في استطلاع رأي أنجزه موقع “يو كوف” (You Gov)، في يوليو/تموز الماضي، بشأن المرشحين لخلافة بوريس جونسون على زعامة حزب المحافظين ومن ثم رئاسة الحكومة عقب تقديم استقالته، تصدرت 3 أسماء قائمة المرشحين وفق ما يحصلون عليه من دعم في الشارع البريطاني، الأول كان وزير الدفاع بن والاس بنسبة تبلغ 13% ثم سكرتيرة الدولة لشؤون التجارة الخارجية بيني موردونت في المرتبة الثانية بنسبة 12% وأخيرًا وزير الخزانة ريشي سوناك الذي حل ثالثًا بنسبة 10%.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي فشل سوناك في تحقيق حلمه في أن يصبح رئيسًا لحكومة بلاده عقب نجاح ليز تراس في الحصول على دعم الحزب، وبعد أقل من شهر ونصف تقريبًا، ها هو يفوز بزعامة الحزب ورئاسة الحكومة، بعد انسحاب جميع منافسيه، ليصبح أول رئيس وزراء بريطاني من أصول مهاجرة في تاريخ البلاد، فضلًا عن أنه أول رئيس وزراء غير أبيض يبلغ هذا المنصب.
يدخل سوناك التاريخ السياسي في بريطانيا من أوسع الأبواب، لكن نجاحه الذي كان يفترض أن يكون بادرة أمل للمهاجرين واللاجئين والأقليات في البلاد بحكم أنه من أصول هندية مهاجرة ويقف على معاناة هذه الشريحة، يبدو أنه سيثير المخاوف والقلق، فرئيس الوزراء المهاجر يعد من أشرس المناوئين للهجرة وأحد العنصريين المناوئين للاجئين، فضلًا عن مواقفه السابقة التي تتناغم مع هذا الاتجاه المعاكس.. فماذا نعرف عن الساكن الجديد لـ”داونينغ ستريت”؟
مناهض للاجئين وداعم لـ”إسرائيل”
ربما لم يفصح سوناك عن برنامجه الانتخابي في معركته الأخيرة للوقوف على مسارات فكره ورؤيته لبعض الملفات والقضايا الحساسة والجدلية، وذلك لضيق الوقت ولأن المسألة ربما كانت محسومة بعد انسحاب منافسيه، وعليه يمكن قراءة توجهاته الخاصة في إطار اتجاهات الحزب العامة، التي على رأسها بلا شك مناهضة اللاجئين والهجرة.
في يوليو/تموز الماضي وفي حملته الأولى أمام تراس، أكد سوناك أكثر من مرة عزمه على بذل الكثير من الجهد لكبح جماح المهاجرين واللاجئين القادمين من الخارج لبلاده، مؤكدًا على ضرورة تشديد إجراءات الاستقبال، وبالفعل كان أحد الداعمين لتوسيع قانون الترحيل نحو رواندا الذي أقره جونسون.
تعهد رئيس الوزراء الجديد، حين كان مرشحًا قبل 3 أشهر، بعمل كل ما يتطلبه الأمر لنقل أكبر عدد ممكن من اللاجئين إلى خارج البلاد، في إشارة إلى رواندا كمرحلة أولى لتخفيض أعداد اللاجئين والمهاجرين في بريطانيا، وكان له تصريح سابق قال فيه: “نظام الهجرة لدينا معطل وعلينا أن نكون صادقين بشأن ذلك. سواء كنت تعتقد أن الهجرة يجب أن تكون مرتفعة أم منخفضة، يمكننا أن نتفق جميعًا على أنها يجب أن تكون قانونية وخاضعة للرقابة”، مانحًا البرلمان صلاحية تحديد من يسمح له بدخول البلاد ومن سيتم رفضه.
وفي إطار توجهاته العنصرية كذلك، تعهد سوناك بالتركيز على الإسلاميين في خطة محاربة الإرهاب، مضيفًا صفة جديدة في مفهوم التطرف وهي “تشويه المملكة”، كما شدد على “مضاعفة الجهود لمواجهة التطرف الإسلامي”، وهو ما يعد امتدادًا لسياسة الاستهداف الممنهج للمسلمين في بريطانيا خلال السنوات الماضية.
