تعرضت العملة المحلية المصرية “الجنيه” لأكبر انهيار في تاريخها حين فقدت أكثر من 16% من قيمتها، في أعقاب قرار البنك المركزي، الخميس 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، رفع سعر الفائدة بنسبة 2%، واعتماد سعر صرف مرن لقيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية، حيث قفز سعر الدولار إلى 23.15 جنيهًا مقابل 19.70 جنيهًا قبيل القرار بساعات قليلة.
قرار رفع سعر الفائدة جاء ضمن مخرجات الاجتماع الاستثنائي الذي عقده المركزي، وأسفرت عنه حزمة من الإجراءات منها رفع سعر الائتمان والخصم بواقع 200 نقطة أساس ليصل إلى 13.75%، إلى جانب اعتماد سعر صرف مرن لقيمة الجنيه مقابل العملات الأجنبية، وهو ما وصفه خبراء بـ”تعويم كلي” للعملة المصرية.
القفز المتوالي للدولار أمام الجنيه بين الدقيقة والأخرى، بعد أقل من ساعة من القرار، أصاب الشارع المصري بالصدمة إزاء ما يحدث، إذ كانت كافة البيانات الرسمية والخطاب المعتمَد لدى الإعلام الرسمي تذهب باتجاه قوة الجنيه أمام العملات الأجنبية، وأن الحديث عن وصول الدولار إلى سعر 20 جنيهًا أمر مستبعد ولا يمكن حدوثه.
وبعيدًا عن دوافع هذه الخطوة ومبرراتها، فإن تداعياتها ستنصبّ في المقام الأول على متوسطي ومحدودي الدخل، حيث القفزة المتوقعة في معدلات التضخم وارتفاع تدريجي في أسعار السلع والخدمات، ليواصل المواطن وظيفته الأساسية في تحمُّل فاتورة السياسات النقدية والمالية والاقتصادية التي ثبت فشلها وسط إصرار من السلطات الحالية على المضيّ قدمًا فيها دون توقف، ليدفع فقراء هذا البلد وحدهم الثمن أضعافًا مضاعفة.
تعويم كامل
بعيدًا عن التوصيفات التي أصدرها البنك المركزي بخصوص هذا القرار، ومحاولة الالتفاف على مسمّاه الحقيقي تحت شعارات “السعر المرن”، إلا أن الخبراء أشاروا إلى أن ما حدث بتلك الطريقة وهذا الارتفاع المفاجئ في سعر الدولار خلال دقائق معدودة يؤكد أن ما حدث هو تعويم كلي، وهو الثالث من نوعه، وربما يفوق في مستواه تعويم عام 2016 التاريخي.
ويأتي هذا التحرك في الوقت الذي كانت تعاني فيه العملات الأجنبية من ثنائية السوق، سوق رسمي ممثَّل بالبنوك بسعر موحّد، وسوق موازٍ غير رسمي “السوق السوداء” ويرتفع فيه سعر الدولار بأكثر من جنيهَين مقابل سعر المركزي، وبعد فشل السيطرة على السوق السوداء جاء قرار التعويم لتقليل الفجوة بين السوقَين.
ويرى الخبير الاقتصادي والأكاديمي المصري، كريم العمدة، أن الارتفاع الذي شهدته العملات الأجنبية بالأمس لا يعني الاستمرارية في تلك القفزات أمام العملة المحلية، إذ إن الأمر يحتاج إلى أيام قليلة فقط حتى يستوعب السوق الصدمة ويكون قادرًا على امتصاصها، حينها ستظهر القيمة الحقيقية السوقية للجنيه، ومن ثم سيطلق المركزي مؤشر قياس أداء العملة المحلية أمام العملات الأجنبية التي يدرس إطلاقها.
ويُرجِع العمدة هذا الارتفاع للعملة الأمريكية إلى المخاوف التي أعقبت قرار المركزي، وهي الحالة التي تنتج عنها مضاربات وحركات متفاوتة بيعًا وشراءً للدولار، بالتالي يكون الإقبال عليه شديدًا في ظل قلة المعروض، ما يتسبّب في ارتفاع قيمته بصورة غير منطقية.
