رغم الإعلان الرسمي عن انتهاء الأزمة الخليجية بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين من جهة أخرى منذ قمّة العُلا في يناير/ كانون الثاني 2021، إلا أن العلاقات لم تستأنف بشكل طبيعي بين قطر والبحرين، حيث ظلّ التوتر الإعلامي قائمًا بين البلدَين، كما لم تقُم البحرين بإعادة روابط السفر والتجارة مع قطر مثلما فعلت السعودية والإمارات بعد أيام قليلة من المصالحة.
سنستعرض في هذا التقرير أسباب جمود العلاقات بين قطر والبحرين، وكيف أدّى ذلك الجمود إلى حرمان البحرين -دون غيرها- من المميزات الاقتصادية لكأس العالم الذي ستستضيفه الدوحة الشهر المقبل.
تاريخ حافل بالصراعات
أولًا، العلاقات بين قطر والبحرين حافلة بمخزون تاريخي من الصراعات والتقلبات، فالأرشيف البريطاني يتضمّن ملفات ضخمة من تفاصيل النزاعات بين البلدَين، بعض تلك التفاصيل تتجاوز أبعاد الصراع الجغرافي أو الحدودي، ما يجعل الصراع أكثر تعقيدًا من كونه مجرد صراع حدودي.
وربما كان أحد أسباب تحفُّظ قطر على مصالحة البحرين قيام الأخيرة بطرح الملف إعلاميًّا، حيث أعلنت وكالة أنباء البحرين الرسمية في يناير/ كانون الثاني من العام الماضي أن وزير الخارجية عبد اللطيف الزياني وجّه دعوة لنظيره القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، لإرسال وفد رسمي إلى المنامة لمناقشة القضايا العالقة بين البلدَين، تنفيذًا لنصّ بيان قمّة العُلا.
وقال الزياني في نصّ رسالته: “أودّ الإفادة بأنه تنفيذًا لما نصّ عليه بيان العُلا الصادر عن الدورة الحادية والأربعين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون التي عُقدت في محافظة العُلا بالمملكة العربية السعودية، يسرّني دعوة وزارتكم الموقرة لإرسال وفد رسمي إلى مملكة البحرين في أقرب وقت ممكن، لبدء المباحثات الثنائية بين الجانبَين حيال القضايا والموضوعات المعلقة بين البلدَين، تفعيلًا لما نصّ عليه بيان العُلا، وصولًا للأهداف السامية التي نطمح إلى تحقيقها لما فيه الخير لمواطني البلدَين الشقيقَين وتعزيز مسيرة العمل الخليجي المشترك”.
الجانب القطري لم ينسَ الاستفزازات التي قامت بها البحرين إبّان الأزمة، ومنها قيام 4 طائرات عسكرية من قوة سلاح الجو البحريني بالتحليق في سماء الدوحة.
الرسالة أعلاه لم يتمّ نشرها علنًا عن طريق الخطأ، بل قصدت البحرين أن تنشرها في وسائل الإعلام بهدف تحويل إنهاء الأزمة إلى لجان ومباحثات ورسائل رسمية للضغط على قطر ومحاولة إحراجها إعلاميًّا، إذ اشترطت -كما في الرسالة- قيام الدوحة بإرسال وفد رسمي إلى البحرين لإنهاء الأزمة والعودة إلى ما قبل يونيو/ حزيران 2017، وهو الأمر الذي أتى بنتيجة عكسية على البحرين، حيث أظهرها وكأنها تتوسّل الحوار والمصالحة مع الدوحة، خاصة أن وزير الخارجية البحريني الزياني أعلن مجددًا في أغسطس/ آب الماضي أن دولة قطر لم تتجاوب مع الدعوات التي وجّهتها لها مملكة البحرين.
الدوحة ركّزت على علاقاتها مع الرياض
لا يخفى على أحد أن قطر ركّزت بالدرجة الأولى على استئناف علاقاتها مع السعودية، نظرًا إلى امتلاكها حدودًا برية معها، ذلك أن قطر شبه جزيرة لا تمتلك منفذًا بريًّا إلا منفذ أبوسمرة (سلوى) الذي يربطها بالسعودية، إضافة إلى المجال الجوّي الكبير الذي تستحوذ عليه المملكة، فقد كانت الخطوط الجوية القطرية خلال سنوات الأزمة الخليجية تضطر للالتفاف طويلًا حتى تتمكّن من تجاوز المجال السعودي.
