المغاربة من أكثر شعوب العرب والمسلمين ولعًا بالتراث والمخطوطات، فموقعهم الجغرافي كحلقة وصل بين المشرق والمغرب كان كفيلًا بأن يحول بلدانهم إلى حلقة ارتكاز وقبلة التقاء للباحثين والعلماء، ما ساهم في إنعاش تلك البلدان بنفائس المخطوطات وأمهات الكتب ودرر المجلدات.
وتعد بلدان المغرب العربي من أوائل الأمصار التي أوفدت بعثات للخارج للحصول على المخطوطات ونسخها والاستفادة منها، فنقلوا من الأندلس وحضارتها ثم أضافوا إليها تنقيحًا وتحقيقًا، حتى تحولت مكتباتهم إلى جامعات يقصدها الباحثون من كل حدب وصوب، ما أدى في النهاية إلى امتلاكهم تلك النخبة النفيسة من المخطوطات التي تميزهم عن غيرهم.
ومما يميز خزائن المعرفة في المغرب أن معظمها كان يتم برعاية الحكام والحكومات الذين أولوا التراث أهمية كبيرة، إما إيمانًا بمكانتها وقيمتها الحضارية كونها شاهدة على إسهاماتهم في الحضارة الإنسانية، وإما بحثًا عن مجد شخصي ينسب لهم لاحقًا في ضوء التنافس الشديد بين حكام المسلمين، حيث كان الاهتمام بالتراث والعلوم أحد مناقب التمجيد التي يبحث عنها السلاطين والأمراء والخلفاء.
تراث نفيس
يشير الباحث التراثي يوسف أزهار، الباحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث بالمغرب، إلى أن العلماء المغاربة المهتمين بالتراث رغم قلتهم، كانوا عظامًا فيما أنجزوه وقدموه لهذا العلم المهم، حيث برعوا في جمع المخطوطات النادرة من أوروبا وإفريقيا وكرسوا لذلك عشرات السنين من أعمارهم لأجل أن ينعشوا خزائن المعرفة بالمغرب ويجعلوها قبلة للباحثين والتراثيين والمؤرخين.
وأوضح أزهار في ورقة بحثية له أن من بين العلماء الذين حفروا أسماءهم بماء الذهب في هذا المجال، العلامة محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني (المتوفى عام 1382هـ)، وهو صاحب كتاب “تاريخ المكتبات الإسلامية ومن ألف في الكتب”، كذلك العلامة محمد المختار بن علي السوسي (المتوفى عام 1383هـ)، مؤلف كتاب “سوس العالمة” تحدث فيه عن الخزائن الخاصة السوسية، ثم العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني (المتوفى عام 1420هـ).
كان يميل المغاربة إلى إطلاق مسميات على دور المعرفة والتراث غير كلمة “المكتبة” فكانوا يسمونها “بيت الحكمة” أو “دار الكتب” أو “دار الحكمة” أو “دار العلم” أو “خزانة الكتب”، لما يؤمنون به من أهمية العلم كونه مرادف الحكمة التي ترتقي بالإنسانية وتصبغ الحضارة بالسمو والرقي، كما أنها كانت إحدى العلامات الظاهرة على تقدم الأمم ونهضة الشعوب.
وقد نشأت خزانات المعرفة ببلاد المغرب بداية الأمر في صورة رفوف توضع عليها المصاحف الشريفة بالمساجد، وهي التي بنيت إبان الفتح الإسلامي، ومع بناء جامع القرويين عام 858م، كثر أعداد المصلين وقراء القرآن والباحثين والطلاب الراغبين في التعلم والدراسة، ورافق ذلك كثرة في أعداد العلماء والأئمة، الأمر الذي ما عاد يتلاءم مع الرفوف التقليدية، فكان التفكير في تخصيص جزء من المساجد كمكان لوضع الكتب وحفظها من التلف، وكان ذلك نواة الخزانة العلمية الأولى في البلاد.
انتقلت محتويات معظم الخزائن الخاصة إلى الخزانة الوطنية الملكية لسهولة حمايتها من التلف، فهي تحت الرعاية الرسمية ستكون في مأمن أكثر مما هي عليه تحت ملكية الأشخاص
ويقسم الباحثون خزانات المعرفة في بلاد المغرب إلى 3 أصناف: الأولى الخزائن الملكية المنسوبة للملوك والسلاطين، حيث كانت لهم خزائن خاصة بهم يضعون بها مؤلفاتهم أو تلك التي يحصلون عليها في فتوحاتهم أو المهداة إليهم، أما الثانية فهي الخزائن العامة التي تدشنها الدولة وتكون تحت إدارتها.
