لم يتوقع الأوروبيون أن يتحمّلوا كلفة اقتصادية عالية جدًّا لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وقد زادت الصعوبات مع ارتفاع أسعار النفط والغاز بشكل كبير، ومع استمرار تقديم الدعم المادي والعسكري الذي تعهّد به الاتحاد الأوروبي، نشأت عدة خلافات سياسية بين دوله، لا سيما أن هدف الأوروبيين في دخولهم هذه الحرب كان مقتصرًا فقط على جرّ بوتين نحو الخسارة.
يمكن أن تتعمّق الخلافات أكثر بعد نهاية الحرب، أما الآن فالأوروبيون متّحدون لكسر شوكة روسيا بأي ثمن، ولعلّ ما يبرهن على ذلك هو اتفاق القادة الأوروبيين خلال قمّتهم التي عُقدت ببروكسل في 20 و21 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، على تقديم 9 مليارات يورو لمساعدة أوكرانيا في مواجهة الحرب الروسية، جزء منها سيسلَّم خلال هذا العام، وقد قدّم الاتحاد الأوروبي لكييف حتى الآن أكثر من 19 مليار يورو، بينما تستمر المحادثات لتقديم 18 مليار يورو العام المقبل.
الصراع يجهد أوروبا
يلاحَظ أن هناك إجهادًا في أوروبا بسبب الصراع، وإذا استمرت الحرب لأشهر عديدة ربما لن يكون في وسع الأوروبيين تحمّل تكاليفها الباهضة، والاستمرار في تقديم الأسلحة والمساعدات العسكرية التي لا تلبّي احتياجات أوكرانيا، كما أنهم يعانون أكثر من النفط وأسعار الغاز، لهذا نرى الآن وجهات نظر مختلفة حول كيفية دعم أوكرانيا، بينما في الأشهر الأولى بعد بدء الحرب كانت أوروبا موحّدة.
تنذر أزمة الغاز بالفتنة في أوروبا، ولا سيما عقب الأضرار التي لحقت بشبكة “نورد ستريم”، إثر انفجارات قوية في الخط الأول والثاني الذي لم يكن يعمل من الأساس، إذ تبدّدت آمال إمكانية عودة تدفق الغاز من روسيا إلى أوروبا، الأمر الذي أدّى إلى قفزات قياسية في أسعار الغاز بأكثر من 20%، وهو ما يعكس مدى تعمق أزمة الطاقة في أوروبا، ذلك أن شبكة “نورد ستريم” لم تكن تعمل وقت الانفجار لأن روسيا أوقفت إمدادات الغاز عبر الخط الأول إلى أجل غير مسمّى.
رغم أن الدول الأوروبية أمّنت نسبًا كبيرة من احتياجاتها من الغاز، لكن المشكل الكبير لا يكمن فقط في الاحتياطات إنما في سعر البيع للأفراد، خصوصًا أن أسعار الكهرباء المنتَجة بالغاز الطبيعي ترتفع باضطراد، ونتيجة لذلك ترتفع أسعار المواد الغذائية وبالتالي التضخم، ولعلّ من سيدفع الثمن أولًا هي إيطاليا التي شهدت صعود اليمين المتطرف المقرّب من موسكو.
ألمانيا تعزل نفسها عن الاتحاد
عمّقت روسيا جراح أوروبا، فإذا كانت الأخيرة لا تجد صعوبة في توفير احتياجاتها من النفط، إلا أنها لا تملك الخيار نفسه بالنسبة إلى الغاز، وعلى ما يبدو أن خطاب إيمانويل ماكرون الصريح للشعب الفرنسي حينما دعاهم إلى توديع الرفاهية سوف يزيد من غضب أصحاب السترات الصفراء، كما هو الشأن بالنسبة إلى ألمانيا التي تشهد احتجاجات غاضبة، في حين أن البلدان الأوروبية الرئيسية متجهة نحو التصعيد ضد روسيا بضغط أمريكي.
