من المتوقع أن تحتضن منطقة “رأس الناقورة” الحدودية بين “إسرائيل” ولبنان مراسم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين يوم غد الخميس 27 أكتوبر/تشرين الأول، حسبما قال الوسيط الأمريكي، عاموس هوكستين، الذي أكد أن الطرفين سيوقعان على الاتفاقية بشكل منفصل.
وذكرت قناة (كان) الإسرائيلية الرسمية، أن التوقيع لن يأخذ الشكل البروتوكولي الرسمي بحضور ممثلي البلدين كما هو متعارف عليه في مثل تلك الاتفاقيات، لكن كل طرف سيوقع أمام الوسيط الأمريكي على حدة، بينما لن تكون هناك أيضًا صور مشتركة للأطراف الموقعة مع الوسيط الأمريكي.
وكان الرئيس اللبناني ميشال عون، قد أعلن في 13 أكتوبر/تشرين الأول الحاليّ، موافقة بلاده على الصيغة التي أرسلها هوكستين بشأن الاتفاق، واصفًا إياها بـ”المرضية”، فيما وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد الاتفاق بـ”التاريخي”.
وعلى مدار أكثر من عامين كاملين خاض البلدان مفاوضات غير مباشرة بوساطة أمريكية متعددة الأشخاص والمبادرات، للوصول إلى اتفاق مقبول لدى الطرفين بشأن ترسيم الحدود في منطقة غنية بالنفط والغاز الطبيعي بالبحر المتوسط تبلغ مساحتها 860 كيلومترًا مربعًا.. فما تفاصيل هذا الاتفاق؟
اتفاق ملغوم
تنقسم مسودة الاتفاق المرسلة لكل من لبنان و”إسرائيل” كما نشرتها وكالة “الأناضول” إلى 4 أقسام رئيسية تحدد أبرز ملامحه الفنية وطريقة التعامل مع بنوده من الجانب الإداري والتقني والقانوني، يتطرق القسم الأول إلى طريقة إنشاء خط الحدود البحرية المزمع التي تستند إلى الإحداثيات المتفق عليها لجميع النقاط باتجاه البحر من أقصى نقطة في الشرق من خط الحدود البحرية، ودون المساس بوضع الحدود البرية.
وحتى تحديد تلك المنطقة بعد إقرار الاتفاق “يتفق الطرفان على أن الوضع الراهن بالقرب من الشاطئ، بما في ذلك على طول خط العوامة الحاليّ وكما هو محدد بواسطة خط العوامة الحاليّ، يظل كما هو، رغم المواقف القانونية المختلفة للأطراف في هذه المنطقة، التي لا تزال غير محدودة”.
وينوه هذا القسم إلى أن “الإحداثيات الواردة في اتصالات كل طرف في الأمم المتحدة والمشار إليها في القسم 1 (ج) تحل محل (1) الإحداثيات الواردة في 12 يوليو/تموز 2011 التي قدمتها “إسرائيل” إلى الأمم المتحدة فيما يتعلق بالنقاط المسماة 34 و35 و1 في هذا التقديم، و(2) الرسم البياني والإحداثيات الواردة في تقديم لبنان بتاريخ 19 أكتوبر/تشرين الأول 2011 إلى الأمم المتحدة فيما يتعلق بالنقاط 20 و21 و22 و23 في هذا التقديم. لا يجوز لأي طرف أن يقدم مستقبلًا مخططات أو إحداثيات إلى الأمم المتحدة لا تتفق مع هذه الاتفاقية (المشار إليها فيما يلي بـ”الاتفاقية”) ما لم يتفق الطرفان بشكل متبادل على محتوى هذا الإرسال”.
الاتفاق في مجمله لم يخرج عن التسريبات التي تم الإفصاح عنها بين الحين والآخر خلال مسارات المفاوضات المتعرجة طيلة العامين الماضيين
ووفق القسم الثاني من المسودة فإن الطرفين يدركان “احتمال وجود موارد هيدروكاربونية ذات جدوى تجارية غير معروفة حاليًا، على الأقل جزئيًا، في المنطقة التي تشكّل البلوك رقم 9 اللبناني على حدّ تعبير الطرفين، وفي المنطقة التي تشكّل البلوك رقم 72 الإسرائيلي، على الأقل جزئيًا، في مفهوم الطرفين، والمشار إليها بـ”المكمَن المحتمَل”، وتبعًا لذلك “يجب أن يتم استكشاف واستغلال المحتمل وفقًا لممارسات الصناعة البترولية الجيدة فيما يتعلق بالحفاظ على الغاز لتحقيق أقصى قدر من الاسترداد الفعال والسلامة التشغيلية وحماية البيئة، ويجب أن تلتزم بالقوانين واللوائح المعمول بها في المنطقة”.