كما أن الإمارات أدركت مبكرًا اهتمام قطر بتطبيع علاقاتها مع السعودية فقط، فسارعت أبوظبي إلى إعادة روابطها التجارية ومن ضمنها حركة النقل مع قطر، تاركةً البحرين وحيدة وهي التي لا تمتلك ثقلًا سياسيًّا ولا اقتصاديًّا يُذكَر مقابل التأثير الاقتصادي والسياسي الكبير للدوحة.
ويبدو أيضًا أن الجانب القطري لم ينسَ الاستفزازات التي قامت بها البحرين إبّان الأزمة، ومنها قيام 4 طائرات عسكرية من قوة سلاح الجو البحريني بالتحليق في سماء الدوحة، الأمر الذي اعتبرته قطر سلوكًا عدائيًّا، وكذلك ما تردد عن استيلاء البحرين على أكثر من 100 عقار تعود ملكيتها لأفراد من عائلة المسند (عائلة الشيخة موزة المسند والدة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني).
كذلك بقيَ التصعيد الإعلامي قائمًا بين البلدَين، فالإعلام البحريني ما زال ينشر قصصًا بين الحين والآخر عن ملكية البحرين لجزيرة الزبارة القطرية، بينما تمَّ حسم الخلاف الحدودي التاريخي بين البلدَين عن طريق محكمة العدل الدولية عام 2001.
إذ قررت المحكمة منح البحرين السيادة على جزر حوار وجزيرة قطعة جرادة، بينما حصلت قطر على السيادة على جزر جنان وحداد جنان والزبارة وفشت الديبل، وفيما يتعلق بمرور السفن التجارية فقد حكمت المحكمة بأن يكون للسفن التجارية القطرية حق المرور السلمي في المياه الإقليمية للبحرين، الواقعة بين جزر حوار والبر البحريني.
جدير بالذكر أن ذلك الحكم يعدّ نهائيًّا وملزمًا لكل من قطر والبحرين، وهو ما يعني غلق ملف النزاع نهائيًّا نظرًا إلى إلزامية قرار محكمة العدل الدولية وعدم إمكانية استئنافه أو الاعتراض عليه.
دخلت البحرين على خط توجيه الانتقادات إلى قطر في ملف مونديال 2022، حيث نشرت صحيفة “الوطن” بيانًا عن إدانة النقابات العمالية البحرينية لـ”الممارسات غير الإنسانية وغير العادلة” التي تنتهجها دولة قطر.
في المقابل، أدّت تغطية قناة “الجزيرة” لأوضاع حقوق الإنسان في البحرين إلى تعميق الأزمة بين البحرين وقطر، فعلى سبيل المثال جرى توزيع الفيلم الوثائقي “البحرين.. الصراخ في الظلام”، من إنتاج قناة “الجزيرة الإنجليزية”، على نطاق واسع على الخطوط الجوية القطرية، واعتبرت البحرين أن هذا التصرف غير مسبوق ومدمّر للغاية للعلاقات، وساهم ذلك في تعميق الأزمة بين البلدَين.
كما أصدرت وزارة الداخلية البحرينية بيانًا العام الماضي حول ما وصفته بالتحريض القطري على مملكة البحرين، وأشارت الوزارة في بيان نشرته صحيفة “الأيام” إلى أن قطر عبر قناة “الجزيرة” سعت إلى تشويه صورة البحرين في مسألة حقوق الإنسان، بالتزامن مع الاجتماع السنوي للمجلس العالمي لحقوق الإنسان في جنيف، وطالبت الداخلية البحرينية قطر بتطوير قوانينها وبرامجها التي تحفظ حقوق الإنسان، بدلًا من الطعن في نجاحات الآخرين، بحسب البيان.
ليس هذا فحسب، بل دخلت البحرين على خط توجيه الانتقادات إلى قطر في ملف مونديال 2022، حيث نشرت صحيفة “الوطن” المقرّبة من الديوان الملكي البحريني في الأيام الماضية بيانًا عن إدانة النقابات العمالية البحرينية لـ”الممارسات غير الإنسانية وغير العادلة” التي تنتهجها دولة قطر تجاه مئات الآلاف من العمال الآسيويين والأفارقة، الذين يتعرضون للاستغلال ويعيشون في أوضاع متردية سواء في مواقع العمل أو الإقامة، حسب البيان.
