رغم احتفاء الحكومة العراقية بقرار إخراج البلد من القائمة السوداء لغسيل الأموال، إلا أن ذلك لم يكن سوى الجزء الصغير جدًّا من الصورة التي تريد الحكومة إظهارها، فشبهات الفساد التي تطال القطاع المالي العراقي الرسمي كثيرة جدًّا، وكبّدت البلاد الكثير، فضلًا عن بقاء القطاع المصرفي بعيدًا عن مواكبة التطورات التكنولوجية وتسهيل الخدمات للمواطنين الذين يتداول أكثرهم المال نقدًا، بكل ما يفضي إليه ذلك من تبعات.
سرقات القرن
لم تكن فضيحة سرقة 2.5 مليار دولار من أموال الضرائب -من مصرف الرافدين- أول عملية فساد من نوعها، إذ جاءت ضمن سلسلة طويلة من سرقات طالت القطاع المصرفي، الذي يفترض به أن يكون ضامنًا لأموال الشعب من خلال سياقات التعامل الإلكتروني الحكومي الرصين، حيث قامت 5 شركات بسحب الأموال من البنك سحبًا مباشرًا دفعة واحدة بحسب هيئة الضرائب، وهي سابقة لا يمكنها أن تحدث في أي بنك في العالم.. على الأقل بهذه السهولة.
البنك نفسه دفع في أغسطس/ آب الماضي 600 مليون دولار لإحدى الشركات بموجب قرار قضائي، بعد قيام المصرف بفسخ عقد مع الشركة، رغم وجود شرط جزائي بدفع المبلغ من قبل أي طرف يخلّ بشروط العقد، ما أثار شكوكًا وتساؤلات عن مبررات إقدام المصرف على هذه الخطوة، وتحميل نفسه التبعات القانونية والمالية.
يظهر هذان المثالان ضعفًا كبيرًا في الرقابة المالية على المصارف، وطريقة عملها وأنشطتها التجارية، فإذا كان هذا حال المصارف الحكومية تحت الأضواء، فكيف يكون حال المصارف الأهلية؟
تلعب إيران دورًا كبيرًا في التحكم بالمصارف غير الحكومية، حيث تتحدث تقارير عن تراجع كبير في حصة العراقيين من القطاع المالي العراقي، وباتت إيران تمتلك نحو 11 مصرفًا يعمل في العراق بشكل مستقل، كما اشترت مصارف إيرانية حصة 6 مصارف عراقية أخرى، وبلغ إجمالي الأموال الخاصة بالإيرانيين في تلك المصارف أكثر من 70 مليار دولار، الأمر الذي يعكس هيمنة إيرانية شبه مطلقة على الاقتصاد العراقي، وحمل الكثير من هذه المصارف واجهات عراقية، لكنها بقيت تهرّب الأموال من العراق إلى إيران خلال العقوبات الاقتصادية الأمريكية على طهران.
عام 2019 ظهرت للعلن تفاصيل مثيرة عن عملية تهريب مالي وغسيل أموال تورّط بها مصرف حكومي لحساب مصرف أهلي يمتلكه سياسي عراقي، وصلت قيمتها إلى 1.8 مليار دولار، وقال الصحفي إن وكالته قد تحدثت عن تحويلات مالية مريبة مصدرها مصرف حكومي لحساب مصرف أهلي معروف بصلته بأحد السياسيين العراقيين.
في تحقيق أجرته قناة “العربية” قالت إن شخصيات نافذة عراقية “متورطة” تسخّر النظام المالي العراقي بضغط من الفصائل المسلحة في البلاد، لتوفير العملة الصعبة لإيران بطرق ملتوية متحايلة على العقوبات الأميركية عقب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وفي مقدمة هذه الأساليب إغراق السوق العراقية بالدينار المزوّر لشراء الدولار، وذلك بغطاء من محافظ المركزي العراقي علي العلاق، أحد أكثر المقرّبين من رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، الذي أصرَّ شخصيًّا على تعيينه محافظًا للبنك المركزي رغم الاعتراضات عليه.
تهرَّب هذه الأموال المزوّرة عبر المنافذ الحدودية دون مرورها بمراكز التفتيش، وتدخل إلى العراق بحوزة المسافرين الإيرانيين خلال زيارتهم للأماكن المقدسة في كربلاء والنجف.
