غزة: “قرار الرحيل أصعب من البقاء أحيانًا”

230122_GAZA_APA_00-6-1024x683

ترجمة وتحرير: نون بوست

ارتبطت كلمة “البقاء على قيد الحياة” بنا نحن الفلسطينيين الذين نعيش في قطاع غزة المحاصر؛ ففي السنوات الثلاث عشرة الماضية وحدها، نجونا من خمسة اعتداءات إسرائيلية كبرى وهجمات أخرى ضيقة النطاق.

وبعد الهجوم الإسرائيلي الأخير، الذي انتهى في 7 آب/ أغسطس 2022 حوالي منتصف الليل، نشر العديد من الناس على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي: “صباح الخير يا عالم. نحن على قيد الحياة. هذه انطلاقة جديدة للحياة لتحقيق أحلامنا”.

على الرغم من أن البقاء على قيد الحياة على المستوى المادي نعمة، إلا أنه لا يعني أننا بخير على المستوى المعنوي؛ حيث تعتبر الهجمات الكثيفة العسكرية التي كان علينا تحمّلها والعيش في ظل حصار محكم، من الضرائب النفسية التي كان علينا دفعها، ونادرًا ما يمتلك الناس السبل المادية للبحث عن طرق للتعامل مع هذه الظروف المرهقة نفسيًّا التي تتحول إلى عبء ثقيل يدمرنا من الداخل.

عبء البقاء على قيد الحياة

نحن الذين نتوقع أن نحمل الشعلة ونؤيد النضال ونبقى صامدين في وجه كل شيء، ونحمل إرث كل شهيد ومسؤولية تحقيق العدالة. في كثير من الأحيان؛ تصبح هذه المعركة المستمرة والقتال اليومي للعيش حياة عادية حملًا ثقيلًا للغاية. وفي بعض الأحيان؛ يبدو كما لو أنه كنت تقوم بعمل فذٍّ لاستطاعتك البقاء على قيد الحياة.

من بين كل هذه الفوضى؛ لاحظتُ كيف يستجيب شعبي للظروف الصعبة للغاية التي يعيشونها، وأسأل نفسي كيف يفعلون ذلك – كيف يتعافون بعد كل هجوم؟ كيف يحافظون على سلامتهم في ظل انقطاع التيار الكهربائي اليومي، والقيود المفروضة على السفر، والحرمان من الوصول إلى الرعاية الطبية المناسبة، والبطالة، وانعدام الأفق.

بالنسبة للبعض؛ قرروا العودة إلى الحياة لأنه الخيار العملي الوحيد، فبعد كل اعتداء، يعبرون عن تعنتهم بالبقاء هنا مهما حاول الاحتلال الظالم اقتلاع جذورهم، ويلتقطون أشتات الحياة المحطمة ويعيدون بناء مستقبلهم من جديد، ويقولون ببسالة تقريبا: “لا شيء يمكن أن يجعلنا نتراجع في مواجهة الاحتلال؛ إذا دمروا منازلنا، سنعيد بنائها، وسنبقى متشبثين بأرضنا “. هذا هو شعور العديد من الأشخاص الذين تحطمت حياتهم بطريقة أو بأخرى خلال الهجمات، فلقد تم اقتلاعهم من جذورهم وتهجيرهم من قبل ولا يمكنهم تخيل المرور بالتجربة ذاتها مرة أخرى، كما لا يمكنهم رؤية أنفسهم على أنهم يعيشون في “بلد تعود ملكيته لشخص آخر بشكل مجاني ويتم معاملتهم على أنهم “آخرون” أو”غرباء”.

وبالنسبة لجزء من الآخرين، فقد كانوا يحاولون إيجاد مخرج من السجن المفتوح الذين يعيشون فيه، فبالنظر إلى الهجمات العسكرية المتكررة والفقر المدقع والبطالة المتفشية بين الشباب؛ فليس من المستغرب أن يختار الكثيرون الرحيل بدلًا من الموت البطيء، ويبحثون عن أرضٍ جديدة على أمل أن تمنحهم تلك البلدان فرصة في الحياة.

يجد الشباب أن غزة، الواقعة تحت الحصار الخانق، ضيقة للغاية بالنسبة لقدراتهم وأحلامهم، ولا تقدم لهم فرصة حقيقية لتطوير مهاراتهم وتعزيزها.

“لو كانت غزة منفتحة على العالم الخارجي …”

إحدى هؤلاء الفلسطينيات هي “جي بي”، البالغة من العمر 27 سنة، والتي عاشت في غزة لمدة خمسة عشر سنة وقضت جزءًا من طفولتها في الخليج، وتقول إنه “بسبب الحصار، فإن التنوع الثقافي والفرص في غزة محدودة. لقد تطوعت ودرست وعملت حيثما استطعت. لكن بعد ذلك شعرت أن كل فرصي قد نضبت، فقررت أنني بحاجة للسفر للابتعاد عن الحصار”، وتتمنى أن يتم رفع الحصار وتشير إلى أنه “إذا كانت غزة مفتوحة على العالم الخارجي، فسأعود وأعيش هناك”.

