حينها إن اللقاء جاء “في إطار جهود السودان نحو تحقيق مصالحه القومية والأمنية”، مؤكدًا على “دور تل أبيب في دعم جهود السودان للخروج من قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب“، وبعد اللقاء بأسابيع، صار المجال الجوي السوداني مفتوحًا أمام الطائرات الإسرائيلية.
طالبت الحكومة السودانية حينها بحزمة دعم اقتصادي تشمل شحنات من النفط والقمح بقيمة 1.2 مليار دولار ومنحة فورية بقيمة ملياري دولار وتعهدات بمزيد من الدعم والمساعدات من الولايات المتحدة والإمارات على مدار ثلاثة أعوام، وفي ديسمبر/كانون الأول 2020، ألغت الولايات المتحدة رسميًا توصيف السودان باعتباره “دولة راعية للإرهاب”، وأُبرِمت صفقة التطبيع في 7 يناير/كانون الثاني 2021 في الخرطوم بتوقيع وزير العدل السوداني نصر الدين عبد الباري.
بعد ذلك قدمت الولايات المتحدة قرضًا قصير الأجل بقيمة مليار دولار أمريكي لسداد متأخراته لدى البنك الدولي، وبعد التوقيع بأيام وصل وزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين إلى الخرطوم على رأس وفد أمني لعقد لقاءات مع البرهان ومسؤولين عسكريين وأمنيين آخرين.
ماذا بعد التطبيع؟
ترك التطبيع مع السودان أثرًا كبيرًا لـ”إسرائيل” على المستوى الإستراتيجي والإقليمي في إفريقيا والشرق الأوسط، ويرى مراقبون أن الصراع الإستراتيجي يحتدم من أجل السيطرة والحصول على موطئ قدم بالبحر الأحمر، فالسيطرة على الجانب السوداني من البحر يحسن وضع ومكانة “إسرائيل” والولايات المتحدة الإقليمية والإستراتيجية، قبالة الصين وتركيا اللتين يرى بهما رئيس الموساد، يوسي كوهين، تهديدًا أمنيًا طويل المدى أكثر من إيران التي تعتبر ذات قوة إقليمية هشة يمكن احتواؤها.
إضافة إلى ما سبق، تعتبر تل أبيب أن هذا الاتفاق يمثل ضربة للاتفاق العربي الذي حصل في قمة الخرطوم عام 1967 وعرف بـ”قمة اللاءات الثلاث”، بمعنى لا سلام مع “إسرائيل” ولا اعتراف بها ولا مفاوضات، وبهذا تحولت الخرطوم من أحد أعمدة العداء لـ”إسرائيل” إلى شريك بالتحالف معها، ثم إن هذا الاتفاق كان ضربة لأعداء تل أبيب كحركة حماس وحزب الله الذين كان لهم إلى وقت قريب معسكرات تدريبية هناك وكان السودان بالنسبة لهم بل حتى وقت قريب ممرًا للسلاح القادم من إيران عبر السفن التي ترسو بميناء بورتسودان.
وتنظر “إسرائيل” إلى السودان على أنه بوابتها إلى إفريقيا، وتطمع الشركات الإسرائيلية بالتوغل بالسودان أكثر مع الأيام، من خلال الاستثمار في مجالات الطاقة المتجددة والصحة والطيران والزراعة في البلد الفقير، وتقوم الشركات اليهودية بتنفيذ هذه المشاريع من مبادرات وشركات قطاع التجارة والأعمال الخاصة.
يذكر أن شركة داشان لصناعة الأسمدة والكيماويات الزراعية أعلنت استعدادها لتمويل كامل واستثمار بنسبة 100%، لإنشاء مصنع للأسمدة بالخرطوم.
أما من ناحية الخرطوم، يبدو أن حكام السودان الجدد ضمنوا لأنفسهم من خلال تطبيعهم مع “إسرائيل” الحماية في وجه التقلبات السياسية التي تعصف بهم، كما تنظر الحكومة إلى هذه العلاقة أنها تساهم في إنقاذ الاقتصاد السوداني الذي ينهار أكثر فأكثر، وذلك عبر استطاعتها الحصول على قروضٍ جديدة، فالسودان مثقل بدين خارجي يبلغ نحو 59 مليار دولار أمريكي (أيّ أكثر من 190% من ناتجه المحلي الإجمالي في عام 2019) ومعدل تضخم يقدر بالمئات (نحو 400%).
لكن عبد الفتاح البرهان ما زال يحاول اللعب على جميع الحبال، فقد صرح أن التطبيع مع “إسرائيل” إنما هو “تطبيع أمني وليس دبلوماسيًا”، ووفقًا للبرهان فإن “المعلومات المتبادلة مع الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية مكنت السودان من ضبط بعض المجموعات الإرهابية التي كانت تسبب مشاكل بالسودان والإقليم”.
