على النقيض من المتعلم الصومالي، لا يبالي أخاه العربي بالتجربة الصومالية، وهذا ليس ذنبه وحده، إذ لم يقم الصوماليون بشرح ما حصل في بلادهم لجيرانهم وإخوانهم العرب.
وبما أن دول الربيع العربي تمر هذه الأيام بمخاض عسير; فقد ارتأيت أن أهدي الشباب العربي هذه الخلاصة من التجربة الصومالية، لعل وعسى أن يتعلموا ويفقهوا ويتجنبوا المطبات التي أوصلت بلادي إلى الحالة المزرية المثيرة للشفقة والباعثة على اتخاذنا نكتة كلما “دق الكوز بالجرة”، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ثورات الربيع العربي بدأت بطريقة أفضل بمراحل من تجربة إسقاط النظام العسكري الصومالي، ولا أسميها “ثورة” على الإطلاق.
ولكن في البداية سأطرح أوجه الشبه بين حالة الصومال عند الانهيار، وحالة دول الربيع العربي:.
- القيادة العسكرية: إذ أن كلا من سياد بري، وزين العابدين، وحسني مبارك، والقذافي، وعلي عبد الله الصالح من العسكر، ووصلوا للسلطة بعملية انقلاب، ما عدا حسني مبارك الذي جاء بالصدفة بعد اغتيال أنور السادات، أما بشار الأسد فقد ورث الجمهورية. بحق بنوته للفريق حافظ الأسد.
- القمع وتكميم الأفواه: لم تسمح الأنظمة المذكورة للشعوب بالتعبير عن رأيها، فقد كان الإعلام الموجه هو المنبر الوحيد المسموح به، ومن يتفوه بنقد تجاه سير الأمور، فمصيره السجن أو الإعدام.
- تكريس الديكتاتورية: بالرغم من كون جميع الدول المذكورة دولا جمهورية، إلا أنها لم تشهد انتخابات حرة ونزيهة، بل جرت العادة على استفتاء الشعب على شرعية الحاكم المستبد، ومجنون من يترشح للمنافسة، فيما عدا منافسة أيمن نور لحسنى مبارك التي انتهت به إلى السجن. بتهمة ملفقة بإحكام، واستبعاد القذافي الذي لم يكن رئيسا أصلا كما قال عن نفسه.
- صناعة هالة من البطولة: حرص جميع من ذكروا على تضخيم الذات، فكلهم أبطال معارك أسطورية، وإنجازات ومكتسبات فردية تنسب له، فعلي عبد الله صالح، وحد اليمن، وبشار باني سورية الحديثة، ولولاه لما عرف السوريون الهاتف المحمول ولا الإنترنت، ومبارك صاحب. أول ضربة جوية، وسياد بري بطل أوكتوبر “شهر إستيلائه على السلطة” وحرر الشعب من رجس الديمقراطية والرأسمايلة إلى الاشتراكية العلمية والحكم العسكري، وهلم جرا.
- محاربة الهوية الوطنية: عمل رؤساء الدول العربية المذكورة تماما كما عمل سياد بري على محاربة الهوية الدينية للشعب، فالصلاة في المساجد وإطلاق اللحى، مثيرة للشك، ومن يلتزم بذلك، يعتقل ويلاحق، والحجاب تخلف ورجعية. والعلم الشرعي لا يطعم خبزا .. وهكذا.
- تفكيك اللحمة الوطنية: بواسطة المخبرين التابعين للداخلية أو المخابرات، وخلق جدران سميكة بين أبناء الوطن الواحد باستخدام بعض ضيعفي النفوس للتجسس على الناس، حتى بات الجار يرتاب من جاره، وسائق التاكسي والحلاق مثيران للشك، وبائع الجرائد وصاحب المكتبة رقباء على الجميع.
- وأخيرا الفساد، وسوء توزيع الدخل القومي المتعمد، والتضييق على الخدمات لقهر كرامة المواطن.
كل هذه الظروف أدت إلى ثورة الشعوب على الطغاة المتسلطين على رقابها، مع وضع الفارق بين طريقة التعبير، فبينما قاد ما أسميه عملية “إسقاط الدولة الصومالية”، جنرالات سابقون، وكبار الموظفين المنشقين، ولجوئهم إلى استثارة العواطف القبلية عند الناس، لشحنهم ضد الرئيس وقبيلته. ، واستغلالهم لاحقا هذا الشحن لتصفيتهم خلافاتهم مع منافسيهم من القبيلة ذاتها، اختار الشباب العربي السلمية، ولم يكن لهم قيادات واضحة أو بارزة ومحسوبة على تيار دون آخر، والفضل في ذلك لتطورات الزمان والتسهيلات التي لم تكن متوفرة للصومالين وقتها.
ولتشابه الظروف السابقة لجميع تلك الدولة مع ظروف سقوط الدولة الصومالية، يبدو أن بعض القائمين على تلك الثورات يرتكبون نفس الخطايا المقترفة في التجربة الصومالية ومنها:
- عدم وجود برنامج لمن أسقطوا النظام: بعد أن قامت الجبهات القبلية المسلحة تحت قيادة جنرالات سابقين بالإطاحة برأس النظام الديكتاتوري، ظهر أن همهم الأكبر لم يكن بناء الدولة على أسس العدالة والديمقراطية والحرية، بل إسقاط سياد بري دون نظامه، وإسقاط قبيلة لا أساس حكم. فاشل فاسد. وبدأت حفلة انتقام بين القبائل بطريقة غير إنسانية. وابتلعت الحرب الأهلية واحدة من أهم الدول الإفريقية – الصومال. والحال في مصر وتونس قريب من حالة الصومال، فشباب الثورة ونجومها تلاشوا، لم يشكلوا قيادة شبابية ذات وزن، ولم يقدموا أطروحات لمواجهات الأزمات، وزادت قلة التجربة السياسية أو انعدامها من المأزق، ليتبين أنهم لم يكونوا سوى وقود للثورات لا أكثر، واقتنعوا بأن دورهم انتهى. مع إسقاط النظام.
