العمران يحكي قصة المجتمعات ويرمز إلى هويتها، وما يطرأ على العمران من تغيرات عبر السنين هو تعبير وتجليات لتغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية أعمق، والعمران صور رمزية وكنايات وتأويل مجسَّم لجوهر المجتمع، فما طرأ على العمران ويطرأ من تغيير يطرأ مثله على الناس، هوية وثقافة وسياسة.
ومن ثم العلاقة بين العمران والإنسان علاقة تأثير وتأثُّر وتشكيل وتشكُّل، ذلك أن العمارة ما انفكّت تشارك الإنسان كينونته حيثما حلَّ أو ارتحلَ، وتشاركه حين توفّر عبر الزمن فضاءً يواري وجوده ويحتضنه، بل يلفّ حضوره بغلاف الثقافة التي تطورت على مساحاته المتنوعة.
فالعمارة هي نسيج من العلامات، وبالجملة هي المنتج الثقافي الأكثر تواجدًا في المحيط الإنساني، فنحن اليوم في غالبيتنا نولد ونعيش ونأكل وننام وندرس ونفكّر ونعمل ونلعب ونحتفل ونحزن ونمرض وندفَن في إطار معماري ما.
يتبلور العمران في الفكر أولًا، فالفكرة وإن كانت مضمونًا كُمُونيًّا هلاميًّا ينشأ في مخيلة الإنسان وبين ثنايا روحه، إلا أنها حين تريد الخروج إلى الوجود تتفتق عبر المادة فتتخذ “شكلًا” عبر التاريخ، وعلى هذا التاريخ ليس سوى تطور “الفكرة” وهي تتدحرج عبر تشكُّلاتها في الزمان عبر تمثيلات حسّية وموضوعية على مساحات اللسان والعمران، اللذين يكونان هنا حيزَين وإمكانَين للملأ.
ومن ثم يمثل الحيز أو الفضاء المكاني حاملًا لاستعراضات وتمثيلات وتفاعلات الأشخاص الاجتماعية والسياسية في الدول والمجتمعات على اختلافها وتنوعها، لأجل ذلك تتغيّا هذه المقالة لفت النظر إلى أهمية فهم العمران كشرط لفهم الأوضاع والأحوال والتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والقيمية، من خلال قراءة المشهد العمراني في بلد أو مجتمع معيّن.
إن الأمكنة التي تعدّ جزءًا من التراث المادي وغيرها من البنيات والمقاهي والمشارب والميادين، ليست محض كتل أسمنتية أو حجارة رُصّت فوق حجارة أو أبنية من الطين فقط، الأمكنة كيانات معمارية صامتة، وإن ما يطلق عليه “الفعل المكاني” هو ما يشير إلى دور بعضها في الذاكرة التاريخية والمخيلة الجماعية، كالمقاهي والمشارب والمتاحف والحدائق العامة التاريخية.. إلخ.
إذًا، المكان والميدان والمقهى هي في ذاتها سرديات قد تبدو صامتة ولكنها حاملة للفعل الإنساني الفردي والجماعي السياسي والاتصالي والثقافي في تاريخ المكان، وتحديدًا في المدينة الحديثة، وتحولات ما بعدها من أنساق معمارية واتصالية -حركة المواصلات والهواتف الثابتة والنقالة وثورة الاتصالات والرقمنة في عصرنا-، وأيضًا حركة اقتصادية وفعل سياسي وفعل ثقافي، من المقاهي وأدوارها ودور السينما والمسرح والمعارض والمكتبات العامة والخاصة لبيع الكتاب وغيرها.
نحن إذًا إزاء سردية تاريخية وثقافية وسوسيولوجية وسياسية.
العمران والسياسة
بناءً على ما تقدم، يتّضح أن المكان هو حيز لحركة البشر، والتفاعلات الاجتماعية، والراحة والحوار، وحيز للعمل العام في أجهزة الدولة ومؤسساتها، فالمكان أي كان -الوطن والمحافظة والمدينة والقرية والمقاهي والمشارب والمتاحف والميادين والشوارع ودور العبادة.. إلخ- هو فضاء التنظيم الإداري، وتفاعلات النظام الاجتماعي والطبقات الاجتماعية، وبالتالي يخضع لهندسة تنظيمية واجتماعية وسياسية، جوهرها ومركزها ممارسة السلطة السياسية في جميع المجالات.