المشهد الداخلي ينعكس على التطبيع
منذ عام تقريبًا في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021 أعلن رئيس مجلس السيادة في السودان، الفريق عبد الفتاح البرهان، حل مجلسي السيادة والوزراء وحالة الطوارئ وتعليق العمل ببعض مواد الوثيقة الدستورية، وفي هذا الانقلاب، اعتقل الجيش، عددًا من المسؤولين المدنيين في الحكومة والمجلس الانتقالي من بينهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وزوجته.
هذه الإجراءات التي حركت انتفاضة شعبية جديدة في السودان، أثارت الريبة في تل أبيب، ما يمكن أن يصيب الاتفاقية الموقعة، وعلى الرغم من الصمت الرسمي، فإن المسؤولين في “إسرائيل” كانوا يخشون تطورات الأحداث بالسودان، إذ لا يستبعدون إمكانية أن تنعكس سلبًا على مسار التطبيع، وتذكر التقارير أن تل أبيب فضلت عدم الاندفاع نحو تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الخرطوم بسبب أزمة الحكم والحراك الشعبي وهيمنة العسكر وغياب الدور المدني في إدارة شؤون البلاد.
الموقف الأمريكي الرافض لانقلاب البرهان لم يؤثر على تل أبيب التي سارت بتوطيد علاقاتها مع البرهان، فقد كشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” زيارة وفد سوداني رفيع لـ”إسرائيل” في شهر مايو/أيار الماضي، لبحث فرص تعزيز العلاقات بين الجانبين، وقد نظم الزيارة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” وليس وزارة الخارجية كما هو متعارف عليه وفقًا للصحيفة.
ونقل موقع “يسرائيل هيوم” أن وزارة الخارجية الأمريكية “أبلغت إسرائيل برفضها تدشين علاقات بينها وبين نظام الحكم العسكري في الخرطوم، والامتناع عن تعزيز العلاقات معه بسبب معارضة واشنطن لحكم العسكر”، وقال مسؤول في الخارجية الأمريكية: “نحثّ “إسرائيل” على الانضمام إلينا وإلى المجتمع الدولي، والضغط على القادة العسكريين في السودان، للتخلّي عن السلطة لصالح حكومة انتقالية مدنية”، وأضاف المسؤول “الولايات المتحدة لن تستأنف تقديم مساعدتها المؤجلة للحكومة السودانية حتى عودة السلطة إلى حكومة مدنية”.
وكشفت الصحيفة أن وزير الاستخبارات الإسرائيلي السابق إيلي كوهين، التقى السفير الأمريكي في “إسرائيل” توم نايدز، وحثه على الموافقة على تدشين علاقات تطبيع بين “إسرائيل” والسودان، مشيرة إلى أنّ كوهين شدد على “أهمية السودان وموقعه الإستراتيجي”، وبحسب الصحيفة فقد “طالب كوهين الولايات المتحدة بعدم الربط بين اتفاق التطبيع مع “إسرائيل” والموقف الأمريكي من الانقلاب العسكري في السودان”.
إلى ذلك دخلت “إسرائيل” على خط الأزمة السودانية، فقد أشارت هيئة البث الإسرائيلية إلى طلب أمريكي تقدمت به ممثلة واشنطن لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، من تل أبيب التدخل في أزمة السودان من أجل العودة للمرحلة الانتقالية بقيادة مدنية.
وبحسب الهيئة فإن الممثلة الأممية الأمريكية دعت الدولة العبرية لأداء هذا الدور، خلال لقاء جمعها أول أمس الثلاثاء مع وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، وهو الطلب الأمريكي الثاني في هذا الشأن بعد الرسالة السابقة التي نقلها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، لمسؤولين إسرائيليين خلال محادثات جمعتهما مؤخرًا، الطلب الأمريكي المكرر للحكومة العبرية للتوسط لدى جنرالات السودان لإعادة المسار الديمقراطي وفق وثيقة 2019.
بالمحصلة فإن العلاقات بين الطرفين لم تتقدم كما يريدان، خاصة أن الأمور الداخلية في كلا البلدين متوترة، وذلك في ظل اقتراب الانتخابات الإسرائيلية المبكرة التي أعقبت توترًا واضحًا في المشهد الإسرائيلي انعكس على الكثير من القضايا في الداخل والخارج، أضف إلى ذلك أن السودان يعيش توترات منذ الانقلاب الذي أجراه عبد الفتاح البرهان على الحكومة المدنية ومنذ ذلك الحين ينزل السودانيون إلى الشوارع كل أسبوع للاحتجاج على الانقلاب، رغم قمع قوات الأمن الذي أسفر عن سقوط قرابة 120 قتيلًا.