أما عن الشخصية الاعتبارية التي لها الحق في التنقيب عن الموارد الهيدروكربونية وتطويرها في البلوك رقم 9 اللبناني (“مشغّل البلوك رقم 9”)، فينبغي أن “تكون شركة أو شركات ذات سمعة طيبة، دولية، وغير خاضعة لعقوبات دولية، وألا تعيق عملية التيسير المتواصلة التي تقوم بها الولايات المتحدة، وألّا تكون شركات إسرائيلية أو لبنانية، وتنطبق هذه الشروط كذلك على اختيار أيّ شركات تخلُف الشركات المذكورة أو تحلّ محلّها”.
وتبعًا لما ورد في القسم الثالث فإنه “يجب على كل طرف مشاركة البيانات حول جميع موارد خط الحدود البحرية المعروفة حاليًا وأي موارد تم تحديدها لاحقًا مع الولايات المتحدة، بما في ذلك توقع قيام المشغلين المعنيين الذين يعملون على أي من جانبي خط الحدود البحرية بمشاركة هذه البيانات مع الولايات المتحدة. تفهم الأطراف أن الولايات المتحدة تعتزم مشاركة هذه البيانات مع الأطراف في الوقت المناسب بعد استلامها”، بجانب منع أي من الطرفين المطالبة بأي تراكم أو إيداع منفرد آخر للموارد الطبيعية، بما في ذلك الهيدروكربون السائل أو الغاز الطبيعي أو أي معادن أخرى، تقع بالكامل على جانب الطرف الآخر من خط الحدود البحرية.
فيما تطرق القسم الرابع والأخير للشق القانوني حال النزاع والجدول الزمني لبدء الاتفاق، حيث نص على عزم الطرفين “حل أي خلافات تتعلق بتفسير وتنفيذ هذه الاتفاقية من خلال المناقشة التي تسهلها الولايات المتحدة”، تفهمًا للدور الذي تبذله الولايات المتحدة لمساعدة الجانبين على تقريب وجهات النظر والتوصل إلى أرضية مشتركة تحقق مصالحهما، فيما تدخل تلك الاتفاقية حيز التنفيذ “في التاريخ الذي ترسل فيه حكومة الولايات المتحدة الأمريكية إشعارًا، بناءً على النص الموجود في الملحق د لهذه الرسالة، الذي يؤكد فيه أن كل طرف قد وافق على الشروط المنصوص عليها في هذه الوثيقة”.
الاتفاق في مجمله لم يخرج عن التسريبات التي تم الإفصاح عنها بين الحين والآخر خلال مسارات المفاوضات المتعرجة طيلة العامين الماضيين، لكن مع نشر نص الوثيقة الأولي لوحظ أن هناك بعض البنود تحمل مخاطر ربما تهدد الأمن القومي وتضع المصلحة اللبنانية على المحك.
الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تحياها الدولة اللبنانية تدفعها بقوة متسارعة نحو إبرام الاتفاق الذي بلا شك سيُنعش الخزانة اللبنانية الخاوية بما يخفف من وطأة الوضع المتدني اقتصاديًا
أبرز تلك البنود البند “أ” في القسم الرابع، المتعلق بالرجوع إلى الولايات المتحدة حال نشوب أي خلافات أو تجاوز لأي طرف على حقوق الآخر، وهو ما قد يهدد مصالح الدولة اللبنانية في ظل الدعم الأمريكي المطلق لـ”إسرائيل” التي بلا شك لن تلتزم بنص الاتفاق وواجباتها كما تكشفه السوابق التاريخية في مثل تلك الاتفاقيات.
كذلك البند “ب” في القسم الثالث، الذي ينص على وجوب كل طرف “مشاركة البيانات حول جميع موارد خط الحدود البحرية المعروفة حاليًا وأي موارد تم تحديدها لاحقًا مع الولايات المتحدة، بما في ذلك توقع قيام المشغلين المعنيين الذين يعملون على أي من جانبي خط الحدود البحرية بمشاركة هذه البيانات مع الولايات المتحدة” وهو ما يحمل جزئيًا تهديدًا للأمن القومي اللبناني في حال تسرب تلك البيانات بشكل دقيق إلى دولة الاحتلال، وهو أمر ليس بمستبعد، حتى إن تعهدت واشنطن بالتزام السرية.
