يواجه العالم اليوم مشكلات شتى، سياسية واقتصادية، تكرست بعد جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، بدءًا من التضخم والركود وطفرة الاستقالات، مرورًا بأزمة طاقة تشي بشتاء بارد، وزيادة مهولة في أسعار النفط واضطراب سلاسل التوريد، وليس انتهاءً بأزمة الهجرة.. مشكلات تضع السياسيين وجهًا لوجه أمام شعوبهم في فترة المواسم الانتخابية، لكن إن لم يكن باليد حيلة إزاء التضخم وأزمة الطاقة والبطالة، فلمَ لا نضحي باللاجئين؟ لمَ لا نشغل بهم الرأي العام ونلهه عن أزماته الأخرى وواقعه المرّ؟
“فلنلقهم في الجحيم، سنُقلِهم بمحض إرادتهم، والجحيم آمن”.. تبدو هذه استراتيجية العالم اليوم في تعامله مع أزمة اللاجئين، من تركيا إلى الدانمرك، ومن بريطانيا إلى لبنان.
ترحيل قسري رسمي
لطالما حمّل الرئيس اللبناني ميشال عون وسياسيون لبنانيون، اللاجئين السوريين سبب انهيار اقتصاد البلاد، من أجل ذلك بدأوا بتنفيذ وعيدهم بإجبار اللاجئين السوريين على العودة إلى بلادهم ضمن خطة تخلو من أي ضمانة أمنية لسلامة اللاجئين أمنيًا ومعيشيًا، وقد أكد عون أن بلاده ستبدأ في إعادة ستة آلاف لاجئ سوري إلى بلادهم، قبل انتهاء فترة ولايته نهاية الشهر الحالي، ويأتي كلام عون بعد إعلان الحكومة اللبنانية قرارها بخطة ترحيل اللاجئين.
يذكر أنه يوجد نحو مليون لاجئ سوري منذ أكثر من 10 سنوات في لبنان يعانون من سوء الخدمات والإجراءات القانونية والأمنية. وتتنوع الضغوط التي تواجه السوريين في لبنان من حظر ومنع تجول وعنصرية ومداهمات ووضع غير قانوني تضطرهم له السلطات، ووفقًا لـ “فرانس برس”، فإن الأمن العام اللبناني ينظم منذ العام 2017 عمليات عودة جماعية، يصفها بأنها “طوعية”، تمّت بموجبها إعادة أكثر من 400 ألف لاجئ إلى سوريا، وفق بياناته. لكن المنظمات الإنسانية ترجّح أن عدد العائدين أقل بكثير، وتتحدث عن توثيق حالات ترحيل “قسرية”.
وبعد أن توعد وزير المهجرين اللبناني عصام شرف الدين، بالبدء بترحيل اللاجئين، بدأ أمس تنفيذ وعيده، حيث بدأت السلطات اللبنانية بترحيل أولى دفعات العائلات السورية إلى مناطق النظام السوري، وبلغت الدفعة الأولى نحو 200 عائلة وهو ما يقدّر تقريبًا بـ 1000 شخص وفقًا لما ذكر “تلفزيون سوريا”، يشار إلى أن لبنان يقوم بهذه الخطة بالتعاون مع النظام السوري ضمن وعود من الأخير “بإجراء تسهيلات أمنية للعائدين خاصة أولئك الذين في سن الخدمة الإلزامية” بحسب تصريحات اللواء عباس إبراهيم المدير العام للأمن العام اللبناني.
يذكر أن منظمة العفو الدولية دعت السلطات اللبنانية مؤخرًا إلى وقف تنفيذ خطة لإعادة اللاجئين السوريين بشكل غير طوعي إلى بلادهم، وقالت المسؤولة في المنظمة، ديانا سمعان، إن “السلطات اللبنانية توسّع نطاق ما يسمى بعملية العودة الطوعية بينما ثبت جيدًا أن اللاجئين السوريين في لبنان ليسوا في موقع يسمح لهم باتخاذ قرار حر” وأضافت سمعان: “من خلال تسهيلها بحماسة عمليات العودة هذه، تعرّض السلطات اللبنانية، عن قصد، اللاجئين السوريين لخطر المعاناة من انتهاكات شنيعة والاضطهاد عند عودتهم إلى سوريا”.