وفي تعليقه على هذا التوجه وصف الناطق باسم “مجلس مسلمي بريطانيا” مقداد فيرسي، سوناك بأنه “يريد معاقبة الشخص الخطأ، ولن يكون ضحايا لهذه السياسة الجديدة غير المسلمين البريطانيين العاديين”، متسائلًا إن كانت هذه السياسة “ستشمل أولئك الذين لديهم آراء سياسية مناهضة للتاريخ الاستعماري لأمتنا أو الذين يكرهون النظام الملكي أو النشيد الوطني أو حتى إحدى فرقنا الرياضية الوطنية؟”.
وعلى مستوى القضية الفلسطينية، فإن سوناك أحد الداعمين لنقل سفارة بلاده إلى القدس التي يعتبرها عاصمة دولة الاحتلال، وقد عبر عن ذلك خلال جلسة حوارية نظمها جناح “أصدقاء إسرائيل في الحزب المحافظ” في أغسطس/آب الماضي، حين قال: “بالنسبة لي، لا خلاف أن القدس هي العاصمة التاريخية لإسرائيل، ويوجد دافع قوي لأن تكون كذلك، وما كنت أقوله إنني منفتح للنظر في نقل السفارة لأن هناك حجة قوية للغاية لاتخاذ هذه الخطوة التاريخية والعملية”.
مضيفًا “لم أكن يومًا وزيرًا للخارجية، لذلك لا أعلم ما طبيعة الأمور الحساسة التي تؤجل هذا القرار حتى الآن، لكن في حال فوزي بالانتخابات سوف أنظر في الأمر وأصدر القرار على الفور، كما فعل حلفاؤنا الأمريكيون”.
هندي الأصل
تعود جذور سوناك إلى منطقة البنجاب بالهند، حيث يعمل والده طبيبًا عامًا ووالدته لديها صيدلية خاصة تديرها بنفسها، وكلاهما قدما إلى بريطانيا من شرق إفريقيا حيث كانا يعملان هناك، ولد في ساوثامبتون (جنوب بريطانيا) عام 1980، والتحق بإحدى المدارس الخاصة المرموقة في البلاد وتسمى “وينشستر كوليدج” التي كان يلتحق بها الميسورون حالًا.
خلال مراحل التعليم الأساسي وفي العطل الصيفية عمل سوناك نادلًا في مطعم “كاري هاوس” في ساوثامبتون، ليس من باب حاجته للمال فهو ينتمي إلى أسرة ميسورة بحكم عمل والديه، لكنه كان يحب الاعتماد على نفسه منذ الصغر، وبعد انتهاء مراحل التعليم الأولى التحق بجامعة أكسفورد لدراسة السياسة والاقتصاد بجانب الفلسفة.
وخلال دراسته للحصول على الماجستير من جامعة ستانفورد، التقى بابنة الملياردير الهندي صاحب شركة خدمات تكنولوجيا المعلومات العملاقة “إنفوسيس”Infosys، نارايانا مورتي، التي تعرف عليها ثم تزوجا وكانت نقطة تحول في حياته حيث اعتمد على ثروتها في بناء شركاته الاستثمارية ومن ثم ثروته التي جعلته أحد أبرز الأثرياء في بريطانيا بأكملها.
عمل محللًا ماليًا في بنك “غولدمان ساكس” بين عامي 2001- 2004 وأصبح فيما بعد شريكًا في اثنين من صناديق التحوط “ما تُعرف بالمحفظة الوقائية هي صناديق استثمار تستخدم سياسات وأدوات استثمارية متطورة لجني عوائد تفوق متوسط عائد السوق أو معيار ربحي معين، دون تحمل نفس مستوى المخاطر”.
العمل السياسي.. رحلة ليست بالطويلة
دخل سوناك العمل السياسي مبكرًا، فلم يتجاوز عمره 30 عامًا حين التحق بحزب المحافظين عام 2010، الذي فاز بمقعد برلماني باسمه لدائرة ريتشموند في يوركشاير عام 2014، ليضع أولى أقدامه على المسار السياسي الذي قاده نهاية الأمر إلى “داونينغ ستريت” حيث مكتب رئيس وزراء بريطانيا.
