صناعة الورق هي من المهن العريقة في مصر، بدأت منذ عهد محمد علي باشا، ثم تطورت بشكل كبير في عهد الخديوي إسماعيل الذي أراد إنهاء معاناة استيراد الورق، وبالفعل أنتجت مصر من الورق ما جعلها تستغني عن الورق المستورد من أوروبا.
وأخذت الصناعة تزدهر بشكل أكبر منذ نهاية القرن التاسع عشر ومع بداية القرن العشرين، وتشير الدكتورة إيمان التهامي في دراستها “تاريخ وتطور صناعة الورق والطباعة في مصر” إلى أن صناعة الورق بمختلف أنواعه كانت من أهم الصناعات التي ازدهرت بعد ثورة 1919، وتكوّنت مصانع الورق من المشاريع الصغيرة وبلغ تعدادها 2300 مشروع، إضافة إلى المشاريع الكبيرة.
كانت صناعة الورق مُهتمًّا بها في السابق، حيث عُدّت من الصناعات الاستراتيجية لأنها تدخل في معظم احتياجات الحياة الأساسية، فلا يخلو البيت المصري من الورق، والدفاتر، والكتب، والكراريس، والإيصالات، والورق الصحي، ومواد التعبئة والتغليف، كل هذا تجمعه مادة واحدة هي صناعة الورق، ولكن هذه الصناعة أُهملت وتدهور حالها عقب النُّظُم المتعاقبة منذ عام 1952.
اغتيال صناعة الورق
مثل العديد من المجالات الصناعية التي راحت ضحية السياسات الاقتصادية للنظام الحاكم، مرّت صناعة الورق بأسوأ حالتها بعد تعويم الجنيه المصري عام 2016، وأصبح هناك تهديد من جميع النواحي نتيجة الارتفاع المستمر لسعر الدولار مقابل انخفاض الجنيه المصري.
في إطار ذلك، تعثّرت عدة شركات، بعضها أغلق أبوابه كليًّا أو جزئيًّا، مثل “الشركة العامة لصناعة الورق راكتا” توقفت عن الإنتاج منذ عام 2019، وكانت تعدّ من أكبر الشركات في صناعة الورق بمصر والشرق الأوسط، تجاوز عمرها 60 عامًا، والبعض الآخر توقف عن الإنتاج بشكل كامل مثل شركة سيمو للورق، وبعض المصانع الأخرى قلّصت من حجم عمالتها ومن طاقتها الإنتاجية، وفي حالة استمرار الوضع الحالي دون أي تغيير، فإن العديد من المصانع مهددة بالإغلاق.
بجانب ذلك، يعاني السوق المصري مؤخرًا من زيادة وصلت لنحو 70% بأسعار الورق نتيجة انخفاض العملة المحلية أمام الدولار، قبل 3 أشهر كان ثمن طن الورق المستورد قرابة 15 ألف جنيه، وخلال الأيام الحالية تجاوز سعره 40 ألف جنيه، ويتوقع أن يرتفع خلال الأيام القادمة، كذلك تضاعف سعر خامات الورق في الفترة الأخيرة بشكل جنوني، وهذا الارتفاع سيلقي بظلاله على كل أسعار السلع التي تعتمد على الورق، فالورق لا غنى عنه كاستخدام يومي داخل في كل شيء، ولا يوجد منتج لا يتم وضعه في ورق أو كرتون بعد التغليف والتعبئة.
زادت الحرب الروسية الأوكرانية من هذه المأساة، حيث ارتفعت أسعار الورق عالميًّا بما يزيد عن 15%، وزادت تكلفة الشحن والإنتاج، فضلًا عن أن الحظر على روسيا التي تعتبَر واحدة من أهم مصادر الخشب والورق عالميًّا، قد ساهم في تفاقم الأزمة المتدهورة بالأساس.