تركيا غير آمنة
كثرت التقارير والقصص القادمة من تركيا عن ترحيل السوريين بشكل قسري تحت غطاء العودة الطوعية، ونتابع في “نون بوست” تغطية القضية، على أن الجديد في هذا الملف هو تقرير أصدرته منظمة “هيومن رايتس ووتش” يتحدث عن ترحيل اللاجئين السوريين من تركيا إلى الشمال السوري، وكان تقرير المنظمة الحقوقية صارمًا بلهجة خطابه الموجهة إلى أنقرة وأوروبا، وطالبت المنظمة “الاتحاد الأوروبي” الاعتراف بأن تركيا غير آمنة لطالبي اللجوء.
لا يقتصر الأمر في تركيا على اللاجئين السوريين، إنما تعمل السلطات التركية على ترحيل المئات من لاجئي الجنسيات المختلفة خاصة الأفغان والمغاربة منهم، وأعلنت وزارة الداخلية التركية في سبتمبر\ أيلول الماضي أنها رحلت 3 آلاف مهاجرًا غير نظامي إلى بلدانهم في غضون 10 أيام فقط، ليبلغ عدد المهاجرين غير النظاميين الذين تم ترحيلهم منذ بداية العام الحالي 78 ألفا و716 بحسب بيان وزارة الداخلية.
وقالت “هيومن رايتس ووتش” إن “السلطات التركية اعتقلت واحتجزت ورحّلت بشكل تعسفي مئات الرجال والفتيان السوريين اللاجئين إلى سوريا بين فبراير/شباط ويوليو/تموز “2022. وبحسب الشهود الذين رووا قصصهم للمنظمة فإن “المسؤولين الأتراك اعتقلوهم من منازلهم وأماكن عملهم وفي الشوارع، واحتجزوهم في ظروف سيئة، وضربوا معظمهم وأساءوا إليهم، وأجبروهم على التوقيع على استمارات العودة الطوعية، واقتادوهم إلى نقاط العبور الحدودية مع شمال سوريا، وأجبروهم على العبور تحت تهديد السلاح”.
ويعرّج التقرير المطوّل على فكرة التطبيع بين الحكومة التركية والنظام السوري، إذ أن التصريحات التركية أشارت في غير مرة على أنه لا مشكلة من بناء العلاقات بين الطرفين من جديد، وتعتبر المنظمة الحقوقية أن “عمليات الترحيل تمثل نقيضًا صارخًا لسجل تركيا السخي كدولة استضافت عددًا من اللاجئين أكثر من أي دولة أخرى في العالم وحوالي أربعة أضعاف ما استضافه الاتحاد الأوروبي بأكمله، والذي قدم مقابله الاتحاد الأوروبي مليارات الدولارات لتمويل الدعم الإنساني وإدارة الهجرة”.
واعتمدت المنظمة في تقريرها على شهادات 37 شخصيًا سوريًا تم تسجيلهم للحماية المؤقتة في تركيا، كما قابلت هيومن رايتس ووتش أيضا سبعة أقارب للاجئين سوريين ولاجئة رحّلتهم السلطات التركية إلى شمال سوريا خلال هذه الفترة.
ونتيجة لذلك أعطت المؤسسة الحقوقية عدّة توصيات أبرزها أنه “على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه الاعتراف بأن تركيا لا تفي بمعاييره المتعلقة بدولة ثالثة آمنة، وأن يُعلّق تمويله لاحتجاز المهاجرين ومراقبة الحدود إلى أن تتوقف عمليات الترحيل القسري”. كما أوصت بأن “تصنيف تركيا كـ ’دولة ثالثة آمنة‘ لا يتماشى مع حجم عمليات ترحيل اللاجئين السوريين إلى شمال سوريا. على الدول الأعضاء ألا تتخذ هذا التصنيف وعليها التركيز على إعادة نقل طالبي اللجوء عبر زيادة أعداد إعادة التوطين”.
ولكن هل تلقى توصيات التقرير آذانًا صاغية من الأطراف المذكورة فيه؟، سابقًا صدرت العديد من التقارير التي تحذر من إساءة التعامل مع اللاجئين بالإضافة إلى التقارير التي تعتبر أن سوريا ليست بلدًا آمنًا لإعادة اللاجئين إليها، لكن مرت دونما أي اعتبار من الحكومات المستهدفة فيها، ولا تعدو كونها ضغط حقوقي وسياسي، خاصة في ظل استخدام اللاجئين كورقة سياسية بين الدول.