يعني هذا أن ممارسة القوة من الطبقة السياسية الحاكمة وفق رؤاها ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية، في ظل الشروط والقواعد الدستورية والسياسية، وتنظيم السلطات وعلاقاتها، والنظام السياسي (ديمقراطيًّا أو ديكتاتوريًّا أو تسلطيًّا أو أُسريًّا)، والفضاء المكاني هو المجال العام المفتوح لحركة المواطنين وغيرهم في النُّظُم الديمقراطية، والمغلق سياسيًّا في النُّظُم الشمولية، والمحاصَر في النُّظُم التسلطية.
وتتضح علاقة العمران بالسياسة جليّة عند تحديد علاقة العمارة بالأيديولوجيا عمومًا، وبالدكتاتورية والديمقراطية خصوصًا، والمثال الأبرز على هذا في العصر الحديث هو مجيء هتلر إلى الحكم في ألمانيا حيث كانت عمارة الديكتاتورية أهم أولوياته.
فقد بنى هتلر العديد من الصروح التي كان الهدف منها إظهار عظمته، وكذلك كانت للعمارة وظيفة لحشد أعضاء الحزب النازي والخطبة فيهم، وكان المعماري ألبرت سبير، الذي أعاد تخطيط جزء من برلين ليتناسب مع الأيديولوجيا الجديدة، هو أداة هتلر لتحويل المفاهيم الأيديولوجية إلى صروح معمارية ومشاريع لإعادة تخطيط المدن، وقد تجلّت أيديولوجيا الحشود خصوصًا في بناء الصالة الكبرى التي تجمع أعضاء الحزب ومبنى الرايخ الجديد وغيرهما.
أما موسوليني في إيطاليا فقد ركّز على العمارة التي كان الإبهار أول أهدافها، مستلهمًا في ذلك العمارة الرومانية، وكان هدف هذه العمارة إضافة إلى الإبهار هو خلق حالة من الخوف أو “التقزُّم” لدى من يراها، وذلك لفوارق المقياس بين حجم الإنسان وفراغ المبنى.
ومثال آخر لتوضيح الفارق بين عمارة الديكتاتورية والديمقراطية هو حالة الميادين في مصر، فالميادين التي حملت الآلاف بل الملايين كما هو شائع في مصر في مظاهرات عامَي 2011 و2013، هي الميادين التي بناها الخديوي إسماعيل الذي كان مسكونًا بفكرة المعمار وتخطيط المدن على النسق الأوروبي، ليجعل مصر أقرب إلى أوروبا وبالتحديد فرنسا، وليس المقصود أن إسماعيل كان ديمقراطيًّا، لكن النسق المعماري الذي حاول محاكاته في مصر كان منبثقًا عن فكر ديمقراطي ليبرالي.
وفي المقابل يأتي عمران ما بعد 23 يوليو/ تموز 1952، ويمكن هنا مقارنة تخطيط المعماري أوسمان الفرنسي الذي جاء به الخديوي إسماعيل لرسم ما يُعرف الآن بوسط البلد أو القاهرة الخديوية، بمعمار مدينة نصر التي بُنيت في عهد عبد الناصر من حيث اتّساع الشوارع والميادين؛ ويمكن أيضًا المقارنة بين تخطيط مصر الجديدة التي رسمها البارون أمبان مع مدن كالعاشر من رمضان و6 أكتوبر ومدينة السادات، ليتضح الفارق بين العمران الذي تكون الحرية قيمة مركزية فيه والعمران الذي يمثل حاضنة للسلطوية.