ودعت النقابات البحرينية الى فتح تحقيق دولي تشرف عليه منظمتا العمل العربية والدولية ومنظمات حقوق الإنسان، قبل بطولة كأس العالم في الدوحة في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم.
فوائد اقتصادية كبرى لدول المنطقة
قلنا أعلاه إن قطر ركّزت تطبيع علاقتها بالسعودية للأسباب المشار إليها، هذا بالإضافة إلى أن السعودية كانت متلهّفة أيضًا إلى مصالحة قطر من أجل طي صفحة مقتل الصحفي جمال خاشقجي، ما جعل اتفاقية العُلا تبدو وكأنها مصالحة بين قطر والسعودية، ما أثار امتعاض الإمارات والبحرين في البداية، لكنّ أبوظبي تداركت الموقف من أجل الاستفادة الاقتصادية من استضافة قطر لبطولة كأس العالم.
دراسة أجرتها شركة “سكاي سكانر” المتخصصة في حجوزات الطيران، كشفت أن دولة الإمارات حقّقت أعلى معدل حجوزات سفر إلى قطر خلال كأس العالم، المزمع انطلاقه خلال نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، إذ أوضحت الدراسة أن الحجوزات بين دبي والدوحة ارتفعت بنسبة 270% خلال فترة المونديال لتصبح دبي وجهة الانطلاق الأولى لمونديال قطر، إذ تصدّرت دبي قائمة المدن التي تشكّل أهم محطات الانطلاق للسفر إلى قطر لحضور الحدث الكروي الأبرز لكرة القدم، وجاء بعدها كل من لندن، طوكيو، سيئول ومدريد.
وفي وقت سابق، أعلنت الإمارات أن حاملي بطاقة “هيّا” المخصّصة لمشجّعي مونديال قطر سيحصلون على تأشيرة دخول والإقامة في الإمارات لمدة تصل إلى 90 يومًا، مع إمكانية التمديد لفترة 90 يومًا إضافية أخرى.
“فلاي دبي”، شركة الطيران الاقتصادية المعروفة في الإمارات، فتحت باب حجز “رحلات يوم المباراة” بين دبي والدوحة، بموجبها ستوفر الناقلة رحلات ذهابًا وإيابًا ابتداء من 258 دولارًا على الدرجة السياحية، لإتاحة الفرصة للمشجعين لمشاهدة المباريات والعودة إلى دبي في اليوم نفسه، بحيث يجب ألا تتعدى مدة الإقامة 24 ساعة كحدّ أقصى لجميع الرحلات.
هذا بطبيعة الحال إلى جانب رحلات الخطوط الجوية القطرية إلى مدن الإمارات، ورحلات الناقلات الإماراتية الأخرى مثل طيران الإمارات والاتحاد والعربية.
السعودية كذلك يتوقع أن تنال حظًّا من الفوائد الاقتصادية، إذ ارتفعت نسبة حجوزات السفر إلى قطر من السعودية بنسبة 59% خلال الفترة ذاتها، كما أعلنت السلطات القطرية والسعودية في وقت سابق عن توسعة وتجهيز المعبر الحدودي بين البلدَين لنقل حشود المشجّعين القادمين عبر الحدود، والذين يتوقع أن يفوق عددهم عدد القادمين عبر الرحلات الجوية.
وأعلنت السعودية هي الأخرى عن ترحيب المملكة بجميع حاملي بطاقة “هيّا” المخصصة لمشجّعي بطولة كأس العالم 2022، موضحة أنها تتيح لهم الحصول على تأشيرة دخول متعددة إلى المملكة صالحة لمدة شهرَين، ويمكن للمسلمين منهم أداء العمرة وزيارة المدينة المنورة.
القرار من شأنه استقطاب الجماهير الرياضية إلى الأردن، لدفع عجلة القطاع السياحي والاقتصادي في المملكة.
كذلك، أعلنت سلطنة عُمان عن منح حاملي بطاقة “هيّا” تأشيرة مجانية متعددة الرحلات، معززة بميزة الاستخراج عند الوصول وفترة صلاحية تصل إلى 60 يومًا، موضّحة أنه يمكن لحامل بطاقة “هيّا” اصطحاب عائلته من الدرجة الأولى والإقامة في سلطنة عُمان.