وتوضح “جي بي” أنها تعيش حاليًا في تركيا مع زوجها، لكنها ما زالت تفتقد غزة، وتضيف: “أفتقد عائلتي، وأتوق إلى العودة، ولكن للزيارة فقط. على الرغم من أنني تركت غزة ورائي، إلا أنها لا تزال المكان الذي أضفى معنى ومغزى لحياتي على مستويات عديدة. لكن لا يمكنني العودة والعيش هناك، إلا إذا رأيت غزة منفتحة على العالم بأسره”.

على الرغم من ذلك؛ لا ترى جي بي أن العيش في الخارج مكّنها من تحقيق كل أحلامها، ففي هذا الشأن أوضحت” جي بي” في الخارج تضطر للتعامل مع بعض أشكال العنصرية وهي من بين الأمور التي تحول دون الحصول على الاستقرار النفسي الذي تحتاجه، حيث يظل الحصار مثل الظل الذي يتبعك”.

وكلما رأيتُ شخصًا يغادر غزة، أشعر بالحزن والسعادة في الآن ذاته، فمن الجيد أن تعرف أن بعض الأشخاص يجدون فرصًا رائعة في الخارج، لكن من المؤلم رؤية غزة تفقد مواهبها ومهاراتها. ومع ذلك؛ لا يمكن لأحد أن يلوم جيلًا نشأ تحت الحصار لأنه يريد الهروب من السجن المفتوح الذي ترعرع فيه.

وأعربت ترنيم حماد، البالغة من العمر 28 سنة، أيضًا عن المشاعر ذاتها؛ فهي لا تريد المغادرة، لكن إذا وجدت فرصة عمل أفضل بالخارج، فلن يكون أمامها خيار آخر، ولكن بعد الدراسة في المملكة المتحدة لمدة سنة ونصف، قررت العودة إلى غزة.

وتقول ترنيم: “من المؤلم بالتأكيد أن تترك عائلتك وثقافتك ومنزلك، لكن ليس هناك خيار آخر أمامك. لا يمكنك الزواج، ولا يمكنك الحصول على وظيفة، ولا يمكنك استئجار منزل ولا يمكنك بدء حياة جديدة. يغادر الشباب غزة لأنهم أرغموا على توجيه دفّة آمالهم ومشاعرهم وطاقاتهم نحو بوابة المغادرة”.

وتضيف: “حتى لو كانوا يجهلون سبب مغادرتهم، فهذا هدف يريده معظم الشباب. ينفطر قلبي عندما علمت أن غزة تفقد بعضًا من شبابها الموهوبين. لكن في النهاية، لكل شخص الحق في أن يقرر أين يبني حياته. أتمنى أن تهون الظروف ويُرفع الحصار، وعندها بالتأكيد سيختار العديد من الشباب البقاء وبناء حياتهم بجانب عائلاتهم”.

يومًا بعد يوم؛ أدت ستة عشر عامًا من الحصار إلى تآكل قدرة الناس على التحمل من نواحٍ عديدة، فالبعض منهم لديه وظائف مستقرة، لكنهم ما زالوا يشعرون بالحصار يقترب منهم، وقد عبر عدد من أصدقائي المقربين عن هذا بوضوح؛ حيث يقول أحدهم: “أهم شيء هو الأمان، ثم تأتي حرية الحركة”، وأضاف: “نريد أن نكون قادرين على السفر بحرية، تمامًا مثلما يفعل الناس في أماكن أخرى. في غزة، يتعين على الشخص التسجيل قبل شهور من السفر والمرور بظروف غير إنسانية في رحلته عبر مصر”.

وبعض الناس يتصرفون على هواهم دون أي خطط آمنة وملموسة ويراهنون على المغادرة بأي وسيلة، وقد ينتهي بهم الأمر إلى الغرق بسبب انقلاب المركب الذي أرسلهم به المهرب، في حين البعض الآخر أكثر صبرًا ويقيّمون خياراتهمَ “طالما لدي عمل مستقر هنا، فلن أغادر … ولكن إذا أتيحت لي فرصة لإفادة غزة أثناء إقامتي في الخارج، فلن أتردد في القيام بذلك.”

عصام عدوان

عصام عدوان، 29 عامًا، يتفهم جيدًا هذا الشعور بالإحباط؛ حيث يقول: “في ضوء الظروف الاقتصادية المدمرة والبطالة المتزايدة والهجمات الإسرائيلية المتكررة؛ أصبحنا أكثر قناعةً بأن الحل الوحيد لمن ليس لديهم مصدر رزق هو الهجرة”، وأضاف: “هذا ينطبق بشكل خاص على الشباب؛ فأعتقد أن الهجرة هي أداة يستخدمها الناس كوسيلة للتعامل مع الواقع الصعب”.