أما النوع الثالث وهو الأكثر شيوعًا فهي الخزائن الخاصة وهي خزائن الأمراء والوزراء والعلماء والأعيان، وهي التي تم جمعها عن طريق الشراء أو النسخ أو الإهداء، وهي الأعم في البلاد التي تنتشر في أرجاء المغرب كافة، وتعتبر المؤشر الأكثر مصداقية على حجم الاهتمام المغربي بالتراث حيث ينظر إليها على أنها عنوان الدولة وذاكرتها التي لا تنسى.
وبعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي منتصف ستينيات القرن الماضي، أبدى الملك الحسن الثاني اهتمامًا كبيرًا بالثقافة وخزائن الكتب والمعرفة، لا سيما التراث والمخطوطات، إحياءً للشعور القومي والوطني للبلاد استنادًا إلى تاريخهم وحضارتهم العريقة، خاصة بعد سرقة الفرنسيين لكثير من التراث المغربي إبان فترة الاحتلال.
وعلى مدار العقود الخمس الماضية، بذل المغرب جهودًا كبيرة للحفاظ على التراث والمخطوطات من خلال دعم الخزائن والمكتبات بأحدث الوسائل التقنية وتزويدها بمصادر الحماية، وتم التعامل معها كثروة قومية يجب الحفاظ عليها، سواء من الحكومة أم الشعب.
ومع الوقت انتقلت محتويات معظم الخزائن الخاصة إلى الخزانة الوطنية الملكية لسهولة حمايتها من التلف، فهي تحت الرعاية الرسمية ستكون في مأمن أكثر مما هي عليه تحت ملكية الأشخاص التي ربما لا يعرف بعضهم قيمة ما يمتلكون، وهو ما يجعل تراث الأمة عرضة للضياع في أي وقت.
الخزانة الملكية.. مركز الإشعاع الذي لا ينطفئ
تعد الخزانة الملكية أو كما تسمى “الخزانة الحسينية” بالرباط واحدة من أقدم خزائن المعرفة في التاريخ الإسلامي، فقد بدأت إرهاصاتها الأولى في القرن الثالث الهجري بين عامي 292-305هـ إبان حكم الإمام الإدريسي الذي حكم المغرب في ذلك الوقت، ثم تطورت بعد ذلك وصولًا إلى شكلها الحاليّ بعدما باتت علمًا من أعلام المملكة.
تحتضن الخزانة أكثر من 14 ألف مجلد مخطوط لديهم 30 ألف عنوان و40 ألف مطبوع، بجانب 150 ألف وثيقة تاريخية من التراث النفيس في مختلف العلوم والمعارف وبشتى اللغات، وهو ما جعلها قبلة الباحثين داخل المغرب العربي وخارجه، خاصة أن كل المخطوطات التي تقتنيها الخزانة ذات موثوقية عالية ومن الوثائق الأصلية.
منذ القرن الثالث والرابع عشر أصبحت الخزانة الملكية بالرباط تميل نسبيًا إلى التخصص في المحتوى، وذلك حسب هوى وفكر الحاكم أو الخليفة
وصلت الخزانة الحسينية ذروة توهجها في القرن الثامن الهجري، حين تحولت بلاد المغرب إلى قبلة لعلماء الأندلس ممن اتخذوا شمال إفريقيا مأوى لهم بعد هجرتهم من بلادهم، ففتح المغاربة لهم منازلهم ومساجدهم ومدارسهم وخزائنهم من أجل الاستفادة من علومهم وكنوزهم التراثية.
ومن العوامل التي أحدثت الفارق في إنعاش الخزانة حالة الاستقرار التي ظلت عليها البلاد لسنوات طويلة، وهو ما وقاها من مخاطر الإضرار والتلف بالمخطوطات كما هو حال العديد من عواصم الثقافة الإسلامية كبغداد ودمشق والقاهرة، ما شجع علماء مكة والمدينة وتركيا والشام للانتقال إلى المدن المغربية للاستقرار فيها والعمل بها ضمانًا لتراثهم من الفتك والهلاك.
ومما زاد من قيمة الخزانة الملكية تباري الأمراء والسلاطين وعلية القوم والنخبة في تجميع المخطوطات والظفر بنفيسها، إذ كان ذلك من بواعث الفخر بينهم، وهو ما أدى في النهاية إلى تجميع العديد من المخطوطات النادرة من مكتبات العالم الإسلامي ليحتضنها المغرب الذي أولاها أهمية ورعاية كبيرة.