الحلقة المفقودة
بسبب عدم وجود إنتاج قوي يغطي احتياجات السوق المحلي، يتم الاعتماد بشكل كبير على الاستيراد، مصر دولة مستهلكة للورق وضعيفة جدًّا في صناعته، حوالي 100 مصنع ورق، وعدد عاملين بها يزيد على 55 ألف عامل لا يغطون احتياجات البلد، فحتى الورق المحلي لا يكفي لطباعة الكتب الدراسية التعليمية والمستندات الورقية الحكومية، رغم أن حجم طباعة الورق في الكتب المدرسية يقلّ عامًا بعد آخر، نتيجة اتجاه الدولة نحو التعليم الإلكترونى فى السنوات الأخيرة، ويشير البعض إلى أن هذا الأمر دمّر بعض المصانع التي كان اعتمادها الأساسي على طباعة الكتاب المدرسي الحكومي.
يقدَّر العجز السنوي لإنتاج الورق المحلي بحوالي 325 ألف طن، حيث تستهلك مصر نحو 450 ألف طن من الورق سنويًّا، وتنتج نحو 125 ألف طن، وتستورد باقي احتياجتها الـ 72% من العديد من الدول، أشهرها إندونيسيا والصين وأمريكا وإسبانيا، ويلاحَظ وجود فرق شاسع بين الإنتاج والاستهلاك، لكن اللافت أن هذا الإنتاج المحلي الضعيف يعتمد بشكل أساسي على مصنعَين، هما مصنع قنا ومصنع إدفو.
في معظم الحالات، تستورد مصر المعدّات والماكينات والمواد الخام، لأن المادة الخام المصرية ضعيفة جدًّا، ولا يوجد بمصر خامات ورق أو أي نوع من مصادر إنتاج الورق غير “مصاص القصب” (منتج ثانوي من صناعة السكّر) واستخدامه محدود في هذه الصناعة، لهذا يتم استيراد جميع خامات الورق بالكامل، فحتى الورق المصنوع محليًّا يعتمد على استيراد المادة الخام، وبالتالي يتأثر بارتفاع سعر الدولار.
معظم المستثمرين لا ينظرون إلى ميدان الورق كاستثمار أو كصناعة استراتيجية، إضافة إلى أن صناعة الورق تحتاج إلى استخدام كميات كبيرة من المياه والطاقة، وسعرهما مرتفع في مصر، لهذا يشير البعض إلى وجود العديد من العقبات والقوانين التي تعوق هذا الاستثمار، مثل معاناة البيروقراطية، وقوانين الجمارك، وضريبة القيمة المضافة، وتأخر تغذية الكهرباء لبعض المصانع، وارتفاع تكاليف التطوير والتحديث والمواد الخام.
ويذكر المهندس علاء السقطى، رئيس اتحاد مستثمري المشاريع الصغيرة والمتوسطة، أن هناك مصنعًا في مدينة قنا ينتج الورق على مستوى عالٍ، لكنه متعثّر نتيجة العديد من هذه المعوقات، إضافة إلى أن العديد من المصانع أصبحت مهدَّدة بالإفلاس بسبب الارتفاع الهائل والمفاجئ فى أسعار الخامات، وعدم قدرة هذه المصانع على الوفاء بالتعاقدات المبرمة قبل ارتفاع الأسعار.
بين الصناعة الوطنية والاستيراد
كل مصانع الورق بمصر تعتمد بشكل أساسي على إعادة تدوير ورق المخلفات والبواقي الورقية المستعملة، ويتمّ استيرادها من الخارج، تسمّى “ورق الدشت” يتمّ شراؤه بالطن وعمل إعادة تدوير له.
وهذا المنتج المصري المعتمِد بنسبة 100% على مدخلات الخارج غير قادر على منافسة المنتج المستورَد، لكن اللافت أن المنتَج المصري ترتفع تكلفة إنتاجه لتصل إلى سعر المنتَج المستورد وأحيانًا أغلى منه، هذا مع كونه رديئًا ويشوّه جودة المنتج إذا اُستخدم في الطباعة بحسب بعض الناشرين، وبالتالي يزداد الطلب على المنتج المستورد الأفضل جودة وسعرًا، ومن ثم تزداد الفجوة بين المنتج المحلي واحتياجات السوق.