أمريكا و”إسرائيل” يسارعان الخطى.. ولبنان كذلك
تحاول أمريكا إنجاز هذا الاتفاق قدر الإمكان قبل انطلاق انتخابات التجديد النصفي الشهر المقبل، إذ تنظر إدارة جو بايدن لتلك الخطوة كورقة دعائية يمكن الاستناد إليها لتعزيز شعبية الديمقراطيين المتراجعة خلال الآونة الأخيرة بسبب الملفات الاقتصادية الداخلية وأزمات الطاقة المتفاقمة منذ الحرب الروسية الأوكرانية فبراير/شباط الماضي.
ولأجل ذلك أولت الإدارة الأمريكية أهمية كبيرة لهذا الملف الذي عينت له وسيطًا خاصًا عكس المتعارف عليه مع الملفات الحيوية الأخرى، ومن جانب آخر تحاول الولايات المتحدة إنعاش السوق الأوروبية بالغاز المستخرج من المنطقة البحرية التي سيتم ترسيم الحدود حولها، بما يساعد في تخفيف حدة آثار وقف الإمدادات الروسية.
المصلحة ذاتها تهرول لها “إسرائيل” الراغبة في استخراج الغاز بأسرع وقت لتغذية السوق الأوروبي المتعطش قبل حلول فصل الشتاء بشكل رسمي، وبما يؤهل تل أبيب لتحقيق حلمها في أن تكون مركز طاقة إستراتيجي في الشرق الأوسط وحلقة الوصل بين الإمدادات الشرقية والسوق الغربية.
وعلى الجانب الآخر، فإن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تحياها الدولة اللبنانية تدفعها بقوة متسارعة نحو إبرام الاتفاق الذي بلا شك سيُنعش الخزانة اللبنانية الخاوية بما يخفف من وطأة الوضع المتدني اقتصاديًا، ومن جانب آخر معالجة أزمة نقص إمدادات الوقود الذي يغذي محطات الكهرباء بما يهدد بـ”عتمة” كاملة تعم أرجاء البلاد.
لم يكن الطرفان والوسيط وحدهم المستفيدين من هذا الاتفاق، فهناك دول أخرى ليست طرفًا في الملف لكنها على صلة وثيقة بتبعاته ومخرجاته النفطية، وعلى رأسهم تركيا والإمارات، حيث ستحققان استفادات عالية، فالأنابيب التي تمرّ عبر أراضي تركيا ستكون الخيار الأول لنقل غاز خط “إيست ميد” إلى أوروبا، ومن المرجح أن يقود التقارب الكبير مع تل أبيب إلى مزيد من التعاون في هذا المجال.
الموقف كذلك مع الإمارات التي نجحت في وضع موطئ قدم لها في شرق المتوسط، من خلال الاتفاق الذي أبرمته شركة الاستثمار الإماراتية (مبادلة) مع الجانب الإسرائيلي، ويقضي بشرائها 22% من بئر تامار الإسرائيلي الواقع غرب شواطئ حيفا.
عامان من المفاوضات الشاقة
توصل الطرفان إلى هذه المرحلة بعد عامين من المفاوضات غير المباشرة برعاية أمريكية أممية اتسمت بالصعوبة والتأرجح في كثير من محطاتها بين القبول والاعتراض والتحفظ، البداية كانت في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2020 حين بدأت أولى محطات المفاوضات بعقد جولتها الأولى في الناقورة جنوب لبنان، وكان التركيز الأول من الجانب اللبناني على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة برًا، بحسب اتفاقية “بوليه نيوكومب” عام 1923، والممتد بحرًا، استنادًا إلى تقنية خط الوسط، من دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة، وهو ما قوبل بتحفظ إسرائيلي، لتنتهي تلك الجولة التي عقدت برعاية فريق المنسق الخاص للأمم المتحدة لشؤون لبنان، وبحضور الوفد الأمريكي، دون أي خطوات إيجابية.
وفي 28 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام عُقدت الجولة الثانية في مقر الأمم المتحدة بالناقورة، بحضور الوسيط الأمريكي، لتنطلق في اليوم التالي مباشرة الجولة الثالثة الذي رفع الوفد اللبناني خلالها سقف مطالبه لتتسع المساحة المختلف عليها من 862 كيلومترًا إلى 1400 كيلومتر وهو ما أطلق عليها “الخط 23″ و”الخط 29”.
وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني عُقدت الجولة الرابعة بين الوفدين والوسيط الأمريكي والأممي، لكن الخلافات تصاعدت واتسعت معها الهوّة في المواقف بين الجانبين، فقد تمسك لبنان بالاتفاقيات الدولية والقانون الدولي للبحار، المشيرة إلى بداية الخط من رأس الناقورة، في حين حاول الجانب الإسرائيلي تغيير نقطة الانطلاق البحرية من رأس الناقورة شمالاً على بعد 30 مترًا لكسب مساحات في البحر.
الأجواء في معظمها تسير نحو إبرام اتفاق هادئ يصب في صالح جميع الأطراف، هكذا يبدو لهم، لكن هذه الخطوة رغم التفاؤل الذي يخيّم عليها، من المتوقع أن تصطدم ببعض التحديات التي تهدد دخول الاتفاق حيز التنفيذ
العثرات التي واجهتها المفاوضات دفعت الوسيط الأمريكي إلى عقد لقاءات ثنائية على حدة مع الطرف اللبناني والإسرائيلي، في الوقت الذي تتهم فيه دولة الاحتلال الدولة العربية بالمماطلة وتغيير المواقف، في إشارة إلى التغيير من الالتزام بـ”الخط 23″ إلى الخط “29” وهو الخط الذي يُدخل أكثر من 500 كيلومتر داخل حيز الاتفاق لصالح لبنان، حيث قدم الجيش اللبناني في 4 مارس/آذار 2021، كتابًا يتضمن لوائح إحداثيات الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية للمناطق البحرية اللبنانية، حيث تبين أن مساحة إضافية تعود إلى لبنان.
وفي 12 أبريل/نيسان وقّع وزير الأشغال اللبناني المرسوم رقم 6344 الذي ينقل خط التفاوض من 23 إلى 29، ويمكن للبنان المفاوضة على أساسه على كامل حقل قانا، ونسبة من حقل كاريش، بيد أن المرسوم لم يوقعه رئيس الجمهورية ميشال عون.
وأمام هذا التطور توقفت المفاوضات قرابة 6 أشهر قبل أن يتدخل الوسيط الأمريكي ديفيد هيل لاستئنافها مرة أخرى في 4 مايو/أيار 2021 حيث عُقدت الجولة الخامسة، التي طلب فيها هيل أن يكون التفاوض محصورًا فقط بين الخط الإسرائيلي والخط اللبناني المودعين لدى الأمم المتحدة، أي ضمن مساحة 860 كيلومترًا مربعًا، وذلك خلافًا للطرح اللبناني ومبدأ التفاوض من دون شروط مسبقة، وهو ما عرقل المفاوضات مجددًا.
وفي 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عينت الولايات المتحدة وسيطًا جديدًا هو عاموس هوكشتاين، المولود في فلسطين المحتلة، وعمل لسنوات مستشارًا للرئيس الأمريكي جو بايدن، لكنه اصطدم بتهديدات الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله بعدم الصمت إذا استشعر وجود نفط وغاز لبنان في خطر من “إسرائيل”.
ومنذ فبراير/شباط 2021 وحتى اليوم، كثف هوكشتاين من جولاته الدبلوماسية إلى بيروت وتل أبيب، وأدخل الأمم المتحدة كراعٍ مباشر، وبذل جهودًا متواصلة لتقريب وجهات النظر بين الجانبين، وبعد سجال دام أشهر بشأن عدد من البنود والتعديلات الطائرة هنا وهناك، اتفق الطرفان على المسودة الأولية التي تم تسريبها قبل أيام ويفترض أن يتم التوقيع عليها الخميس 27 الشهر الحاليّ.
في ضوء ما سبق، فإن الأجواء في معظمها تسير نحو إبرام اتفاق هادئ يصب في صالح جميع الأطراف، هكذا يبدو لهم، لكن هذه الخطوة رغم التفاؤل الذي يخيّم عليها، من المتوقع أن تصطدم ببعض التحديات التي تهدد دخول الاتفاق حيز التنفيذ أبرزها ما يتعلق بسلاح “حزب الله” (الذي أعطى الضوء الأخضر لإبرام الاتفاق وفق التعديلات الأخير) وهي المعضلة التي ربما تقف حجر عثرة أمام استكمال الاتفاق، خاصة بعد الحديث عن شروط إسرائيلية أمريكية تتعلق بمسألة تسليح الحزب اللبناني الرافض تمامًا لمناقشة هذا الملف، فكيف يتم تجاوز تلك العقبة؟ ومن يضمن عدم خرق تل أبيب للوثيقة؟