يقول تحقيق آخر إن هناك عدة شركات متورّطة بعمليات غسل الأموال بهدف الحصول على العملة الصعبة، من أبرزها شركة تدعى “بهجت الكوثر للبناء والتجارة المحدودة” ومقرّها العراق، المعروفة أيضًا باسم شركة Kosar، وبهذه الأموال تُشحن الأسلحة والذخيرة إلى الميليشيات العراقية الموالية لإيران التي تمتلك مقرّات في بغداد، إلى أن كشفت الخزانة الأمريكية الأمر ووضعت شركة الكوثر على اللائحة السوداء بالولايات المتحدة، حيث تستخدم الشركة بنكًا إيرانيًّا له فرع في العراق يدعى بنك ملي، تُنقل من خلاله الأموال إلى بنوك إيرانية في طهران، وكل ذلك مرصود من قبل موظفي البنك المركزي العراقي.
يقول أحد المسؤولين في البنك المركزي: “يظهر في قوائمنا نشاطات مالية كبيرة باسم شخصية تدعى المهندس مرتضى، وهو مسؤول عن الشؤون المالية في شركة “الخمائل للملاحة البحرية”، وبصفته ممثلًا للشركة عمل على تسهيل دخول الشحنات الإيرانية إلى الموانئ العراقية لحساب الحرس الثوري الإيراني وبيع النفط الإيراني بالدولار، كما يشارك في الأنشطة المالية والاقتصادية للحرس الثوري الإيراني بين إيران والعراق وسوريا، ومن ضمن ذلك أنشطة تهريب العملة الصعبة لصالح بنوك إيرانية”.
لعبت البنوك الإيرانية دورًا آخر في استنزاف الدولار من السوق العراقي، إذ استصدر البنك المركزي الإيراني التراخيص القانونية من البنك المركزي العراقي لافتتاح 7 فروع لبنوك إيرانية، حيث أنشئ فرعان منها برأسمال 50 مليون دولار لكل واحد، وقد كانت نسبة الفائدة المترتبة على كل مبلغ يودع بالدولار كفيلة بتحويل المليارات من الدنانير العراقية إلى العملة الصعبة ووضعها في خزينة البنوك الإيرانية.
عرضت تلك البنوك نسبة فوائد كبيرة جدًّا تتجاوز الـ 22% للزبائن، وهكذا سارع كبار التجار العراقيين، مدفوعين بقبول حجم الفائدة المترتبة على المبالغ المودعة في المصارف الإيرانية، وأبرزها مصرف ملي، كما قام كثير من العراقيين بإيداع أموالهم في تلك المصارف مقابل الحصول على فائدة مالية مع ضمانات باسترجاع المبلغ المودع بعد الاتفاق على عقد سنوي بين الطرفَين، وكان من أبرزها مصرف بارسيان، وبنك إيران، وملي إيران، إلى جانب 6 مصارف أخرى مشتركة مع رجال أعمال عراقيين غالبيتهم يرتبطون بعلاقات مع سياسيين وزعماء أحزاب عراقية، فضلًا عن أكثر من 70 مكتبًا وشركة للتحويل المالي بين البلدَين.
مزاد العملة
رغم أن مزاد العملات الأجنبية، الذي تمَّ تطبيقه بشكل خاص عام 2004 من قبل البنك المركزي العراقي، يعدّ من الأدوات المهمة للسياسة النقدية المنسوبة إلى تحقيق الاستقرار النقدي في الاقتصاد العراقي، إلا أنه مثّل شكلًا جديدًا من أشكال الفساد الاقتصادي المرتبط بغسيل الأموال.
أصبح مزاد العملة وسيلة لتهريب الأموال وإهدار مليارات الدولارات خلال فترة 2004-2018، ويعتبَر استخدام مزاد العملات في العديد من دول العالم حالة استثنائية للغاية، بما في ذلك خلق توازن واستقرار للعملة، وأخطر ما في هذه الآلية هو البيع النقدي للدولار الذي وصل سنويًّا إلى 15 مليار دولار، وهو رقم كبير جدًّا مقارنة بواردات العراق اليومية من النفط التي لا تساوي حجم مزاد العملة، ونتيجة لذلك لجأ البنك المركزي إلى سحب الأموال من الاحتياطي النقدي للعملة بدلًا من تعزيزها، وخفض الاحتياطي من 71 مليار دولار إلى أقل من 50 مليار دولار.
تتمحور الفكرة الأساسية حول مزاد العملة المتعلّق بـ”بيع” الدولار إلى المصارف وشركات تحويل الأموال لإدارة عملية استيراد البضائع، وتصل “مبيعاته” من الدولار يوميًّا إلى نحو 180 مليون دولار، لكن شبهات عدة تطال شخصيات سياسية نافذة تقف وراء تلك المصارف لإدارة عمليات فساد، حيث أدرجت وزارة الخزانة الأميركية مصارف عراقية تتعامل مع المزاد على لائحة العقوبات في أكثر من مناسبة.
