مرت تونس مؤخرًا بمرحلة هامة في مسيرة الانتقال الديمقراطي بنجاحها في امتحان الانتخابات التشريعية والدور الأول من الانتخابات الرئاسية، مرحلة رغم كونها لم تنته بعد في انتظار إنجاز الدور الثاني، إلا أنها كشفت عن مشهد سياسي جديد سمته قطبية كلاسيكية يُؤثثانه جناح المحافظين عبر حركة النهضة التونسية وجناح الدستوريين أو النظام القديم بعد عمليات تجميل ونقصد نداء تونس.
بالرجوع الى دفاتر التاريخ الحديث خاصة إثر انقلاب 7 نوفمبر 1987 (الانقلاب الذي قام به الجنرال بن علي على الحبيب بورقيبة)، نجد أن هذه القطبية ليست بجديدة ونجد أيضًا أن تصادم مُكونيها، بغض النظر عن الأسباب والسياقات؛ أدى إلى انهيار الحلم الديمقراطي وأفضى إلى ما يُعرف بعسكرة البلاد وإالى الحكم الجبري الذي أفسد وقتل وشرد وعذب.
من أجل كل هذا وحتى لا يُعاد إنتاج التاريخ في شكل مهزلة، كثُر الحديث مؤخرًا عن تسوية تاريخية بين القطبين، تسوية تُجنب البلاد الدخول في مسار معلومة هي نقطة بدايته ولا يعلم أحد كيف ومتى ينتهي.
حتى لا نسقط في أزمة للمفاهيم، تجدر الإشارة الى أن التسوية كما أُعرفها وأعنيها لا تتعلق بأي شكل من أشكال المحاصصات الحزبية الظرفية، وليست مرتبطة باقتسام مغانم السلطة، وإنما هي رؤية سياسية إستراتيجية قوامها الاعتراف بالآخر والتكامل معه في مسألة البناء … إن عرفناها بالأضداد يُغنينا القول بأنها “نقيض الإقصاء والدفع نحو العزل المُتبادل”.
أتناول بالتحليل ملف التسوية في تونس على مقالين، اُخصص هذا المقال لبيان ضرورتها على مختلف الأصعدة وأُخصص التالي للحديث حول شروط قيامها والعراقيل المنتظر أن تواجهها .
التسوية ضرورة جيوإستراتيجيّة
حينما نُعيد تشكيل منطقة شمال أفريقيا باعتماد مُؤشرات حضور الإرهاب والتأزم وانعدام الاستقرار السياسي؛ سنلحظ بسهولة أننا إزاء مشهد غير مستقر، معدلات الخطر فيه عالية، في أقصى الشرق تلوح ليبيا التي تشهد يومًا بعد الآخر مضيًا واثقًا نحو نقطة اللاعودة وترسيخًا لصراع الغاب وتثبيتًا لمُعطى انهيار الدولة وتثبيطًا لأي أمل قد يحدو المتفائلين بغد مشرق لهذه الدولة المُنهارة … من الجنوب منها صحراء مفتوحة على التشاد والنيجر وهي دول تشهد بدورها حربًا على الإرهاب … إلى الغرب قليلاً نجد تونس التي تشهد هي الأخرى حربًا على الإرهاب خاصة في مناطق تماسها مع الجزائر التي تُسجل منذ عقدين من الزمن إلى يوم الناس هذا عمليات إرهابية تستهدف قوات الدّرك والجيش .. بالإضافة لما يُشاع من توازنات هشة بين بعض الجنرالات وبين مناطق نفوذهم و التي تُنبئ بزلزال محتمل متى اختلت هذه التوازنات … ثم نضيف الحرب الباردة بين الجزائر والمغرب التي ترتفع حرارتها بين الفينة والأخرى بسبب صحراء البوليساريو .. باختصار خريطتنا المُشكّلة لونها أحمر داكن مع بعض السّواد.
لما سبق، يصبح استقرار أي دولة من دول شمال أفريقيا ضرورة قصوى لتأثيره الإقليمي المباشر على دول المنطقة، انهارت ليبيا فنشطت تجارة السلاح ونال الإرهاب من الدولة وأثر على المنطقة برُمتها، ولولا تواصل الدولة في تونس لكان المشهد أعقد بكثير ولذلك سيدفع كل المُهتمين بهذه المنطقة نحو تعزيز استقرارها (تونس) حتى لا يُعمم الاستثناء الليبي وحتى يُطوق هذا الانفلات ولا استقرار بدون هدوء.
دول كالجزائر، التي لا تريد أن تستنزف مجهوداتها في التعاطي مع تأزم ممكن في تونس، أو كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، المتورطان حتى النخاع في حربهما على داعش واللذان لن يرحبا بواجهة توتر جديدة تهدد مصالحهما في المنطقة، تعلم (هذه الدول) أن استقرار تونس سيساعد على فرض الاستقرار في باقي دول الجوار، وتعلم أيضًا أنه لا استقرار دون ضمان عدم تصادم أكبر قوتين اجتماعيتين في البلاد، المُحافظين والدستوريين، وبهذا المعنى تصبح التسوية مطلبًا دوليًا وضرورة جيوإستراتيجية تتجاوز الحالة التونسية في ذاتها.
