حين كنّا أطفالًا، حرص المجتمع على تفسير الظواهر من حولنا من خلال النصوص الدينية حصرًا، وذلك على حساب التفسير العلمي، فأنا أذكر تمامًا أن أساتذتنا في المدرسة بشكل متعمّد أو غير متعمّد سخروا مرارًا من فكرة السفر إلى الفضاء والهبوط على القمر، وحتى وجود الديناصورات وكروية الأرض، وعدّوها حكايات خرافية، وكانت هذه الحلقة الأولى في سلسلة من الصراعات التي عشتها وأعادت تشكيل قناعاتي لاحقًا بعد أن انسحبتُ من الأجواء التي يكون يُنحّى فيها العلم وتفسيراته.
مَنحُ جائزة نوبل في مجال الطب هذا العام 2022 للعالم السويدي، سفانتي بابو، لأبحاثه في مجال التطور البشري – إذ أنجز المهمة مستحيلة بفكّ الشفرة الجينية لأحد أقاربنا البشريين المنقرضين، إنسان نياندرتال أو الإنسان البدائي – أعاد النقاش المشحون عن النظرية إلى بقعة الضوء، وكالعادة، جرى النقاش عبر شبكات التواصل في نطاق عاطفي وديني بعيدًا عن طبيعتها العلمية تمامًا.
وباختصار، ما فعله سفانتي هو تحليل تسلسل جين الإنسان نياندرتال، حيث استطاع مع فريقه ابتكار طريقة لعزل وتحليل الحمض النووي من بقايا العظام القديمة، ليكتشف الاختلافات الوراثية بين البشر المعاصرين وأشباه المنقرضين، أي بين إنسان النياندرتال وإنسان السابينس الذي هو نحن.
لماذا لا نقبل نظرية التطور في عالمنا العربي؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أن رفض هذه النظرية ليس خاصًّا بالمجتمعات العربية والإسلامية فقط، كما أن الدين – مختلف الأديان وفي مختلف المجتمعات – هو أحد عوامل الرفض لهذه النظرية، ولكن الموقع الجغرافي يلعب دورًا أساسيًّا بقبول أو رفض النظرية، فمثلًا في ألبانيا تصل نسبة المسلمين المؤمنين بالتطور إلى 62% بينما في أفغانستان تصل إلى 29%.
أما في الوسط العلمي، فنسبة العلماء الداعمين لنظرية التطور في الولايات المتحدة الأمريكية هي حوالي 99.9%، وعلى مستوى العالم يقبل كل المجتمع العلمي تقريبًا (حوالي 97%) التطور كالنظرية العلمية الرئيسية المفسّرة للتنوع البيولوجي على الأرض.
وبالعودة إلى السؤال “لماذا لا يقبل الناس نظرية التطور؟” هو سؤال ليس له إجابة بسيطة، ولا يقتصر على عدم القبول الواسع النطاق لنظرية التطور نتيجة للخلاف حول “الدين مقابل العلم”، بل إن الأسباب هي أعقد من ذلك، ويمكنني أن أصنّف هذه الأسباب في 4 فئات ألخّصها فيما يلي:
أولًا: الفهم غير الكافي للنظرية وللأدلة التجريبية
عندما يكون لدى الناس فهم أفضل للموضوعات العلمية، فمن المرجّح أن يتقبّلوها ويوازنوها مع معتقداتهم الدينية، وعلى العكس من ذلك عندما لا يفهم الناس المفاهيم العلمية، فمن المرجّح أن يرفضوها، عادةً ما يُساء فهم نظرية التطور كونها تشرح من أين جاءت الحياة وكيف تكونت، إنّما هي في الحقيقة تقدم لنا تفسيرًا فقط عن كيفية تنوع الحياة على كوكبنا هذا، أما نشوء الحياة من المادة فهو علم آخر وهو علم النشوء الحيوي أو التولد التلقائي (Biosynthesis).
الأشخاص الذين يرفضون العلم قد لا يفعلون ذلك ببساطة لأنهم يفتقرون إلى القوة العقلية لفهمه، بل بالعكس أعتقد أنهم يصلون إلى شكوكهم من خلال قوتهم المتطرفة في الإقناع، وهي قدرة عالية لإقناع المرء نفسه بأن الشيء الذي يؤمن به صحيح بشكل منطقي، ومن أحد أمثلة إساءة فهم النظرية هو السؤال المنتشر في الأوساط الشعبية لمن يملكون مستوى منخفض من الاهتمام في هذه النظرية، وهو إذا كان البشر قد تطوروا من القرود، فلماذا لم تتطور قرود اليوم؟
تصعُب الإجابة عن هذا السؤال رغم بساطته، لأن من يراوده هذا السؤال هو في مستوى تعلُّم أول حرفَين من الأبجدية مقارنه بمن يريد فهم نظرية التطور، فليس بإمكانك شرح لماذا “لو” حرف شرط غير جازم لطالب في الصف الأول يتعلم الأبجدية، وليس في ذلك تعالٍ على أحد، الأمر فقط أنه ينبغي امتلاك حدّ مقبول من المعرفة كي يمكن فهم شرح جواب السؤال.
ثانيًا: الفهم غير الكافي لطبيعة العلم وفلسفته
أستطيع أن ألخّص هذه النقطة على ألسن الرافضين بقولهم الشائع: “التطور مجرد نظرية”.