ومن ناحية أخرى، يعكس العمران علاقة الدولة بالمجتمع، فالنخبة الحاكمة في الدول السلطوية كثيرًا ما تتجاهل المعطيات الثقافية المرتبطة بنسيج الأعراف والتقاليد والذاكرة التاريخية التي تربط الناس بالمكان، بل تتجاهل خصوصيات الإنسان وتغضّ الطرف عن التوازن والانسجام الحيويَّين لحياته، وتتغافل عن قيمة الحياة الإنسانية والخبرات الاجتماعية وطبيعة العلاقات التاريخية وتعقدها، وتتناسى أن العمران هو في النهاية لتلبية حاجات الإنسان المادية والنفسية الفردية والجماعية.
وفي المقابل تركّز على المنافع المادية المتوقعة والأبعاد الأمنية والطبقية ومنافع القائمين على السلطة أنفسهم، وهو ما يعني أن المجتمع فقدَ القدرة على التحكم في أنماط العمران وتشكُّلاته، فأضحت العمارة تُفرَض قسرًا على المجتمع لا لتلبّي حاجاته بل لتشكّل هي احتياجاته وفقًا لمصلحة رأس المال أو السلطة.
وتعتبر نظرة الفرد للمجال الخاص والمجال العام أحد الأمثلة الهامة التي توضح أثر التسلُّط والقسر في فرض عمارة معيّنة على المجتمع، فالحياة مجالان، المجال الخاص الذي يشمل أمورنا الشخصية وبيوتنا، والمجال العام الذي يشمل الأمور العامة للوطن وشوارعنا وحدائقنا.
وغالبًا ما يكون المجال الخاص لدى معظم الناس نظيفًا، فالناس يهتمّون بنظافة أنفسهم وملابسهم وبيوتهم ويرون في ذلك مصلحة لهم، أما المجال العام ونظافته فهو أمر مختلف من بلد إلى آخر، ويعكس طبيعة النظامَين السياسي والثقافي لدى المجتمع والدولة.
ففي الدول الديمقراطية تكون هناك حالة من التماهي بين العام والخاص، أي يكون الاهتمام بنظافة المجالَين متسقًا -الشوارع كالبيوت نظيفة-، أما في الأنظمة السلطوية التي تعتمد القسر والقهر فيكون البيت نظيفًا بينما يكون الشارع متسخًا ومليئًا بالقمامة والنفايات، ويسرق فيه الناس لمبات أعمدة الإنارة وأغطية بالوعات الصرف الصحي.. وغيرها، ما يعكس حالة العزلة بين المواطن والوطن، وإهمال الناس ولا مبالاتهم بالمجال العام، فالمجال العام بالنسبة إليهم أصبح مقلبًا للنفايات.
العمران والمجتمع
إن كان ثمة سمة بارزة تميّز عمران المدينة الحديثة فهي شعور قاطنيها بالعزلة الاجتماعية، والعزلة الاجتماعية هي مظهر من أخطر المظاهر السوسيولوجية التي تخفي شبكة من الأمراض النفسية، أمراض الصدام والخشونة وانعدام الثقة والكراهية الثقيلة للمحيط وللأشخاص الذين يشاركوننا هذا الفضاء الحضري.
فهي مدينة باتت من دون هوية، وسكانها من الناس بلا ملامح أي من دون هوية، ولا يشعرون بأي انتماء إلى المدينة التي تضمّهم، وهم فيها أقرب إلى “التجمع” منهم إلى “الجماعة” أو “المجتمع”، فمنسوب التماسك ضعيف جدًّا، ما يؤدي إلى تقليل إمكانات المساعدة المتبادلة بينهم وشبكات الصداقة والتساند، وكلما تزايدت مشاعر الخوف وعدم الثقة في ما بينهم (كل من فيها يركض)، ازدادت صعوبة الاستقرار وبناء شبكات تواصل اجتماعي (أفقية) تتسم بالدفء.
ولعلّ أحد أبرز تجليات هذه العزلة وما ينتج عنها من رفض واحتقار وتسفيه وعنصرية، هي السلطوية التي تتعامل بها المراكز الحضرية والمدينية مع المناطق الريفية والقروية، وهي سلطوية تساهم في تهيئة المناخ لتغوُّل السلطويات الأخرى الحكومية والأجنبية، كما أنها تضرب التوازن الوظيفي/ النسبي بين المدينة والقرية، وتسحق معنويات “الفلاح” أو “القروي” وتفقده إدراكه الذاتي واعتزازه بنفسه كعنصر فاعل في بناء الاقتصاد الوطني لبلده.