واختتم الخبير الاقتصادي حديثه متوقعًا ألا تكون صدمة السوق جرّاء هذا التعويم كبيرة، “بسبب آليات التدرج التي اتّبعها المركزي قبل القرار، والتي في كل مرة كانت تمتص جزءًا من الصدمة، على عكس التحرير المفاجئ الذي تمَّ عام 2016 أو في مارس/ آذار الماضي، حيث في كل مرة كان الدولار يقفز حوالي 5 جنيهات بمجرد صدور القرار، بينما هذه المرة فالقفزة متدرّجة في سعر الدولار”.
سياق مهم
تأتي تلك الإجراءات التي وُصفت بـ”الصعبة” بعد ساعات قليلة من انتهاء “المؤتمر الاقتصادي – مصر 2022″، الذي نظمته الحكومة المصرية خلال الفترة من 23 إلى 25 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، بمشاركة قرابة 500 شخصية من كبار الاقتصاديين والمفكرين والخبراء المتخصصين، لبحث معضلة الاقتصاد المصري وسُبل الخروج من مأزقه الحالي.
كذلك قبيل أيام قليلة من قمة المناخ (Cop27)، التي ستستضيفها مدينة شرم الشيخ بداية من 6 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل حتى 18 من الشهر نفسه، والتي من المتوقع أن يحضرها رؤساء وزعماء وقادة من 197 دولة حول العالم، فيما تعوّل عليها القاهرة في جمع أكبر قدر ممكن من الاستثمارات الخارجية.
والأكثر جدلًا أن هذا القرار يستبق دعوات التظاهر التي يروّج لها نشطاء على منصات التواصل الاجتماعي يوم 11 من الشهر المقبل، في ظل تصاعد معدلات الاحتقان الشعبي جرّاء السياسات المتّبعة التي أدّت إلى زيادة معدلات الفقر وتدني المستوى المعيشي، فضلًا عن الحزم الضريبية المفروضة على المواطنين التي أثقلت كاهلهم بشكل غير مسبوق، وهو ما يمكن أن يكون وقودًا يذكي تلك الدعوات، وهنا مفارقة مثيرة للجدل.
تمهيد وتهيئة
قبل أقل من 24 ساعة فقط على قرار المركزي، فوجئ الجميع بحزمة مساعدات ومنح لم يعتادها المصريون مع رئيسهم ونظامهم اللذين دومًا ما يعزفان على أوتار التقشف، بدعوى أن مصر “فقيرة قوي” رغم المشاريع العملاقة التي تتمّ على قدم وساق في العاصمة الإدارية والساحل الشمالي وشبكة الطرق والكباري غير المسبوقة.
وكانت الحكومة قد أصدرت الأربعاء 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 حزمة حماية اجتماعية إضافية بكلفة 67.3 مليار جنيه، اعتبارًا من الشهر المقبل، تشمل رفع العلاوة الاستثنائية للعاملين والموظفين بالدولة والحد الأدنى للأجور إلى 3 آلاف جنيه شهريًّا من 2700 جنيه حاليًّا، وإقرار 300 جنيه منحة استثنائية شهرية لأصحاب المعاشات والمستحقين عنهم، بتكلفة سنوية تبلغ 32 مليار جنيه و300 جنيه منحة استثنائية لنحو 1.5 مليون شخص في العمالة غير المنتظمة، تتحمّل تكلفتها الإجمالية وزارة القوى العاملة.
التفسيرات الأولى لتلك الإجراءات جاءت على وقع الأزمة التي تحياها البلاد، واستشعار الحكومة والنظام بالوضع المتدني الذي يحياه المواطنون، ومن ثم جاءت المنح والعلاوات الاستثنائية للتخفيف عن كاهل متوسطي ومحدودي الدخل، لكن سرعان ما تحول الفرح إلى ألم، والحلم في تحسن جزئي في الحالة المعيشية إلى كابوس مدوي.
ففي صبيحة اليوم التالي فوجئ الجميع بتلك القرارات التي أجهضت حزمة الأربعاء وحوّلتها إلى هباء منثورًا لا قيمة له ولا قامة، ليكتشف المواطن أن ما حدث لم يكن استشعارًا بمعاناة المواطنين وإنما تمهيدًا لقرارات وإجراءات قاسية تحتاج إلى بعض المخدّر لتهيئة الأمور قبل التدخل الجراحي المفاجئ.