ولذا يشير أحمد جابر، رئيس غرفة صناعة الورق باتحاد الصناعات المصرية، إلى أن معظم مشكلات صناعة الورق في مصر تتعلق بارتفاع أسعار الطاقة في السنوات الأخيرة، وفرض ضريبة القيمة المضافة، وبالتالي هذا الأمر يزيد من تكلفة إنتاج الورق المصري ولا يستطيع أن يقدّم قيمة مقابل سعر المستورد.
الأزمة القادمة
رغم اجتياح الإنترنت والهواتف الذكية وانخفاض الطلب على الكتب الورقية، إلا أن صناعة الورق ما زالت تشهد ازدهارًا عالميًّا وزيادة في الطلب، يبدو أن الكتاب الورقي ما زال يحتفظ بسطوته الثقافية والتعليمية، وما زال يمثل مصدرًا أعلى للربح من نظيره الإلكتروني.
أزمة الورق موجودة في مصر منذ تعويم الجنيه، لكنها تفاقمت اليوم بشكل كبير، وللأسف إن أكبر المتضررين من هذه الأزمة هم العاملون بصناعة النشر، والمشكلة الأكبر حاليًّا بالسوق المصري هي وجود نقص في الورق بسبب ظروف الاستيراد الصعبة التي أوجدتها الحكومة، ما ساهم في تفاقم الأزمة لأن الورق المحلي لا يكفي 50% من احتياجات دور النشر المحلية، إضافة إلى أن مصر دولة غير منتجة لمستلزمات إنتاج الكتاب.
وبالتالي دخلت دور النشر في أزمة حادة، خصوصًا مع ارتفاع سعر المواد الخام، وما تتكلّفه من دفع رواتب الموظفين، وإيجار مكتب ومستودع، وضرائب، وعدم التوفيق بين حجم المبيعات والتكاليف التي يتمّ إنفاقها، إضافة إلى ارتفاع أسعار إيجارات الأجنحة في معارض الكتب، مع ملاحظة أن الكثير من دور النشر تعتمد على مواسم معارض الكتب لتغطية النفقات.
ولذا من المتوقع أن الآثار الناجمة عن أزمة الورق ستظهر بوضوح في معرض الكتاب المُقبل بعد 3 أشهر، وهذا يعني أن سعر الكتاب سيتضاعف عن الموسم السابق، وقد لا تتحمل العديد من دور النشر كل هذه الارتفاعات الحالية، ومنها بالفعل وجدت نفسها تتعرض لخسائر كبيرة لا تستطيع معها الاستمرار، فاضطرت لتقليص عدد العاملين المحترفين وإغلاق فروع لمكتباتها، ووفقًا لإحصائية اتحاد الناشرين العرب، فإن نحو 35% من دور النشر الصغيرة هجرت المهنة وأغلقت أبوابها مؤخرًا، فضلًا عن وجود دور نشر كبيرة عارضة نفسها للبيع.
هذه التحديات دفعت الكثير من دور النشر لتخفيض إنتاجها ورفع أسعار الكتب، لكن الأهم هو أن تبعات هذه الأزمة ستنعكس بشكل سلبي على محتوى الكتب، حيث بدأت بعض دور النشر تعويض هذه الخسائر من خلال المنطق التجاري، كالاعتماد على الكتب المثيرة والمطلوبة شعبيًّا والتي تبيع كثيرًا، والاكتفاء بالكتّاب أصحاب المبيعات أو من يملكون جمهورًا ينتظر كتبهم الجديدة، إضافة إلى فرض بعض دور النشر على المؤلف النشر على حسابه أو المشاركة في تحمل جزء من نفقة النشر والتوزيع، والعديد من دور النشر اعتذرت عن عدم قبول أعمال جديدة، ولذا من المتوقع ألا يتضمّن المعرض القادم الكثير من المؤلفات والعناوين الجديدة.
بعض دور النشر مثل دار العربي، لجأت لطرح الكتب الخاصة بها إلكترونيًّا على منصات وتطبيقات البيع الرقمي، لكن حتى هذا الحلّ لم يسهم في التعافي من الأزمة الحالية، لكنهم كانوا مجبرين عليه لسداد جانب من الالتزامات.