فالذي جرى في أغلب مجتمعاتنا هو أن سياسات التحديث والتنمية آلت في نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين إلى هيمنة شاملة للمدينة على القرية، وفقدت القرية أغلب ما كانت تمتلكه من ميزات إنتاجية نسبية، بعد أن فقدت إدراكها الذاتي وهويتها الخاصة، حتى نمطها العمراني وثيق الصلة بخصوصيتها الزراعية قد تمَّ مسخه بنمط مديني/ استهلاكي مشوَّه، لا يتناسب مع الطبيعة الإنتاجية الزراعية للقرية.
حدث هذا بعد أن استقرَّ في الوعي الجمعي لأغلب مجتمعاتنا العربية -بالتزامن مع سياسات الانفتاح وما تلاها- أن المدينة هي مقرّ التجارة والخدمات والصناعات الصغيرة والمهن الحرة ذات الربحية العالية، ومن ثم المدينة هي “دار الهجرة إلى الدنيا الحلوة”، وهي القريبة ماديًّا من القرية، فلمَ لا يهاجر إليها القرويون والريفيون بعامة؟ لم لا يهاجرون إليها وقد باتت في أعينهم، وفي واقع الحال أيضًا، أقصر الطرق إلى الثراء السريع والحياة المرفهة ومغادرة الفقر؟ بينما بقيت القرية مستودع الشقاء على مرّ الزمن، وظلت هي المختصة بالنشاط الزراعي الذي أضحى محل ازدراء واسترذال من جانب النخب الحداثية التي تتمتع بميزات المدينة.
فابن القرية الآن يشعر أنه أقل حظًّا من ابن المدينة في الحصول على الخدمات وفرص التعليم والعمل والعلاج والسكن والترفيه وتقدير الذات، بينما يشعر ابن المدينة بشيء من التميز، وربما ينظر إلى ابن القرية نظرة سلبية مليئة بالسخرية، وقد يصفه بصفات هزلية، على نحو ما تكرّسه المسلسلات والأفلام والمسرحيات الحداثية.
تجتذب العشوائيات نوعَين من البشر المحرومين: نوع من الأسر التي تعاني مشكلات، أي تعاني الحرمان الاجتماعي والاقتصادي، ونوع آخر يسبب المشكلات، أي الذي يسبب سلوكه مشكلات للآخرين.
وعلى صعيد آخر، تبرز ثنائية الإقصاء والعزل كإحدى سمات عمران المدينة الحديثة، فهي الثنائية التي تسم علاقة الطبقات الغنية بالطبقات الفقيرة في المدينة، ذلك أن الأولى تنزع دائمًا إلى المفارقة وعزل نفسها عن الطبقات الأدنى، فظهرت على إثر ذلك المجتمعات المسوّرة والكومباوندات والتجمعات السكنية الراقية.
إنه إرث الثقافة الاستعمارية التمييزية بين طبقات المجتمع، حيث كان الأوروبيون والأعيان يسكنون في الجزء الجديد الذي يتمّ بناؤه خصيصًا لهم في المدينة، بينما يتكدّس السكان الأصليون والنازحون من الأرياف في الجزء القديم، أو على هامش المجال الجديد، فأصبحنا إزاء مدينتَين في مدينة واحدة: مدينة الخسة والسقوط، ويمثلها الجناح الأوروبي المحمي الذي لا يهتم إلا بمصالحه وسعادته؛ والمدينة الجاهلة التي تغيب فيها السعادة ويسود الشقاء، وهي أنموذج الغبن والفقر، ويمثلها المهمّشون والقادمون من الريف.
