في 25 يوليو/ تموز 2021، تفاجأ التونسيون بإعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد إعفاء الحكومة وتجميد عمل البرلمان مستندًا على تأويل شاذّ للفصل الثمانين من الدستور التونسي، بتعلّة “الخطر الداهم المهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها”.
تدابير استثنائية أعلن عنها سعيّد خلّفت ردود أفعال متباينة في صفوف التونسيين، الذين انقسموا إلى قسمَين لا ثالث لهما، مساند للانقلاب ومعارض له، في واحدة من أكثر الأحداث دراماتيكية وجدلًا وخطورة في تاريخ الدولة التونسية منذ الاستقلال، وليس منذ ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011 وحسب.
في هذا اليوم، تمرّ 15 شهرًا على الانقلاب في تونس، فما الذي تغيّر وما الذي خسرته تونس من هذه الإجراءات الاستثنائية غير المسبوقة في تاريخها المعاصر؟
اجتماعيًّا
تتميّز تونس على كثير من البلدان العربية والمغاربية بأن نسيجها الاجتماعي متماهٍ مع بعضه في مجمله، فلا إثنية ولا عرقية ولا قَبَلية ولا أقليّات دينية نافذة تحكم العلاقات الاجتماعية أو تحدد المسار السياسي في منظومة الحكم، وهي ميزة جنّبتها كثيرًا من القلاقل والصراعات المستندة في كثير منها إلى الانتماء العرقي والديني والقَبَلي كما يحدث في دول أخرى.
لم تنجح المنظومة السياسية التي حكمت البلاد بعد ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011 في تفكيك هذا النسيج الاجتماعي المتميّز، والتلاعُب به، فالروابط التي تجمع التونسيين كانت صمّام الأمان الذي أفشل محاولات عديدة لتفرقتهم وحصار طرف سياسي على حساب آخر، ما كان له الدور الأبرز في وصول الإسلاميين بقيادة حركة النهضة إلى الحكم لأول مرة في تاريخها عام 2011.
لكن بعد إعلان الرئيس قيس سعيّد عن انقلابه قبل أكثر من عام، أصبح النسيج الاجتماعي قاب قوسَين أو أدنى من التفكُّك، بسبب تنامي الخطاب الشعبوي الاستئصالي وبروز حركات وأشخاص يزعمون مساندتهم لسعيّد، ويتبنّون خطابًا متطرّفًا ضد فئات من الشعب التونسي وجهات دون أخرى، على غرار وصف سكّان مدينة الجرجيس بـ”الدواعش” من قبل أحد كبار منظّري ومفسّري الحملة التفسيرية للرئيس التونسي.
حملات التشفّي والسحل الإلكتروني والتشويه والدعوة إلى التصفية الجسدية لمعارضي سعيّد ونفيهم وشنقهم في ساحات عامّة، بالإضافة إلى تعزيز خطاب التفرقة بين الجهات، كانت السمة الأبرز لـ 15 شهرًا من الحكم الفردي المطلق.
تنامي الخطاب الشعبوي وتكرار القوالب الجاهزة التي تستهدف أصحاب الأموال والشركات ورجال الأعمال في تونس من قبل قيس سعيّد، الذي يصف نفسه بالمدافع عن الفقراء والمستضعفين، ساهم هو الآخر في زيادة منسوب الحقد والكره لرؤوس الأموال في البلاد، الذين صاروا يوصفون بأقبح الأوصاف على غرار “مفقّري الشعب” و”مصّاصي الدماء”، ما جعلهم عرضة للاستهداف المعنوي المباشر والحملات المنظّمة على شبكات التواصل الاجتماعي، والتي وصل بعضها للدعوة إلى افتكاك مشاريعهم وتأميمها نكاية بهم.
أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دعا قيس سعيّد من أسماهم “المواطنين الصادقين إلى تطهير البلاد من كل من عبثَ بمقدرات الدولة والشعب”، وهي دعوة غير مسبوقة من مسؤول سياسي في تاريخ تونس المعاصر، وهي دعوة صريحة للاقتتال والفوضى والحرب الأهلية، التي ستدمّر ما تبقّى من دولة تعاني من إفلاس غير معلن بسبب العزلة الدولية المفروضة عليها بعد انقلاب 25 يوليو/ تموز 2011.
حملات التشفّي والسحل الإلكتروني والتشويه والدعوة إلى التصفية الجسدية لمعارضي سعيّد ونفيهم وشنقهم في ساحات عامّة، بالإضافة إلى تعزيز خطاب التفرقة بين الجهات، كانت السّمة الأبرز لـ 15 شهرًا من الحكم الفردي المطلق، حُكم لم يتبرّأ من خطاب أنصاره بقدر ما تفاخر به متى ما سنحت له الفرصة لذلك.
اقتصاديًّا
خلال الأعوام الأخيرة، تعيش تونس أزمة اقتصادية خانقة لم تجد الأطراف الحاكمة حلولًا ناجعة لها، بل اجتهدت في تسكينها بعيدًا عن القيام بالإصلاحات الهيكلية والضرورية القادرة على تجنُّب الانهيار، وخوفًا من غضب شعبي عارم قادر على هدم البيت ومن عليه في أي لحظة.
ففي مناسبات عديدة، تجنّب البرلمان المنحلّ تمرير قوانين متعلّقة بإصلاحات اقتصادية في قطاعات معيّنة، خوفًا من اتحاد الشغل بالدرجة الأولى، والذي كان قادرًا على إسقاط حكومات وتعيين أخرى مثلما حدث في مناسبات عديدة وافتخر قياديوه بذلك، لكن كلّ شيء تغيّر بعد انقلاب سعيّد.
تصنيفات دولية سلبية، فيتو دولي على الاقتراض الدولي، عجز تجاري غير مسبوق في تاريخ البلاد، ارتفاع صاروخي في مستويات التضخّم، وشحّ في المواد الأساسية والأولية، كلّ هذا وأكثر زاد من شدّة تأزُّم الأوضاع الاقتصادية في البلاد التي صارت عاجزة عن تسديد ثمن مشترياتها من المواد الحيوية، على غرار الحبوب ومشتقّات النفط.
في ميزانية 2022 التي تمَّ إعدادها وتمريرها في جنح الظلام ومن دون مناقشة أهل الاختصاص، كما كان يحدث أمام عدسات الكاميرا في البرلمانات السابقة، حُدِّدت حاجات التمويل عن طريق اقتراض 20 مليار دينار (نحو 6 مليارات دولار) من بينها 12.7 مليار دينار اقتراض خارجي، لكن بحسب بيانات وزارة المالية المتعلقة بنتائج تنفيذ الميزانية إلى حدود شهر يونيو/ حزيران الماضي، لم تنجح الحكومة سوى في تحصيل 5.4 مليارات دينار من جملة موارد الاقتراض المفترض تعبئتها.
منظومة الدعم التي لم تستطع كل الحكومات المتعاقبة المساس بها، تعتبر صمّام السلم الأهلي والأمن الاجتماعي في بلد متوسط رواتبه من بين الأدنى في العالم.
أزمة اقتصادية غير مسبوقة وعجز في تعبئة الموارد الماليّة، كلّ هذا وأكثر جعل منظومة قيس سعيّد الحاكمة راضخة لكل إملاءات ومطالب صندوق النقد الدولي من دون استثناء، الذي توصّل في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري إلى اتفاق مع الحكومة التونسية على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار على 4 سنوات، وذلك عقب مفاوضات شاقّة انطلقت منذ شهر مايو/ أيار الماضي.