بدوره، أعلن الطيران العُماني عن جسر جوي لـ”رحلات اليوم الواحد” للمشجّعين بأسعار تبدأ من 99 ريالًا عُمانيًّا، مع تسهيلات خاصة ومسارات سريعة للمشجعين في مطار مسقط الدولي.
وبالنسبة إلى الكويت، فقد ذكرت مصادر إعلامية أن قطاع شؤون الإقامة بوزارة الداخلية انتهى من إعداد الدراسة الخاصة بشأن منح إقامة مؤقتة في الكويت لحاملي بطاقة “هيّا” الرقمية الصادرة عن السلطات القطرية، والتي تخوّل صاحبها دخول قطر ومتابعة مباريات كأس العالم 2022 التي تنطلق الشهر المقبل بالدوحة.
وقالت المصادر إن الدراسة ستعرض على النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية بالوكالة الشيخ طلال الخالد ليعرضها على مجلس الوزراء لاعتمادها، مشيرة إلى أن الدراسة خلصت الى أن حاملي “هيّا” من جميع الجنسيات بإمكانهم الحصول على الفيزا والإقامة المؤقتة من المطار، كنوع من التعاون مع السلطات القطرية وتقديم الدعم لها في تنظيم المونديال.
يرجّح أن تكون حالة عدم الاستقرار السياسي التي تشهدها الكويت منذ فترة السبب وراء تأخُّر اعتماد الميزات المخصّصة لحاملي بطاقة “هيّا”، فقد امتدت تلك الميزات الترحيبية إلى خارج المنظومة الخليجية، حيث أعلنت الأردن في وقت سابق عن منح حاملي بطاقة “هيّا” لمشجعي مونديال قطر تأشيرات دخول متعددة السفرات دون الحاجة إلى موافقات مسبقة لجميع الجنسيات دون استثناء.
وقال الناطق باسم وزارة الداخلية الأردنية، طارق المجالي، إن القرار جاء لتسهيل إجراءات انتقال الفرق الرياضية والمشجعين خلال كأس العالم قطر 2022، لافتًا إلى أن القرار من شأنه استقطاب الجماهير الرياضية إلى الأردن، لدفع عجلة القطاع السياحي والاقتصادي في المملكة.
البحرين الخاسر الوحيد
إذاً، وحدها البحرين لم تجد أي نصيب من الفوائد الاقتصادية الضخمة المتوقعة للحدث الكروي المهم الذي لا يتكرر بسهولة، فالبحرين هي الأقرب من حيث المسافة إلى قطر، وكان يمكنها الاستحواذ على نسبة مقدّرة من رحلات المشجّعين وإسكانهم في فنادقها، وتقديم ميزات تفضيلية للمشجّعين المقيمين في الجوار، خاصة أن قطاع السياحة في البحرين ظلّ يعاني منذ جائحة كورونا.
كانت نظرة صانع القرار البحريني ضيّقة للغاية عندما ربطَ فتح المجال الجوي وإعادة استئناف الرحلات والعلاقات الدبلوماسية مع قطر بإرسال وفد من الدوحة لمناقشة هذه الموضوعات في اجتماعات رسمية وأعمال لجان، إذ لم ينتبه حكّام البحرين إلى ضآلة تأثير بلدهم سياسيًّا واقتصاديًّا وحتى إعلاميًّا، مقارنة بالقوة الناعمة الصاعدة لقطر في هذه المجالات.
لا تمتلك البحرين ما تمتلكه قطر من ثقل اقتصادي يتمثل في احتياطات الغاز الضخمة، ولا إمبراطورية إعلامية مثل قناة “الجزيرة”، ولا مثل القوة السياسية الصاعدة للدوحة التي تُبنى بالدرجة الأولى على دبلوماسية الوساطة والتسويات في النزاعات الإقليمية أو الأزمات الكبرى كالملف النووي الإيراني، ولا يبدو أن قطر مهتمة في الوقت الحالي بتطبيع العلاقات مع البحرين، وعليه من غير المتوقع أن يتمَّ تحسين العلاقات بين البلدين مثلما حدث مع السعودية أو الامارات ومصر.. في المستقبل القريب على الأقل.