إنه التقسيم ذاته الآن، حيث الكومباوند والتجمعات السكنية الراقية التي تعزل نفسها وتحيط عمرانها بأسوار عازلة، وعلى هامشها تقع العشوائيات والمناطق المهمّشة والفقيرة، بحيث يمثل كل منهما نمطَين مختلفَين تمامًا من أنماط العلاقات الاجتماعية والعادات والأعراف ومستوى التعليم والرفاهية والخدمات والصحة.. إلخ.
إنها ثنائية -العزل والإقصاء- تعكس شرخًا أفقيًّا عميقًا في المجتمع، فبينما يتمتّع شق من المجتمع بحياة وافرة ثرية تتوفر لها كافة سبل الحياة الرغيدة، تجتذب العشوائيات في المقابل نوعَين من البشر المحرومين: نوع من الأسر التي تعاني مشكلات، أي تعاني الحرمان الاجتماعي والاقتصادي، ونوع آخر يسبب المشكلات، أي الذي يسبب سلوكه مشكلات للآخرين، إما لما يقترفه من أفعال عمدًا (جريمة مثلًا) وإما بسبب أفعال غير عمدية ( كإحداث الضوضاء أو ترويع الناس).
ويرتبط بهذا الشكل للمدينة ظاهرة الكباري والجسور والطرق الجديدة، فالكباري للتَّجاوُز والعبور فوق مشكلات المدينة القديمة بدلًا من حلّها أو الخوض في غمارها، والطرق الجديدة -السريعة- لتمثل فاصلًا ونطاق عزل صحّي بين القديم والجديد الراغب في العزلة والمفارقة.
المدينة العربية الحديثة هي مدينة تمثل نماذج لا هوية لها تقريبًا، وحركة العمران على النحو الذي تتمّ فيه اليوم تعبّر عن فقدان الهوية، فلا نحن في الشرق ولا نحن في الغرب.
بالمحصلة، يمكن القول إن العلاقة بين العمران والإنسان هي علاقة تشكيل وتشكُّل، فالإنسان عندما يبني مدينة باعتبارها فضاءً للحياة والاجتماع الإنساني، فهو يبني أنماطًا للعلاقات والطبائع والشخصية والأخلاق، والعمران بدوره يعكس تركيبًا معقّدًا من تفاعل الفكر الإنساني مع التاريخ والأرض والمناخ والدين والمجتمع والسياسة والاقتصاد، ومن ثم يعبّر العمران عن هوية الإنسان وفلسفة وجوده في الحياة.
وفي المقابل يعتبَر المكان والعمارة فاعلَين مؤثرَين في بناء الثقافة والقِيَم وطبيعة العلاقات، فهو لا يعكس فقط الفكر الإنساني ويجسّده، بل يشكّله ويؤطره ويؤثّر فيه، فالمكان الذي يسمح لنا نحن البشر بالمشي والتواصل مع الآخرين، والذي لا يعزلنا ولا يهمّشنا، ويحقق العدالة بيننا، هو ما يجعلنا نشعر بالسعادة والانتماء، أما المكان الذي يعزلنا ويحدّ من حركتنا والعمران الذي يُفرَض قسرًا علينا متجاهلًا وجودنا وقاطعًا ذاكرتنا التاريخية وشبكة علاقتنا التي بُنيت عبر أجيال، فإنه يُشعرنا بالاغتراب واللاانتماء.
إن المدينة العربية الحديثة، وفقًا لتوصيف خالد زيادة، هي مدينة تمثل نماذج لا هوية لها تقريبًا، وحركة العمران على النحو الذي تتمّ فيه اليوم، ومنذ بعض الوقت، تعبّر عن فقدان الهوية، فلا نحن في الشرق ولا نحن في الغرب، بل نجتاز مرحلة تستعصي على التسمية والتعيين، فالمدن تنمو بشكل تعبّر فيه تعبيرًا مطابقًا عن الأجيال الطالعة، وهي مدينة تعكس هشاشة الروابط الإنسانية وتشوِّه العلاقات الاجتماعية، ولا سبيل لمعالجة مرض المدينة الحديثة إلا بإعادة بناء الإنسان ذاته ليعيد بناء العمران على صورة إنسانية جديدة.