قرض لن يُصرَف إلا مقابل إصلاحات اقتصادية موجعة، تشمل التقليص من الدعم الموجّه للطاقة والغذاء، وتجميد للتوظيف في القطاع الحكومي وتجميد الأجور لـ 3 سنوات، إلى جانب إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وخصخصة بعضها؛ لن يحلّ مشكلة البلاد ولن يساهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بقدر ما سيزيد من تعميق أزماتها، وسيتسبّب في قلاقل اجتماعية على المدى القريب، فمنظومة الدعم التي لم تستطع كل الحكومات المتعاقبة المساس بها، تعتبر صمّام السلم الأهلي والأمن الاجتماعي في بلد متوسط رواتبه من بين الأدنى في العالم.
سياسيًّا
بعد نحو 55 عامًا من الجمود السياسي واستئثار الحزب الواحد والشخص الأوحد بالسلطة، عاشت تونس بعد 14 يناير/ كانون الثاني 2011 تنوّعًا فكريًّا وتنافسًا سياسيًّا وحزبيًّا وتداولًا سلميًّا على السلطة، وسط مناخ ديمقراطي بعيدًا عن سطوة العسكر وحكم الفرد المستأثر بجميع السلطات.
ورغم النقائص العديدة، والتجاوزات في كثير من المناسبات، والمناخ السياسي الذي عرفت بعض فتراته تعفّنًا وسخونة وتشاحنًا وصل حدّ تبادل العنف بين أعضاء البرلمان، إلا أن غالبية الأحزاب والسياسيين كانوا مجمعين على أن ذلك كان نتيجة حتمية وضريبة لديمقراطية ناشئة ما زالت تخطو خطواتها الأولى، في دولة عربية عانت لأكثر من 50 عامًا من ديكتاتورية بورقيبة وبن علي.
جهاز قضائي تنخره الصراعات والخلافات بات شبه عاجز عن مصارعة موجة الإعفاءات والمحاكمات التي تستهدف رموزه المستقلّة، ما ينبئ بمخاطر محدقة بالدولة التي باتت مهدّدة بالانهيار أكثر من أي وقت مضى.
3 انتخابات برلمانية و2 رئاسية نظّمتهما الهيئة المستقلة للانتخابات في تونس بعد 14 يناير/ كانون الثاني، جرى خلالها تسليم السلطة سلميًا، لكن كل ذلك انتهى بمجرّد الانقلاب الذي نفذه قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز الماضي، بعد استعانته بالقوّة الصلبة لإغلاق البرلمان وإقالة الحكومة، وإعلان إجراءات استثنائية والحكم بمراسيم رئاسية غير قابلة للطعن، تمهيدًا لإعلان دستور جديد للبلاد التونسية، كان قد كتبه سعيّد نفسه.
في دستوره الجديد الذي حوى ضمن فصوله منظومة حكم برلمانية هجينة وغير مسبوقة في العالم بأسره وغير قادرة على محاسبة الرئيس ومساءلته، حكمَ قيس سعيّد على الأحزاب التونسية بكبيرها وصغيرها بالإعدام السياسي، حيث نجح في إبعادها عن المشهد ومنعها من المشاركة فيها كأحزاب وازنة وفعّالة بالاستعانة بقانون انتخابي صيغ على المقاس، سيمكّن الناخبين من اختيار مرشحيهم على أساس فردي بدلًا من اختيار قائمة حزبية واحدة.
حكم فرديّ لا رقيب ولا حسيب عليه، بالتزامن مع تفكيك مبدأ الفصل بين السلطات، وأفعال لا قيود ولا رقيب عليها، وجهاز قضائي تنخره الصراعات والخلافات بات شبه عاجز عن مصارعة موجة الإعفاءات والمحاكمات التي تستهدف رموزه المستقلّة، ومحاكمات سياسية لرموز وطنية إسلامية وعلمانية معارضة للانقلاب، وغيرها من الوقائع والأحداث التي تعيشها الساحة السياسية التونسية اليوم، تنبئ بمخاطر محدقة بالدولة التي باتت مهدّدة بالانهيار أكثر من أي وقت مضى.