تصاعدت الخلافات بين ألمانيا وفرنسا بسبب أزمة الغاز، ففي قمة زعماء دول الاتحاد الأوروبي المنعقدة ببروكسل، انتقد ماكرون الجارة الأوروبية واتّهمها بالعمل على عزل نفسها، كما أن ألمانيا تواجه انتقادات داخل الاتحاد الأوروبي لأسباب من بينها أنها ترفض وضع سقف لأسعار الغاز في أوروبا، وهي الخطوة التي تطالب بها غالبية الدول الأعضاء في التكتل.
طبعًا هذا الانقسام ليس وليد لحظته، بل إن بوادره ظهرت خلال شهرَين عقب اندلاع الحرب حول طريقة دعم أوكرانيا، عندما حاول المستشار الألماني، أولاف شولتس، طيّ صفحة المساعدات العسكرية، بمعارضته إرسال دبابات إلى أوكرانيا لتجنُّب أي تصعيد روسي قد يؤدي بدوره إلى حرب عالمية ثالثة.
بينما ماكرون الذي كان قد فاز لتوّه بالانتخابات ويحاول تنصيب نفسه كعرّاب لأوروبا، لم يكن مسرورًا خاصة أنه كان يؤكد في خطاباته الانتخابية على ضرورة زيادة العمل المشترك بين البلدَين، لكنه عاد ليتّهم ألمانيا بعرقلة قرارات البرلمان الأوروبي حول دعم أوكرانيا.
حتى لو تبادلا العبارات الودّية وأبديا رغبتهما في التهدئة، إلا أن ذلك لا يعني تبدُّد الخلافات نهائيًّا، لأن الوضع في الحقيقة أكثر جدّية، فحكومة برلين متهمة باتّباع نهج أحادي بإعدادها خطة مساعدة بموارد مالية قدرها 200 مليار يورو لدعم الأُسر والشركات، وهي تتعرض لضغوط يمارسها عدد من الشركاء في الاتحاد الأوروبي لإبداء مزيد من التضامن الأوروبي.
أما ماكرون الذي حاول التقليل من أهمية الخلافات، بادّعائه أن الأمر طبيعي إذا لم يتبنَّ الطرفان المواقف نفسها دائمًا، إلا أنه في الوقت نفسه يصف ألمانيا بأنها تمرُّ بمرحلة تغيير لنموذجها، وهذا ما يهدد استقرار أوروبا التي تركّز بالضرورة على بناء استراتيجيات أوروبية وليست وطنية، خاصة في الأوقات العصيبة.
تدمير الوحدة الأوروبية
قد تؤدي هذه الخلافات إلى تدمير الوحدة الأوروبية بسبب تزايد الضغوط الاقتصادية، حيث تواجه أوروبا صعوبة في الاستمرار موحّدة في مسار حرب تزداد تكلفتها يومًا بعد يوم، وهذه هي الورقة التي تستخدمها أحزاب اليمين المتطرف لحشد الدعم الشعبي لها.
صعود اليمين المتطرف لا يشكل خطرًا على الوحدة الأوروبية فحسب، بل هو إنذار بعودة الفاشية التي تهدد وجود الاتحاد الأوروبي ككل، وما نشهده حاليًّا هو أن التحالفات اليمينية المتطرفة باتت تحكم دولها أو تهيمن على برلماناتها، ما يضع القارة العجوز أمام تحديات كبيرة مع ارتفاع أصوات اليمين المتطرف المعادي لأوروبا الموحدة.
يتقاسم اليمين المتطرف مع سيد الكرملين الأفكار نفسها تقريبًا، فأنصار هذا التيار يرفضون توصيف بوتين بـ”مجرم حرب”، كما يعارضون بشدة دعم أوكرانيا عسكريًّا وماليًّا، لأن ذلك سيؤدي إلى موت المزيد من الأوكرانيين بسبب قرارات القادة الأوروبيين وأمريكا، أما هذه الحرب فهي من افتعال الغرب بهدف الإطاحة بنظام موسكو.