- الإقصاء والاستحواذ: لم يحترم زعماء الجبهات القبلية معاهداتهم، إذ وضع رئيس ما تسمى بجمهوررية صوماليلاند الحالي هيكلة للحكومة المؤقتة بعد إسقاط سياد بري، قسم بموجبه السلطة بين فصيلي عملية الإطاحة USC and SNM وذكر في مقترحه عدة نقاط منها: التزام الطرفين بعدم اتخاذ قرارات. أحادية، وعدم اللجوء للانتقام على أساس قبلي، وتقاسم السلطة ببنهما دون باقي الصوماليين، بالرغم من وجود قوى معارضة من قبائل غير هاتين القبيلتين وجبهتيهما المسلحتين، إلا أنهم اعتبروا أنفسهم الأكثرية، ولم يعترفوا منذ البداية بحق مشاركة الفصائل الصومالية الآخرى، وتجاوز مرحلة حكم القطب الواحد. ، وهذا ما وقع فيه نشطاء الثورة على اختلاف توجهاتهم، فاللبيراليون من شباب الثورة اعتبروا الإخوان – شركاء الميدان – مجرد جماعة سرقت الثورة منهم، ورأى الإخوان أنهم من حمى الثورة بقوة تنظيمهم وبتضحيتهم بأرواحهم في ثورة يناير، وانتهى بهم الحال كما حصل مع جبهات “إسقاط. الدولة “، انتقلوا من محاربة الديكتاتور لمحاربة القبائل، ثم لتصفية بعضهم البعض.
- استدعاء فترة الاستقرار الظاهري: مع طول أمد عملية ولادة ديمقراطية حقيقية في دول ثورات الربيع العربي مع حالة الإحباط والمعاناة والتشرد والجوع يبدأ الحنين للماضي، واستجلاب النخب السياسية الفاسدة، في حالة الصومال أصبح عبد القاسم وزير الداخلية في عهد الديكتاتور رئيسا للصومال، وسط احتفاء. جماهيري منقطع النظير، وكأنه الفاتح الأكبر، قبل أن يدرك الشعب أنه لم يحقق الحلم الصومالي في الحرية والكرامة، ولم يحارب الممارسات البغيضة للقبائل المسلحة، بل قام بتسليح قبيلته لتصبح الأكثر نفوذا بقوة أسلحتها. وهذا ما حصل في مصر مع الإنقلاب الدموي بقيادة السيسي، ما سيحصل لو نجحت جبهة انقاذ تونس في استنساخ تجربة نظيرتها المصرية.
- النخب الفاسدة: ومن أبرز مخلفات أي نظام ديكتاتوري نخب اصطنعها لتكريس هيمنته عبر الظهور المستمر لها عبر الإعلام، والترويج لها كقامات تحمل ذاكرة الزمن الجميل، وهذا ما يؤثر على التفكير التقدمي للشباب ويعيق حركة التحرر، ومن النخب الصومالية الفاسدة وزراء وسفراء سابقون، وجنرالات. متقاعدون، أو مذيعون محترمون من أيام ردايو مقديشو، عدا عن ظهور طبقة صوماليو الشتات أو ما يعرف عندنا بدياسبورا. ورغم أنه يفترض أن تكون صورة الاستبداد والقمع وكل ما سبق ذكره في الأعلى أكثر حضورا في وعي الشباب العربي لقربها، ترى الشباب يستمع لتلك النخب المصطنعة، بينما لم يبدأ الصوماليون بتفعيل أثر هذه النخب إلا بعد مرور أعوام عديدة.
وفي الختام: إن الصومال ليست قطرا في كوكب آخر، بل جزء من كوكب الأرض، كان يوما ما بلدا مضيفا يقدم الحماية للاجئين، ويمنحهم الجنسية بعكس الدول العربية الشقيقة والدول الصديقة، فكم من مواطن إرتري يحمل الجنسية الصومالية؟ وكم من عرب ارتبطوا بزواج من صوماليات، فمنحوا الجنسية هم وأولادهم، ومنهم يمنيون وتونسيون وسوريون وعراقيون.
ما أريد قوله أن ما ترونه أيها العرب من مجاعة وبؤس وقتل وتشرد ليست كلها سوى مظاهر لما سبق ذكره، وهذا مصير يحتمل أن تصير إليه كل دولة عربية، فكم عدد السوريين المهددين بالموت جوعا؟ وكم عدد المصرين المقتولين على يدي الجيش والأمن المصريين في أقل من شهرين؟
فقط تذكروا أن الصومال في هذه الحالة منذ أكثر من عشرين عاما، وليس مجرد عامين أو ثلاثة، ولا شهرين أو أكثر قليلا .. فإن نجحتم في استحضار هذه الحقيقة ستنجحون في انتشال بلدانكم من المستنقع، وإلا فمرحبا بكم في نادي البؤس، وتحملوا تنكيت البعض من أشقائكم على أوضاعكم!