بالنسبة لعصام، فإن قرار المغادرة أو البقاء يعتمد على الفرص المتاحة؛ حيث يقول: “بالنسبة لي، الهجرة ليست هدفًا في حد ذاته. فطالما أن هناك بدائل في بلدي حيث يمكنني أن أكون مع عائلتي وأصدقائي، فأنا أفضّل البقاء”، كما يقول مضيفًا: “الهجرة بالنسبة لي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالهدف الذي يدور في بالي، فطالما لدي عمل مستقر هنا، فلن أغادر. كصحفي، يمكنني القيام بواجباتي بشكل أفضل من غزة. ولكن إذا أُتيحت لي فرصة لإفادة غزة أثناء إقامتي في الخارج، فلن أتردد في فعل ذلك”. 

أحيانًا لكي تدرك قيمة وطنك عليك أن تغادره

ووسط وجهات النظر المختلفة؛ يبرز شيء واحد يتفق عليه الجميع: الروابط الاجتماعية المتماسكة التي نشأوا عليها بحيث اعتادوا أن توجد فقط في غزة؛ حيث تجتمع العائلات معًا ويتسكع الأصدقاء ويكون الإحساس بالانتماء للمجتمع قويًا.

سامية السويركي، 28 سنة، تقول إنها تتمنى لبناتها أن يكبرن بين أفراد عائلاتهن في غزة، فهذا شيء تفتقده بشدة.

وتقول: “سافرت إلى تركيا قبل سنة، وتقدمت بطلب لعدد من الوظائف وسعدت عندما وجدت واحدة. لقد قمت بالفعل ببناء شبكة من الناس هنا، مما أفادني على مستويات عديدة. لكنني أفتقد عائلتي في غزة بشدة، وإذا حصلت على وظيفة جيدة هناك، فلن أتردد في العودة. أحب أن أفكر بأنني سأفعل ذلك في يوم من الأيام. لدي ابنتان، 3 و 5 سنوات، وما زلت أخبرهما بأننا سنعود يومًا ما. إذا سألتني، فأنا بالفعل منحازة تجاه وطني”.  

لقد دفع الحصار المفروض على غزة منذ خمسة عشر عامًا الآن الناس إلى هذه النقطة؛ حيث اتخذ الكثير منهم طرقًا غير قانونية وحاولوا الخروج عن طريق مهرّبين، مما أدى في كثير من الحالات إلى كوارث في البحر حيث غرق الكثيرون، بينما نجا آخرون ووجد العديد ممن نجوا أنفسهم لاجئين في البلدان التي طلبوا اللجوء فيها، ووجدوا أنفسهم مضطرين للخضوع لإجراءات مطولة ومملة قبل منحهم حياة كريمة.

ويؤثر الحصار أيضًا على جميع مناحي الحياة ويؤدي بالعديد من ذوي الكفاءات إلى المغادرة، وأصبحت هجرة العقول ظاهرة حقيقية، فحتى المحاضرين الجامعيين لم يسلموا من هذا الواقع؛ إذ يتعين عليهم الحصول على أذونات خاصة للسفر لحضور المؤتمرات أو ورش العمل، وكثير منهم محرومون من الإذن للسفر دون سبب معين. وفي أحيان أخرى؛ تتقدم مجموعات من المحاضرين إلى نفس المحاضرة، لكن واحدًا فقط يُمنح إذنًا من السلطات المصرية. لذلك، إذا لم يكن الجانب الإسرائيلي هو الذي يعيق حياتنا، فهم حلفاؤهم.

إن كل ما يعرفه أطفالنا هو أنهم نشأوا في هذه البيئة المحاصَرَة المعدمة والتي مزقتها الحرب، وعندما ينهي الطفل دراسته في المدرسة والجامعة ويجد نفسه في طريق مسدود، يصيبه اليأس ويواجه معضلة تتمثل في البحث عن طريق مجهول لمحاولة إيجاد نوع من سبل العيش في الخارج، أو البقاء هنا والصمود.

لكن أحيانًا لكي تدرك قيمة وطنك عليك أن تتركه، ولكي تفعل ذلك، يجب أن تتمتع بحرية المغادرة، ولهذا يجب أن يتمكن أولادنا من رؤية العالم الخارجي، وإذا كان رفع هذا الحصار غير القانوني يعني أنه يمكنهم السفر إلى مدن فلسطينية أخرى، فقد يرون ببساطة أن هناك مستقبلًا واعدًا ينتظرهم في وطنهم.

المصدر: موقع موندويس