التسوية ضرورة سياسية
كما سبق وأشرنا في مقدمة المقال، أدى التصادم في تسعينات القرن المنقضي بين التيار المحافظ والتيار الدستوري أو التّجمعيين إلى محرقة أليمة عصفت بالساحة السياسية ككل وأعلنت تواصل حقبة الحزب الواحد والنظام الرئاسوي الديكتاتوري، ومن الحمق إعادة التجربة بنفس الأسلوب ونفس المعطيات وتوقع نتيجة مغايرة.
المواجهة بين هاتين القوتين المجتمعيتين سببت فيما مضى تقسيمًا عنصريًا للشعب الواحد، تقسيم وجّه عشرات الآلاف إلى السجون والمنافي والمقابر أيضًا، حارمًا البلاد من كفاءات معتبرة وناحتًا في الذاكرة الجمعية ضغينة وحقدًا بين الجلاد وبلاطه من جهة والمجلود من جهة أخرى.
تصادم الأجسام الكبيرة يؤدي إلى الانفجار، هذا ما تقوله الفيزياء وما أثبته التاريخ، انفجار لا يبقي ولا يذر ويأتي على الأخضر واليابس، والديمقراطية الناشئة اليوم في تونس لن تقدر حتى على الهزات الخفيفة فما بالك بالانفجارات.
التسوية ضرورة سياسية لأن نقيضها، أي المواجهة والتصادم، نتيجته صفرية وهو بلا مبالغة معركة تكسير للعظام ستنتهي بالرجوع إلى المربع الأول بعد أن تغلق دكاكين الأحزاب كلها، حتى دكاكين السُّذّج الذين قد يدفعون لإشباع نزوة أيديولوجية عابرة، نحو الصدام الأكبر، باختصار عدم المضي في التسوية هو الخراب الذي سيعصف بالدولة وبالديمقراطية والذي سينهي العملية السياسية برمتها.
التسوية ضرورة اقتصادية
أفرزت الانتخابات التشريعية خارطة سياسية جديدة حسب مناطق الحضور الشعبي للأحزاب، إذ تقدمت حركة النهضة كثيرًا على حزب نداء تونس في الجنوب في حين انقلبت الآية في مدن الساحل والشمال .
مدن الجنوب التي انطلقت منها على مر التاريخ أغلب الحركات الاحتجاجية ضد السلطة وحتى ضد الاستعمار، تُسجل فيها اليوم أعلى نسب البطالة ومستويات السخط على دولة ما بعد الاستقلال التي مارست ضدها تهميشًا ممنهجًا؛ ما أفضى إلى تشكل مزاج عام سهل الغضب والغضب الجاد.
نظرًا للحيف الذي فُرض على هذه المناطق، من المُنتظر أن تكون منبعًا لمطلبية اجتماعية مشروعة لكنها ستكون مؤرقة لأي حكومة ستنتصب بعد الانتخابات خاصة مع ما ينتظرها من إصلاحات عميقة ستكون موجعة للجميع وخاصة لأهالي المناطق المهمشة وهو ما قد يُربك مسار هذه الإصلاحات .
حركة النهضة في تقديري هي الأقدر على تأطير واستيعاب الغليان الشعبي المُنتظر في الجنوب بحكم الحضوة الشعبية التي تمتلكها، وهي الأقدر على إذكائه أيضًا متى شعرت بالخطر، غليان سيعصف بأي محاولات لإنقاذ الاقتصاد الوطني؛ وبهذا المعنى يتوضح البعد الاقتصادي لضرورة التسوية … لا اقتصاد بدون تضامن شعبي ولا تضامن شعبي بدون تسوية .
التسوية ضرورة اجتماعية
عندما نحاول تحليل أسباب نجاح تجربة التحول الديمقراطي في تونس على عكس باقي دول الربيع العربي، سنلاحظ بلاشك غياب بعض الآفات كالقبلية والطائفية، تونس ورغم حدة السجال السياسي ما بعد الثورة، حافظت على تماسك نسيجها المجتمعي؛ ما حصنها من آثار الهزات المتتالية.
مرادف التسوية السياسية في المعجم المجتمعي هو الحفاظ على هذا التميز التونسي (الوحدة الوطنية) الذي لعب دور بوليصة التأمين طيلة السنوات الثلاث الماضية ومازلت تحتاجه تونس أكثر من أي وقت مضى.
في غياب التسوية يحضر الصدام ذو النتيجة الصفرية، وفي حضور الصدام المجتمعي يكون هنالك منتصر ومنهزم، ثم شرخ وهوة ونقمة بين الاثنين؛ وبالتالي تستبدل وحدة الشعب الواحد بصدام شعبين.
في ختام هذا المقال، أقول إن التسوية التاريخية بين المحافظين وورثة النظام القديم قد تسقط من غرابيل التكتيك أو قد لا تستهوي المندفعين إلى الأمام دومًا دون أفق سياسي ملموس، لكن وجوبها إستراتيجيًا على المدى المتوسط والبعيد يُرى بالعين المجردة … خط الثورة كان سلميًا وقدر هذه الثورة أن تتقدم ببطء نحو تحقيق هدفها الأكبر من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية .
بعد الاتفاق حول الفكرة، ما هي شروط تحقيق التسوية في تونس؟ ما هي معوقاتها؟ ماذا قدم كل طرف من أجل هذه التسوية وما هي انعكاسات الراهن السياسي على فرص نجاحها؟
أُحاول الإجابات عن هذه الأسئلة في الجزء الثاني من هذا المقال والذي سينشر يوم الإثنين القادم إن شاء الله.