ويشير الباحثون إلى أنه منذ القرن الثالث والرابع عشر أصبحت الخزانة الملكية بالرباط تميل نسبيًا إلى التخصص في المحتوى، وذلك حسب هوى وفكر الحاكم أو الخليفة، فهناك بعض الخلفاء كانوا يميلون إلى الفن، وهنا تزخر الخزانة بمخطوطات الفن والثقافة وكان المقربون من الخليفة ينتافسون للحصول على مثل تلك المخطوطات للتقرب والتودد له، وهكذا الحال مع مخطوطات العلوم والفلسفة وغيرها.
وتحمل شهادات المؤرخين اعترافًا بقيمة الخزانة الملكية في المغرب، واحتوائها على نفائس المخطوطات وأندرها، كما أشار الرحالة علي باي العباسي في كتاباته التي وثق من خلالها رحلاته إلى آسيا وإفريقيا أنه حين أراد العثور على ترجمة عشريات المؤرخ اللاتيني تيطوس ليفيوس (Titelive) ذهب إلى المغرب، يقينًا منه أن ما يبحث عنه سيكون هناك، وكذلك المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال الذي بعد فشله في العثور على تلك العشريات بعد سنوات قضاها في البحث أضطر للذهاب إلى المغرب لإيجاد نسخة منها.
دار الكتب الوطنية التونسية
ومن قلب الرباط إلى غرب العاصمة التونسية الخضراء، وبالتحديد في 9 شارع أبريل، حيث تسكن دار الكتب الوطنية التابعة لوزارة الثقافة التونسية، التي يعود تاريخ إنشائها إلى عهد علي باشا الثالث (حكم تونس بين 1882-1902م) الذي أمر بإنشائها بمقتضى المرسوم الصادر في 8 مارس/آذار 1885، وكانت تسمى حينها المكتبة الفرنسية ثم تغيرت إلى دار الكتب الوطنية.
كان نقل المكتبة إلى سوق العطارين بالمدينة العتيقة عام 1910 نقطة انطلاقها الحقيقية، فهي على بعد أمتار قليلة من جامع الزيتونة، وكان يطلق عليها في بعض الأوقات “مكتبة العطارين”، وكان هذا الاختيار لاعتبارت ثقافية بحتة، كونها تقع على محاذاة جامع الزيتونة العريق، واحد من أقدم وأشهر المساجد في بلاد الإسلام كلّها، تأسس عام 116هـ على يد عبيد اللّه بن الحبحاب.
الزائر للدار اليوم يجدها كواسطة العقد التي تزين عنق تونس، فهي تقع في قلب كيان حيوي يشع بالعلم والثقافة، إذ يحيط بها الأرشيف الوطني التونسي والمعهد العالي لعلوم الإنسانية وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس ومتحف التربية وجامعة الزيتونة، وهو ما منحها زخمًا ثقافيًا وجاذبيةً تراثيةً لكل من يقترب منها.
وتُعتبر تلك الدار بما تحتويه من مخطوطات تراثية نقطة التقاء ثقافية تجمع العديد من الحضارات التي تعاقبت على تونس، أبرزها الفينيقيين والأمازيع، مرورًا بالقرطاجيين والرومان، وصولًا إلى الفتح الإسلامي وتأسيس مدينة قيروان التاريخية عام 50هـ التي كانت أول مدينة إسلامية في الشمال الإفريقي.
تحتوي الدار على 40 ألف عنوان من المخطوطات من إجمالي أكثر من مليون عنوان في شتى المجالات، وثائق ومخطوطات ومجلدات، أصلية ومصورة
وفي 7 سبتمبر/أيلول 1967 صدر أمر رئاسي بجمع كل المخطوطات العربية والإسلامية من جميع المكتبات والزوايا التونسية ونقلها إلى دار الكتب الوطنية، التي تحولت فيما بعد إلى منارة الثقافة والتراث في البلاد، ومقصد الباحثين والمهتمين بالاطلاع على حضارة تونس وتاريخها الموثق على مجلدات ومخطوطات أصلية.
لم تأخذ الدار وقتًا طويلًا لتكون بتلك القيمة الكبيرة، إذ أولى التونسيون، حكومات وشعوب، أهمية فائقة للخزانة المعرفية الشهيرة كونها عنوانًا كبيرًا لبلادهم وجهة التوثيق الأكثر مصداقية على إسهاماتهم الجليلة في الحضارة الإنسانية في ظل المنافسة الكبيرة بين تونس وجيرانها في هذا الشأن.
