ترجمة وتحرير نون بوست
كشفت الانتخابات البرلمانية الأخيرة عن مشهد سياسي جديد في تونس، حصل نداء تونس على النصيب الأكبر من المقاعد بواقع 84 من أصل 217، تبعته حركة النهضة ذات الشعبية المتواصلة التقلص، حصل الحزب الإسلامي الذي يقوده “راشد الغنوشي” على 27 بالمائة من مجموع الأصوات، أي 69 مقعدًا، وعلى الرغم من أن الحركة قد احتلت الصدارة وكانت أهم القوى السياسية في تشكيل المجلس التأسيسي الوطني عام 2011 بواقع 90 مقعدًا، فإن الحركة الآن تلعب دور حزب المعارضة الرئيس.
أدى اجتماع عدد ضخم من الأسباب المختلفة إلى التراجع الملحوظ للقوى الإسلامية في تونس، فبينما كانت بوادر الأزمة متواجدة بالفعل، عصفت رياح التغيير بالبلد دون أن يتخيل أي من إسلاميي البلد التحول الجذري النابع من رحم الثورة، واُنتخبت النهضة للحكم لأول مرة في تاريخ تونس بعد عقود من القهر، كانت هذه تجربة الحكم الأولى على الإطلاق لأي فصيل إسلامي في تونس، وكان لانعدام الخبرة والمعرفة بالإدارة السياسية للبلاد أثرًا واضحًا على هذه الحكومة، خصوصًا في هذه المرحلة الانتقالية الحرجة، واتسمت الفترة بحالة من الغضب الاجتماعي، والهجمات الإرهابية، والضغط العمالي المقترن باقتصاد متدهور.
تفاخرت حركة النهضة بنجاحها في تأسيس أول تجربة ديموقراطية تشاركية في البلد، فقد نجحت في خلق تحالف بين الإسلاميين وحزبين علمانيين: المؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديموقراطي للعمل والحريات، إلا أن هذا التحالف الذي سعت إليه النهضة لم يعد مجرد عدد مقاعد في البرلمان، ولم يتحول الفوز الانتخابي إلى أي نجاح على مستوى التنمية أو الاقتصاد أو الأمن والاستقرار.
حكم التحالف البلد بأيدٍ متخبطة ومهزوزة، وظهر هذا بوضوح في فترة حمادي جبالي تحديدًا، وتفاقم هذا نتيجة لغياب أي رؤية إستراتيجية للإدارة، والفشل في مواكبة آمال وتوقعات الناخبين؛ ليفشل حتى تاريخ هذا التحالف الطويل في الكفاح من أجل الديموقراطية في أن يشفع له عند الجماهير، فقد انتخبت الجماهير الثلاثي آملة أن تحصد نتائج شعار ثورتها “شغل .. حرية .. كرامة وطنية”.
إلا أن الحقيقة أن حركة النهضة قد قامت بحماية الحريات المدنية، فلم تحكم الحركة البلد بنظام مراقبة جهنمي، ولم تتدخل بأي شكل لتعطيل العمل السياسي لمعارضيها، شجعت النهضة بوضوح الحوار السياسي الوطني بين الخصوم السياسيين، وكذلك شاركت الحركة بشكل فعّال في تبني وكتابة أول دستور عربي يمكن وصفه بالديموقراطية والتوافقية، دستور يساوي بين الرجل والمرأة ويضمن حرية الفكر والتعبير والاجتماع، ويعترف بحرية المواطنين في الانتماء لأي كيان سياسي في سياق من التعددية السياسية، فنظرًا لكونها حركة إسلامية، يبدو أن النهضة قد نجحت تمامًا في أن تضرب مثالاً للتدوال السلمي للسلطة.
إلا أن هذه الإنجازات لا تكفي لغض النظر عن مشاكل أخرى، فقد فشلت النهضة تمامًا في تقديم حل حقيقي لارتفاع الأسعار أو التاقلم مع تدهور القوة الشرائية للدينار، كما شهدت فترة حكمها تضخم كبير في نسبة البطالة (قرابة 15 بالمائة) ودور الأسواق السوداء للسلع.
وقد وقعت النهضة في فخ آخر نتيجة لنقص الخبرة والرؤية السياسية؛ فقد اختارت اتباع سياسة مهدانة فيما يخص المتشددون من الإسلاميين، وبالرغم من ذلك فقد فشل هذا في ضمان دعمهم للنهضة، خصيصًا أثناء التوافق على الدستور، فقد رفضت النهضة إدراج أي مواد تتعلق بالشريعة الإسلامية في الدستور؛ مما أدى بحلفائها السلفيين إلى سحب دعمهم لها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
أما النوع الآخر من السلفيين، ذاك الذي شارك في أعمال عنف وسفك دماء، فقد استمروا في إظهار قوتهم؛ وقد أدى هذا بالقوى العلمانية لاستغلال هذه الأعمال وفشل النهضة في احتوائها لإشعال خوف الجماهير من الإسلاميين، خصيصًا بعد حادثتي اغتيال شكري بلعيد ومحمد براهمي، وقد سيقت هذه الادعاءات جنبًا إلى جنب مع اتهام الإسلاميين بأنهم خطر على المشروع الحداثي التونسي الذي بدأ مع الاستقلال.