طرف ثالث
في بريطانيا، بدأت الحكومة البريطانية منذ بداية العام الحالي بإعداد خطة لترحيل اللاجئين إلى دولة رواندا في أفريقيا، وتنص الخطة على نقل اللاجئين الذين وصلوا بعد بداية العام الحالي إلى رواندا ليقدموا طلبات اللجوء فيها على أن يتم توفير المقومات الحياتية اللازمة لهم حسبما أكدت الحكومة الرواندية.
في هذا الإطار، وصفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين خطة جونسون بأنها “انتهاك للقانون الدولي”، مضيفة أن محاولة “نقل المسؤولية” عن المطالبات بوضعية اللاجئ أمر غير مقبول، فيما يتوقع البعض التوسع في تبني مثل تلك القرارات، سواء على المستوى البريطاني أم الأوروبي عمومًا، بعدما تحولت قضية اللاجئين إلى “قضية أمن قومي” بالنسبة للكثير من البلدان التي تواجه أزمات اقتصادية طاحنة.
كما تقدمت أكثر من 160 منظمة خيرية وحقوقية بريطانية بطلبات رسمية لتجميد الترحيل وإلغائه، وعلى المستوى السياسي قوبلت الخطة بانتقادات حادة من أحزاب المعارضة ومن بعض المنتمين لحزب المحافظين الحاكم.
وليست بريطانيا هي الوحيدة في أوروبا التي بدأت ترحيل اللاجئين القسري، إنما سبقتها إلى ذلك الدانمارك التي تبنت قانونًا يسمح بنقل طالبي اللجوء الذين يصلون إلى أراضيها، إلى مراكز اللجوء في دولة شريكة، غير أنها فشلت في العثور على دولة تنطبق عليها المواصفات. وصدرت العديد من التقارير التي قالت إن الحكومة الدنماركية تجبر طالبي اللجوء على العودة إلى بلدانهم ضمن سياسة “صفر طلبات لجوء”.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي لا يعتبر سوريا كدولة آمنة إلا أن الدنمارك تعتبرها آمنة لعودة اللاجئين منها، وفي صيف 2020 بدأت السلطات الدنماركية رفض طلبات اللاجئين السوريين لتجديد الإقامة المؤقتة، وبررت هذه الخطوة بأن الوضع الأمني في بعض أجزاء البلاد “تحسن بشكل كبير”. انتقدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إزالة الدنمارك تدابير الحماية للاجئين السوريين القادمين من دمشق وريفها، وشددت على أن “التقارير الخاطئة الخاصة ببلد اللاجئين الأصلي تؤدي إلى سياسات خاطئة بشأن اللاجئين”.
وقد ألغى “المجلس الدنماركي لطعون اللاجئين” قرار “دائرة الهجرة” في 71 بالمئة من الحالات السورية التي تم تناولها وسمح للاجئين بالبقاء. ولفت الموقع إلى أنه بين شهري كانون الثاني وأيار الماضيين، قام مجلس الاستئناف، الذي يصدر قرارات ملزمة عندما يستأنف مقدمو الطلبات من دائرة الهجرة، بإلغاء قرار الهجرة في 54 حالة من أصل 76 حالة ومنح تصاريح إقامة مستمرة. ويمثل ذلك زيادة في نسبة الطلبات مقارنة بشهر كانون الأول 2021، عندما تم استئناف 43٪ من القرارات بنجاح، حسب الموقع.
وتحاول الدول الأوروبية التخلص من ملف اللاجئين بشتى السبل، فيما تعمل بعض الحكومات الأوروبية الآن على إغلاق باب الهجرة نهائيًا أمام الناس الراغبين في القدوم إلى أوروبا، وإلى جانب سياسة الترحيل القسري المتبعة، تتبع بعض الحكومات سياسات تجعل من اللجوء إليها أمرًا صعبًا.
مثلًا، تجاهلت السلطات الأوروبية نداءات الاستغاثة من مجموعات متعددة للاجئين عالقين إما على الحدود البرية أو في البحر، هذا ما أكدته مجموعة “الإنقاذ الموحد الدولية” أن اليونان تجاهلت نداءات استغاثة أطلقها مركب يقل مهاجرين لأكثر من 15 ساعة، ما تسبب لغرقه وموت أحد ركابه قبل أن ينقذ مركب تجاري 68 في بحر “إيجه”. ومثل هذا الخبر يوجد الكثير لحوادث تجاهل أدت لوفاة لاجئين.