ولكن ما هي النظرية؟ ببساطة أعرّفها على أنها مجموعة من الفرضيات التي تؤازر وتدعم بعضها لتصل الى مستوى الحقيقة، إذًا نعم إنها مجرد نظرية ويسمّيها العلماء “نظرية التطور”، لكن هذا اعتراف بمكانتها العلمية المقبولة جيدًا، فمثلًا يتمّ استخدام مصطلح “نظرية” بالطريقة نفسها التي نشرح بها نظرية الجاذبية، عندما تسقط تفاحة من يدك فإنها تتجه نحو الأرض.
ليس هناك شك في أن التفاحة ستسقط على الأرض مع أن الجاذبية هي أيضًا مجرد نظرية، رغم أن الناس يستخدمون “النظرية” في المحادثات اليومية لتعني فرضية ليست بالضرورة فرضية مثبتة، فإن هذا ليس هو الحال من الناحية العلمية، عادةً ما تعني النظرية العلمية تفسيرًا مدعومًا جيدًا لبعض جوانب العالم الطبيعي التي تقع فوق القوانين والاستدلالات والفرضيات المختبرة.
ثالثًا: الدين
السؤال المهم هنا هل التطور مفهوم إلحادي؟ وهل يفترض التطور عدم وجود خالق إلهي؟
للأسف يفترض الكثيرون أن النظرية التطورية تعمل على أساس عدم وجود خالق، وبالطبع هذا ليس صحيحًا، فإلى الآن لا توجد بيانات جرى إنشاؤها عن طريق الكيمياء أو الأحياء أو علوم الأرض، مثل الجيولوجيا وعلم الحفريات أو غيرها من التخصصات الأكاديمية، تثبت صحّة أو بطلان الاستنتاج القائل بوجود خالق إلهي، لأن الأسئلة اللاهوتية والميتافيزيقية والماورائيات هي خارج نطاق العلم، صحيح أن بعض علماء التطور ملحدون، لكن كثيرين آخرين يلتزمون بمعتقداتهم الدينية ويحتفظون بإيمان قوي بالله، وهناك العديد من العلماء المسلمين الذي يدافعون عن هذه النظرية مثل العالمة رنا الدجاني.
إن قبول نظرية التطور هو ليس إنكارًا لوجود الخالق، نظرية التطور لا تناقش أصل الكون ولا من أين نشأت الحياة، فلا أحد حتى الآن يدرك بداية ذلك، فالبداية هي الله، وبعد البداية قادت قواعد المنطق والعلم إلى فهم تطور الكون وما بعده، إذًا من المهم توضيح أن التطور ليس نظرية حول أصل الحياة، إنما نظرية لشرح كيف تتغير الأنواع بمرور الوقت.
موقف العالم الإسلامي والعربي بالأخص هو رفض النظرية بالجملة حتى دون الاطّلاع عليها، وترك مهمة نقدها وتفنيدها لأئمة المساجد، إذ يشمّر الدعاة والوعاظ عن سواعدهم لإبطال هذه النظرية ظنًّا منهم أنها تهدد أركان الدين، وتصدّروا للحكم عليها دون خبرة، حيث نظرية التطور تناقش بأدوات علوم الأحياء والخلية والأنثروبولوجيا والجيولوجيا وغيرها، بينما ميدان الداعية هو تزكية النفس وتهذيب الأخلاق وليس علم البيولوجيا.
رابعًا: العوامل النفسية والاجتماعية
لقد تمَّ إخبار الكثير من الناس طوال حياتهم أن التطور خطأ، من الوالدَين والأخوة والأخوات والمعلمين والإعلام بأنواعه، وربما من جميع البالغين الذين يعرفونهم، وأنه كذبة اختلقها الملحدون لخداع المتديّنين، التطور أمر بالغ الأهمية لممارسة العلم وللعلماء، إلا أنه في الواقع عديم الفائدة نوعًا ما في حياتنا اليومية، فنحن يمكننا الحصول على منافع هذه النظرية بشكل جيد دون أن ندرك ذلك حتى.
يمكنك استخدام منتجات التطور، مثل الطب وعلم الوراثة وحتى البترول، دون أن تعرف ذلك، الأشخاص الذين صنعوا لنا هذه الأشياء وطوّروا علومها هم من يعرفون التطور، لكن ليس علينا نحن ذلك، ببساطة لهذا يمكننا الإنكار وحتى محاولة إحداث ثغرة في مزايا العلم دون أن نصطدم في حقيقة أننا ننكر الواقع، وهذا ليس خاصًّا بنظرية التطور بل يمتدّ إلى أمور أخرى مثل تغير المناخ.
وحتى في أمور أبسط من تلك ما زلنا للآن نتجادل حولها، مثل مدى ضرر التبغ، بمعنى آخر لا علاقة للعلم بالإنكار إلا في حالات نادرة، في الغالب الإنكار مستمَدّ من أمور عقدية كالأديان أو اجتماعية كالتبعية وعقلية القطيع، وهنا أوضّح أنني لا ألوم أبدًا من ينكر النظرية، ولكن أوضّح أن هذا الإنكار لا يقوم في الغالب على أسُس علمية أو حتى فهم كافٍ للنظرية.
في النهاية، قد تبقى معضلة تقديم نظرية التطور للمجتمعات العربية قائمة، ما دام أن الوعاظ يتصدّرون المشهد ويقدّمون النظرية على أنها تشكّل خطرًا على المجتمع وعلى أمنه واستقراره، فيما يتجنب العلماء الحقيقيون الخوض في الموضوع وتوعية الناس تحاشيًا لإثارة الجدل والبلبلة المحتملة.