ومع صدور قانون الإعلام الجديد في البلاد عام 1975 أصبحت الدار الوجهة الأساسية للإيداع القانوني الخاص بالإنتاج الفكري الوطني المعلن عنه دوريًا في نشرتها السنوية “البيبليوغرافيا الوطنية التونسية”، وأسند إليها مهمة إسناد الترقيم الدولي الموحد للدوريات وذلك عام 1976 وللكتب عام 1988 وبذلك دخل الكتاب التونسي حركة النشر العالمي.
تتنوع المخطوطات التي تحتضنها الدار ما بين علمية وأدبية وتاريخية وفلسفية، وبلغات شتى أبرزها العربية واللاتينية والفارسية والتركية والأمازيغية، كما أن جزءًا كبيرًا مما تحتضنه من مجلدات يعود تاريخ طباعة بعضها إلى نهايات القرن السادس عشر ميلادي أي مع بداية ظهور الطباعة، بجانب احتفاظها بمجموعات مهمة ونادرة من الدوريات التونسية.
وتذهب التقديرات إلى أن الدار تحتوي على 40 ألف عنوان من المخطوطات من إجمالي أكثر من مليون عنوان في شتى المجالات، وثائق ومخطوطات ومجلدات، أصلية ومصورة، وساعد على بلوغ هذا الرقم القوانين التي سنتها البلاد التي تسمح بإيداع الكتب والمخطوطات والوثائق بالدار للحفاظ عليها وحمايتها.
أزمة تحقيق التراث
رغم ما تزخر به خزائن المغرب العربي المعرفية من مخطوطات ذات قيمة عالية ووثائق نادرة ونفيسة، حولتها إلى قبلة للباحثين والمهتمين، فإن هناك بعض التحفظات على تحقيق تلك المخطوطات من الباحثين، التي يشوبها بعض الأخطاء كما ذهب مدير الخزانة الحسنية بالرباط، أحمد شوقي بنبين، الذي قال إن المخطوطات التي تم تحقيقها في المغرب ينبغي أن يعاد فيها النظر من جديد، وأن يعاد تحقيقها من لدن علماء مؤهلين.
وأوضح أن “الكتب التي حققت ونال بها أصحابها جوائز كلها الآن يعاد تحقيقها من مجموعة أخرى من العلماء”، معتبرًا أن تكليف طلبة غير مؤهلين بإنجاز تحقيقات علمية وتراثية وليس لهم تكوين علمي، أحد أبرز الأزمات التي تواجه التراث المغربي وتتطلب التدخل العاجل حفاظًا على تلك الثروة الهائلة.
وفجر مدير الخزانة الحسينية وهو صاحب تاريخ كبير في مجال التراث مفاجأة من العيار الثقيل حين أشار إلى أن معاناة التراث العربي الذي يعد أضخم وأغزر تراث مخطوط في العالم، تتمثل في أن العرب لا يعرفون عنه شيئًا وليس لديهم إحصاء دقيق له، على غرار الأمم الأخرى، وتابع “اللاتين أحصوا 500 ألف مخطوطة في مختلف خزائن العالم، وكذلك فعل العبريون والأوروبيون، حيث أحصوا 50 ألف مخطوطة يونانية، أما نحن، فلا نعرف شيئًا عن تراثنا.. هناك من يقول ثلاثة ملايين مخطوطة، وهناك من يقول خمسة ملايين، وهناك من يقول سبعة”.
وقدم الخبير التراثي نصائح عاجلة للنهوض بصناعة المخطوطات في بلاد المغرب العربي حفاظًا على الكنز الذي تحت أيديهم، أبرزها تكوين الباحثين الأكفاء أو ما أسماه “الرجل التراثي” المؤهل لممارسة تلك الأمانة العلمية على حد قوله، مضيفًا “المشكل هو أننا في الجامعات العربية لا نكون الرجل التراثي. لدينا مؤرخون وفقهاء وبلاغيون وأدباء، لكن ليس لدينا تراثيون”، وتابع “نحن العرب لا علاقة لنا بالتحقيق، وعلينا أن نقارن بين تحقيقات المستشرقين ونظرائهم العرب، دون الجنوح نحو مناقشة هل هم يعادون الإسلام وما إلى ذلك، لأن ما يهم هو جودة التحقيق”.
وهكذا ظلت بلاد المغرب منارة تراث وعلم لا يضام روادها، وتبقى خزائن المعرفة بها مقصدًا لا يغلق أبدًا أمام كل الباحثين والمهتمين بالشأن التراثي، داخل المغرب وخارجه، لتبقى تلك البقعة – كما كانت – نقطة إشعاع حضاري ينثر أضواء الرقي الإنساني في شتى ربوع الأرض.