عُين وزيرًا للإسكان في حكومة تيريزا ماي عام 2018، لكنه كان أحد أبرز المؤيدين لمغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي (بريكست)، معتبرًا أن بلاده ستكون أكثر حرية وازدهارًا بالخروج من التكتل، وكتب مع آخرين عدة مقالات يدعم من خلالها هذا التوجه الذي كان قد تبناه في ذلك الوقت بوريس جونسون الذي أصبح رئيسًا للوزراء خلفًا لماي.
لم ينس جونسون دعم سوناك له، ومع توليه الحكومة عينه في منصب كبير في وزارة المالية في يوليو/تموز 2019، ليصبح الرجل الثاني في وزارة المالية بعد ساجد جاويد، وبعد استقالة الأخير بعد أقل من عام على توليه منصبه بسبب صراع على السلطة داخل الحكومة، صعد السياسي الشاب ليصبح وزيرًا للخزانة في فبراير/شباط 2020.
لم يستمر سوناك كثيرًا في منصبه الوزاري، فقد استقال في يوليو/تموز 2022 في إطار موجة الاستقالات داخل الحكومة إثر تفجُّر فضيحة تستر رئيسها بوريس جونسون على معلومات بخصوص انتهاكات جنسية لأحد النواب المحافظين، وكانت استقالته أحد الأسباب الرئيسية التي ساهمت في سقوط جونسون كزعيم لحزب المحافظين ورئيس للوزراء.
الشعبية الجارفة التي حققها سوناك بسبب إدارته لاقتصاد البلاد خلال سنوات الجائحة دفعته لدخول الماراثون على رئاسة حزب المحافظين الصيف الماضي، بعد استقالة جونسون، وواجه منافسة شرسة أمام ليزا تراس التي نجحت في النهاية في الحصول عل دعم الحزب ومن ثم رئاسة الوزراء.
لم يفقد الوزير الشاب شغفه في زعامة الحزب، حيث خاض معركة جديدة قبل أيام بعد استقالة تراس بسبب فشلها في إدارة الملف الاقتصادي، لكنها المعركة الأقل شراسة، ففي أقل من 48 ساعة استقال المرشحان الأبرزان من السباق: الأولى بيني موردنت التي بررت انسحابها في بيان قائلة: “هذه أوقات غير مسبوقة. رغم الوقت الضيق للمنافسة على زعامة الحزب، من الواضح أن الزملاء شعروا بأننا بحاجة إلى يقين اليوم”، مضيفة: “لقد اتخذوا (أعضاء الحزب) هذا القرار بحسن نية لما فيه خير البلاد”، ومن قبلها جونسون الذي أوضح أن استقالته تأتي في ضوء التزامه “الحفاظ على وحدة الحزب” وأن طموحه للعودة إلى داونينغ ستريت “ببساطة لن يكون الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله”.
ومن هنا بات الطريق ممهدًا لوصول سوناك لمنصب رئيس وزراء بريطانيا، بعد حصوله على أصوات 155 نائبًا، وكان أول تصريح له بعد فوزه: “انتهى وقت السجالات الداخلية في الحزب (…) نحن بحاجة إلى التركيز على السياسات لا على الشخصيات وأناشدكم العمل من أجل الوحدة”، متعهدًا بأن يعمل يوميًا “لتقديم المساعدة للشعب البريطاني”.
الجائحة.. نقطة الصعود
لم يكن ليتبوأ ريشي تلك المكانة إلا بفضل جائحة كورونا (كوفيد-19) حيث كانت تمر البلاد كما حال بلدان العالم أجمع بأزمات اقتصادية حادة، كان لها انعكاساتها على الجميع دون استثناء، حينها أدار الرجل تلك الأزمة باحترافية عالية من الناحية العلمية والعملية، ليحافظ قدر الإمكان على وظائف المواطنين دون فقدانهم لها عكس الكثير من البلدان المجاورة.
وعلى الجانب الآخر قدم مساعدات للفئات الأكثر احتياجًا وقروضًا بتسهيلات غير مسبوقة للشركات المتضررة من إجراءات الإغلاق، كما قدم العديد من الخطط والبرامج الاقتصادية لعبور تلك الأزمة دون الإضرار بالمواطنين، ما زاد من شعبيته وجعله محل ثقة لدى الشارع البريطاني.