ويقدِّر خبراء الفارقَ بين حجم الحوالات إلى الخارج وقيمة البضائع الداخلة بـ 30 مليار دولار، كما يصف متخصصون بالاقتصاد مزاد العملة بأنه واجهة لاستنزاف للدولار، وفرصة لبعض المصارف التي تمتلكها جهات نافذة لتحقيق أرباح كبيرة، ويقوم المزاد ببيع كميات كبيرة من الدولارات يوميًّا تفوق حاجة الاقتصاد العراقي، ولا يعود منها كبضائع إلا بنسب لا تتجاوز الـ 40% أو 50% في أفضل الأحوال، والباقي يهرَّب إلى دول الجوار ولا سيما إيران.
تقول بيانات البنك مثلًا إن المركزي العراقي باع 44 مليار دولار للأسواق العراقية عام 2019، بينما تقول الأرقام إن كمية الاستيراد لم تتجاوز 18 مليار دولار، ما أدّى إلى تصاعد الدعوات من البرلمان لوقف نزيف العملة الصعبة وخروجها لدول الجوار.
بطاقة الـ”كي كارد”
تعدّ بطاقة الـ”كي كارد” الوسيلة التي يتلقّى بها المتقاعدون رواتبهم التقاعدية بطريقة إلكترونية منعًا للفساد، وتمَّ استحداث هذه البطاقة في زمن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي لضبط المعاملات المالية، لكن أحد نواب البرلمان تحدّث عن عمليات فساد كبيرة تجري وفق هذه البطاقة، حيث تتحصل مجموعة من السياسيين على عمولة بقيمة 2 دولار من كل بطاقة يجري استخدامها.
تقول مصادر محلية إن شبكة تضم 3 من السياسيين البارزين يتولون جني الأرباح عن طريق شركة مشتركة لهم، وكان العائق الرئيسي في هذه العملية طريقة دفع الرواتب التقاعدية بمنحها كل شهرَين، لكن وفق النظام الجديد يتمّ الآن منحها شهريًّا لزيادة الأرباح، وتتحصل الشبكة على ما يقارب 20 مليون دولار شهريًّا من هذا النظام.
بالطبع، أدّت التحقيقات في النهاية إلى القبض على مجموعة من المتورطين في العملية، وكما هو معتاد في العراق، لم تطل التهم أيًّا من السياسيين الواقفين وراء عمليات الفساد.
عام 2020 أصدر البنك المركزي العراقي، يوم الأربعاء، قرارًا بالحجز على أموال مسؤولين في شركات بارزة للدفع الإلكتروني متهمين بالفساد، وذلك بعد يوم من قرار مماثل طاول المدير العام لدائرة التقاعد، أحمد الساعدي، المعتقل حاليًّا على ذمّة التحقيق.
ويشمل قرار البنك المركزي أقارب المتهمين من الدرجة الأولى من أبناء وزوجات وأشقاء، وذلك بعد أقل من شهرَين على إقدام السلطات العراقية على اعتقال عدد من مسؤولي شركات المتهمين بالفساد، بأوامر من هيئة النزاهة.
تظهر وثيقة مصدّقة من البنك المركزي قرار حجز الأموال المنقولة وغير المنقولة لشركة “كي كارد”، ومديرها بهاء عبد الحسين عبد الهادي و3 من أشقائه، وتظهر أيضًا قرارًا مماثلًا بحق شركة “إنجاز” لتكنولوجيا المعلومات ومديرها عمار عبد الجبار فتاح الجاف وأولاده وزوجاته، وكذلك شركة “المنظومة العراقية” للدفع الإلكتروني، فضلًا عن حجز الأموال المنقولة لرجل الأعمال سامر عبد المطلب السكوتي وأولاده وزوجاته ضمن القضية نفسها.
انعكس الفساد في النظام المالي العراقي سلبًا على قوة الاقتصاد وقدرته على جلب الاستثمارات، ودفعَ العراق ضريبة هذا الفساد خلال الجائحة حين وجدت الحكومة نفسها عاجزة عن دفع الهيكل البيروقراطي الكبير الذي تدفع رواتبه عقب انخفاض أسعار النفط، بينما كان التدهور الأكبر في معيشة المواطنين الذين تفاجأوا برفع الحكومة لقيمة العملة المحلية، ما أدّى إلى جنوح 40% من السكان إلى ما دون خط الفقر بحسب إحصائية للأمم المتحدة.