وعلى صعيد آخر، حطمت النهضة آمال الشباب المقهور والثائر في العدالة الاجتماعية، وفي محاكمات عادلة لقادة النظام الديكتاتوري ومعاونيهم، وأي شكل من أشكال العدالة الانتقالية، فقد أعطت الحركة الأولوية للتصالح على المحاسبة السياسية والعقاب ومحاكمة بن علي ومعاونيه، وقامت حركة النهضة بسحب مشروع قانون حماية الثورة، وعارضت أي شكل من أشكال قانون للعزل السياسي ورفضت وضع أي حد لسن المرشحين للرئاسة في القانون الانتخابي.
شكل نفوذ الغنوشي في الحركة مثل هذه القرارات أكثر من توافق مؤسساتها الداخلية أو مجلس شوراها، فالنهضة لم تطلب أي نوع من النصح من حلفائها، وشكلت أغلب قرارتها في إطار خوفها من سقوط تونس في السيناريو المصري؛ ولذلك لا يبدو سعي النهضة للتوافق بأي ثمن غريبًا.
لم يكن أي من السابق بغير منطقي، فقد أصيب الشباب تحديدًا بشعور واضح بالإحباط، وتسبب إجهاض العدالة الانتقالية في حالة من التمنع عن المشاركة في العملية الانتخابية، أو على أحسن تقدير الانضمام إلى أحد الأحزاب الصغيرة التي أبقت على ولائها للثورة، كأحزاب البناء والوفاء والتيار الديموقراطي، وقد خسرت النهضة تحديدًا الكثير من مؤيديها نتيجة لذلك.
ونتيجة لهذا الانقسام استطاعت رموز النظام السابق استعادة سيطرتها على الساحة السياسية تدريجيًا، فقد قامت الشبكة الخامدة المعروفة بالجماعة الديموقراطية بإعادة تجميع قواها وتشكيل صفوفها، وتمكنت من السيطرة على مراكز القوة في أحزاب مثل نداء تونس وغيره من الأحزاب الدستورية.
ظن الإسلاميون بسذاجة أن زيادة عدد أحزاب الجبهة الديموقراطية سيعني بالضرورة ضعفها، وعلقت قيادات النهضة آمالها على أن الشعب التونسي سيستبعد قوى النظام السابق تمامًا من خلال الصندوق الانتخابي، ولكن يبدو أن هذا الحلم قد تحول إلى كابوس.
لجأ أعضاء التجمع الدستوري الديموقراطي السابق بالإضافة إلى عدد من القوى اليسارية إلى التصويت التكتيكي على عكس توقعات الإسلاميين، وكان الهدف الأوحد هو هزيمة النهضة، فتوحدت أصواتهم لدعم نداء تونس الذي فاز بأكبر تمثيل في البرلمان، وإضافة إلى ذلك؛ فقد اتصفت كل قرارات النهضة بالبيرقراطية والغطرسة بشكل أثار نفور الكثير من القوى الشبابية، سلفية وثورية على حد سواء.
وكان استخدام النهضة للمسيرات والتظاهرات في حملاتها الانتخابية أحد عوامل هذا الفشل الذريع، فقد أدت عروض القوة هذه إلى زيادة خوف خصوم النهضة السياسيين، وقد أدى هذا إلى اتخاذ عدد كبير من الناخبين أسلوب عقابي في التصويت ضد النهضة، خصوصًا بعد فشلها في تحقيق ما نادت به في انتخابات الجمعية التأسيسية عام 2011.
أدت العوامل السابقة مجتمعة إلى تراجع الإسلام السياسي في تونس، إلا أن ما عجل بالفشل النهائي كان تعاقب آلاف الإضرابات والتظاهرات، كما أعلن الاتحاد التونسي العام للشغل أكثر من مرة عن وقوفه مع المعارضة، وأعلن عن الإضراب العام ثلاث مرات أثناء فترة حكم تحالف النهضة، أدى الخوف من الإرهاب الذي فشلت النهضة في السيطرة عليه بالإضافة إلى افتقاد الأمن والرفاهة والاستقرار إلى تزايد واضح في عدد المصوتين لنداء تونس وقائده.
لعب الإعلام دورًا محوريًا في التأثير على آراء الناخبين من خلال الشيطنة المستمرة للإسلاميين وحلفائهم، فقد عانت النهضة من الهجمات الإعلامية بشكل يومي تحت ادعاء أن هدفهم الوحيد هو “أسلمة” المجتمع التونسي، كما تم استخدام الحركة ككبش فداء بشكل يومي على الرغم من كل رسائل الطمأنة التي أرسلها ممثلي الحركة في الجمعية الدستورية للمجتمع المدني، إلا أن عدم قدرة النهضة على التعامل مع هذه النزعات النمطية في التعامل مع الإسلاميين لهو خطأ الحركة كما خصومها تمامًا، خصوصًا وأنها لم تقدم أي بدائل إعلامية احترافية، بالإضافة إلى الضعف الشديد في الأداء الإعلامي لممثليها قبل وأثناء الحملة الانتخابية.
وبالرغم من كل ذلك تبقى حركة النهضة أحد أهم ضمانات توزيع القوى في تونس اليوم، كما تبقى علامة فارقة في أداء الإسلام السياسي ككل في العالم العربي.
المصدر: Open Democracy