حتى حين استقال من منصبه كوزير في حكومة جونسون لاقى استحسانًا ودعمًا كبيرًا من البريطانيين الذين رأوا أنه ما فعل ذلك إلا انتصارًا لرؤيته الاقتصادية ومصلحة البلاد العليا التي هددها رئيس الوزراء بخرقه قواعد العلم الحكومي وإجراءت الحظر، وهو ما أثر بشكل كبير على سمعة ومكانة جونسون.
بعد خسارته أمام تراس في معركة زعامة الحزب الصيف الماضي، توقع البعض أن مستقبله السياسي قد انتهى، أو على الأقل تجمد مرحليًا، غير أنه ومع اليوم الأول لتولي تراس المسؤولية قاد حملة انتقادات ضدها، متهمًا خططها الاقتصادية بأنها غير واقعية وستزيد من تفاقم أزمات البلاد، خاصة مسألة تعظيم الضرائب المفروضة على المواطنين، وهي الخطة التي لاقت رفضًا شعبيًا وأدت في النهاية إلى استقالة رئيس الحكومة بعد أيام على توليها منصبها.
ومع صدق توقعات سوناك بشأن فشل خطة تراس الاقتصادية واستقالة الأخيرة لاحقًا، غير قادة الحزب رؤيتهم بشأن الوزير الهندي، إذ استقر في يقينهم أنه رجل تلك المرحلة الصعبة، التي تحتاج إلى فكر اقتصادي متطور قادر على إخراج البلاد من هذا المأزق بإجراءات وأدوات لا تستفز الشارع ولا تسحب من رصيد شعبية المحافظين لدى الشعب، لذا وقع الاختيار عليه رغم خصوصية حالته كونه من أصول مهاجرة.
الهندوسي “ريشي سوناك” أول رئيس وزراء بريطاني من أبناء الأقليات.
ليس خبرا جيدا بحال، فعقدة إثبات الوطنية سيجسّدها بعداء المهاجرين، وسيقف بالضرورة مع الكيان الصهيوني؛ تبعا لمزاج الحزب ولأجل استقطاب اللوبي أو تجنّب غضبه.
هل سيحل معضلة إمبراطورية عجوز هاجسها التصابي؟
لا أعتقد ذلك.
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) October 24, 2022
مخاوف العرب والمسلمين
في الأمور الطبيعية كان يتوقع أن صعود سوناك كرئيس للحكومة سيحمل معه التفاؤل للمهاجرين واللاجئين بصفته واحدًا منهم، لكن الخلفية السياسية للرجل ومواقفه السابقة تزيد من المخاوف بشأن أن يكون ترسًا في عجلة المحافظين المعروف عنهم مناهضتهم للاجئين.
فتجاهله لتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا ثم الحديث عن ضرورة توسعة استهداف المسلمين ضمن خطة محاربة الإرهاب المزعومة ربما تعطي نبذة عن عقلية رئيس الوزراء الجديد الذي من الواضح أن عينيه على دعم اليمين المتطرف الذي لن يكون إلا بإعلاء خطاب الشعبوية والقومية واستهداف الأقليات العرقية والدينية.
وكانت قد سجلت الشرطة البريطانية العام الماضي 2021 نحو 124091 جريمة كراهية في إنجلترا وويلز، كان للمسلمين النصيب الأبرز منها، حيث تعرضوا لـ45% من الجرائم، وفي تقرير آخر لمجلس العموم البريطاني، أشار إلى أن المسلمات كنّ الأكثر عرضة للتمييز، مقارنة بسيدات الديانات الأخرى.
من المبكر الحكم على ريشي سوناك كرئيس للوزراء، إذ ربما يتطلب المنصب الجديد ومسؤولياته العامة إحداث حالة من التوازن في التوجهات بما ينعكس على قراراته وسياسته الخارجية، مقارنة بالفكر الأحادي الحزبي الخاضع لاعتبارات أيديولوجية ضيقة، غير أن سيطرة “الشعبوية” على عقليته (كما اتضح من مواقفه السابقة) وعقلية الحزب الذي ينتمي إليه (المحافظين) هو ما يثير القلق، خاصة في ظل تلك الظروف الاستثنائية التي تمر بها الحكومة الساعية بلا شك إلى كسب دعم اليمين المتطرف صاحب الصوت الأعلى ولو كان ذلك على حساب الأقليات، لتبقى الأسابيع الأولى من حكمه هي محك التقييم الأساسي.