ويشير إسلام عبد العاطي، صاحب دار نشر روافد، إلى أن انهيار العملة محليًّا مع التضخم وارتفاع سعر الفائدة والصرف، تسبّب في أن ترتفع قيمة الورق بما يقدَّر بـ 70%، ولذا يرى أن الحل هو أن تقوم الدولة بتقليص الجمارك على شحنات الورق لتخفيف السعر وتجاوز خطر التعرض للإفلاس.
الكتاب هو منتَج استراتيجي مفترض أن توجّه إليه برامج الدولة لتنمية المجتمع والفرد، وصناعة النشر هي بالأساس حماية للأمن القومي الثقافي وأفضل وسيلة للاستثمار في الإنسان، بل إن التنمية الثقافية هي أساس أي تنمية اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
ومن اللافت أن عدد المكتبات في مصر قليل جدًّا لا يتناسب مع عدد السكان، فضلًا عن غياب النشاط والدور المجتمعي للمكتبات الموجودة، في المقابل تتدخل حكومات الدول الغربية على خط دعم صناعة النشر، ولذا يعتمد الناشر الأجنبي على المؤسسات الرسمية مثل الجامعات والمكتبات العامة التي تؤدي دورها الطبيعي بعكس الحال في مصر.
أولويات المجتمع المصري في الثقافة تراجعت تحت ضغط تلبية احتياجات المعيشة الأساسية وتأمين القوت أو كفاف اليوم، الدخل الشهري للشريحة الأكبر في المجتمع لا يكفي لشراء كتاب واحد، ما يعني أن الكتاب أصبح آخر شيء يفكر فيه الإنسان المصري، فألم البطن أهم من ألم العقل.
لكن المشكلة أن النسبة القارئة من المجتمع أصبحت مهددة بانسحابها من القراءة، الكتاب أصبح أضعاف سعره سابقًا، مع ملاحظة أن معظم رواد معارض الكتب هم من الشباب، وسيكون في غير مقدورهم شراء كتاب قد يصل سعره إلى 200 جنيه أو أكثر.
بالتأكيد الكتاب ليس من أولويات النظام الحاكم، ويبدو أن الدولة تنظر إلى صناعة النشر بصفتها ترفيهية ليس لها نفس أهمية السلع الأساسية، فحتى عملية استيراد الورق تخضع لعدة إجراءات كأنها مثل المنتجات الأخرى تدفع الضرائب والرسوم، ولذلك لا تهتم الدولة بسنِّ قوانين وتسهيلات تساهم في نهضة هذه الصناعة، أو على الأقل النظر إليها كقوة ناعمة وواجهة ثقافية لتشكيل الوعي المجتمعي، وأيضًا عنصر تصديري من الممكن أن يُدخِل إلى الدولة عملة أجنبية.
ومن اللافت أن المدن الجديدة التي يبنيها النظام الحاكم تخلو تمامًا من المكتبات، بجانب أن المجال الثقافي غير حاضر في وسائل الإعلام، برامج الكتب شبه غائبة، ولا توجد أسواق ولا دعم من الحكومة ولا برامج يومية مجانية للقارئ مثل المعمول بها في الخارج، ومن السخرية أن أول شيء يتم تخفيضه من ميزانية الدولة هو من وزراة الثقافة، وأول ما تقوم به وزارة الثقافة هو تخفيض ميزانية مؤسسات النشر التابعة لها، وبالتالي تخفض ميزانية شراء الكتب.
إضافة إلى أن سلطوية الدولة على الكتاب والنشر ما زالت تمارَس بقوة، حيث قام النظام الحاكم بتضييق الخناق حول هذه الصناعة من خلال سلسلة الرقابات المشددة على الكتب من قبل وزارة الثقافة نفسها ومن قبل وزارات أخرى، بجانب القيود على الأعمال الإبداعية والمصنّفات الفكرية، والارتفاع المستمر للضرائب والرسوم على مستلزمات إنتاج الكتاب.
مع الأسف، فقد جرى تشميع العديد من المكتبات وتسريح العاملين فيها من قبل الأجهزة الأمنية، كما صدرت مجموعة قرارات حكومية بإغلاق مؤسسات ثقافية ومكتبات عامة ومصادرة كتب واعتقال كتّاب وأصحاب دور النشر، ما ساهم أكثر في بتر صناعة النشر.