ليس بعيدًا عن تجاهل نداءات الاستغاثة، أعلنت السلطات اليونانية عزمها تعزيز قوة حرس الحدود لديها، المنتشرة على حدودها مع تركيا، بـ250 ضابطًا جديدًا. كما بدأت اليونان مجموعة من الإجراءات الجديدة للحد من تدفق طالبي اللجوء، حيث قال وزير حماية المواطن اليوناني تاكيس ثيودوريك أكوس، إن بلاده “تعتزم بناء 140 كيلومترًا إضافيًا إلى الجدار الفاصل مع تركيا والبالغ طوله حاليًّا 40 كيلومترًا، بهدف الحد من الهجرة غير النظامية”.
أضف إلى ذلك، أن الاتحاد الأوروبي أصدر مؤخرًا تقريرًا يتهم فيه الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل “فرونتكس”، بالتستر على إعادة المهاجرين قسرًا وبشكل غير قانوني من اليونان إلى تركيا، معتبرًا ذلك انتهاكًا لحقوقهم الأساسية، وتعتبر الوكالة الأوروبية هي المسؤولة عن حماية الحدود الخارجية للاتحاد، ويشير التقرير إلى أن فرونتكس تسترت على انتهاكات خفر السواحل اليوناني بحق المهاجرين ودفعهم إلى المياه الإقليمية التركية. وذكر التقرير أن كبار المسؤولين في فرونتكس قد يخفون حالات محتملة لانتهاكات حقوق الإنسان من مسؤولين في المؤسسة.
وإمعانًا في الانتهاكات، فإن الوكالة الأوروبية متهمة بتعليق عمل الاستطلاع الجوي وذلك منعًا لتسجيل الأنشطة غير القانونية لخفر السواحل اليوناني، وكانت تشارك أيضًا في تمويل الوحدات اليونانية التي تنفذ عمليات إعادة اللاجئين. كما أن مسؤولي فرونتكس ضللوا السلطات المسؤولة عن الإشراف على المؤسسة، بما في ذلك أعضاء مفوضية الاتحاد والبرلمان الأوروبيين عبر تزويدهم بمعلومات مضللة، كما ساهمت الوكالة بتعريض المهاجرين للخطر حينما تجاهلت بلاغات عن رمي اللاجئين على متن طوافات النجاة في البحر، ومن غير وجهة محددة.
ويشير التقرير إلى حادثة حصلت في أغسطس/آب 2020، حين صدرت تعليمات من خفر السواحل اليوناني تأمر طائرة الاستطلاع التابعة لـ “فرونتكس” بالابتعاد عن الشاطئ، بعد أن جرى رصدهم وهم يدفعون قاربًا ممتلئًا بالمهاجرين إلى وسط البحر في الليل.
لم يقف الأمر عند مشاركة المؤسسات الرسمية بالانتهاكات ضد اللاجئين، إنما وصل الأمر إلى تجنيد عدد من من طالبي اللجوء من جنسيات مختلفة للمشاركة بصد اللاجئين الآخرين على الحدود، وكشف تحقيق جديد نشرته صحيفة “الغارديان”، أن السلطات اليونانية أغرت بعض اللاجئين بالبقاء لمدة شهر في اليونان مقابل المشاركة في أعمال قمع المهاجرين على الحدود، وقد تسبب هؤلاء المجندون بالضرر لكثير من اللاجئين بحسب شهادات لهم في التحقيق، مشيرين إلى أن اليونان غررت بهم.
تستخدم أوروبا كل ما سبق من أجل تشديد الخناق على المهاجرين وضرب حركة اللجوء المستمرة إليها، ضاربة بذلك كل مواثيق حقوق الإنسان وحقوق اللاجئين الفارين من بلدانهم من أجل حياة حرة وكريمة، كذلك فإن ما يحصل من تسريع حالات الترحيل القسري للاجئين وصد القادمين بهذا العنف ينذر بمرحلة جديدة للتخلص من الموجودين وإرهاب من يفكر باللجوء.