رضوخ لإملاءات صندوق النقد
إن قرار التعويم هو شرط أساسي لصندوق النقد للموافقة على منح الحكومة المصرية القرض الذي تريده لسدّ العجز الذي تعاني منه، وعليه، وبعد الإعلان عن حزمة قرارات المركزي بساعات معدودة على أصابع اليد الواحدة، أعلن رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، أن بلاده ستحصل على تمويلات إجمالية قيمتها 9 مليارات دولار، بينها 3 مليارات، ضمن برنامج تمويل من صندوق النقد الدولي.
وأشار مدبولي في مؤتمر صحفي حضره محافظ البنك المركزي، ورئيس بعثة صندوق النقد في مصر، إلى أن حكومته توصلت أخيرًا إلى اتفاق نهائي مع الصندوق على مستوى الخبراء، للحصول على قرض جديد من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار، بالإضافة إلى مليار دولار من صندوق الاستدامة والمرونة، و5 مليارات من الشركاء الدوليين.
وبحسب السردية المصرية، فإن هذا القرض “يهدف إلى حماية الاقتصاد الكلي، واستدامة الدين العام، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي، ومضاعفة الإصلاحات الهيكلية لدعم النمو، فضلًا عن توفير فرص العمل من خلال القطاع الخاص”، فيما نوّه مدبولي في حديثه إلى أن حصول بلاده على هذا القرض هو “إحدى توصيات المؤتمر الاقتصادي الذي عُقد أخيرًا في العاصمة الإدارية الجديدة، بحضور المئات من خبراء الاقتصاد والمتخصصين”.
أما رئيس البنك المركزي، حسن عبد الله، فأشار إلى أن الاتفاق مع الصندوق “سيعزز الاستقرار للاقتصاد الكلي، والسياسة النقدية للدولة المصرية، مستهدفًا سدّ الفجوة التمويلية للبلاد خلال السنوات الأربع المقبلة، ومضاعفة الاحتياطيات النقدية خلال هذه الفترة”، على حدّ قوله.
فيما كشفت رئيسة بعثة الصندوق، إيفانا هولار، إن الاتفاق يمتدّ إلى 6 أشهر بتكلفة 3 مليارات دولار، ويهدف إلى “تمويل الموازنة المصرية، وتوفير تمويل للشركاء الدوليين والمحليين، في مواجهة الأزمات الاقتصادية العالمية”.
وكان الصندوق قد فرض حزمة من الشروط القاسية على القاهرة للموافقة على تمرير القرض، كان على رأسها تحرير العملة المحلية بلا أي تدخلات حكومية، ضمانًا لوفاء الحكومة المصرية بما عليها من التزامات بشأن سداد أقساط القروض وفوائدها، دون أي اعتبار لتداعيات هذه الخطوة على الطبقة المتوسطة وتحت المتوسطة والتي “ستُفرم” جرّاء تلك الإجراءات الصادمة والقاسية.
“اليوتيوب لا ينسى”.. مدونون في #مصر يعيدون نشر “نصائح” الإعلامي #يوسف_الحسيني بالتخلص من #الدولار pic.twitter.com/tBjM6DBcho
— برنامج هاشتاج (@ajmhashtag) October 27, 2022
اعتراف بالفشل
الوصول بالعملة المحلية إلى هذا التدني، والتحليق بالديون الخارجية التي وصلت إلى 157.8 مليار دولار إلى هذا المستوى، والزجّ بأكثر من 35 مليون مواطن مصري إلى أتون الفقر والعوز، والتلاعب بمقدرات الوطن، وتهديد سيادته واستقلاليته، كل هذا يشير حتمًا إلى فشل السياسات الاقتصادية المتّبعة طيلة السنوات الماضية.
فحين يتضاعف الدَّين العام 3 أضعاف خلال 8 سنوات فقط من الحكم، ليصل إلى 35% من قيمة الناتج المحلي، مقارنة بـ 15% خلال عام 2010، ويزيد نصيب الفرد من الديون ليصل إلى ما يقارب 900 دولار للفرد مقابل 400 فقط عام 2011، وتتراجع معدلات الادخار للمواطن بصورة كبيرة، فلا بدَّ من وقفة تأنٍّ وإعادة نظر وتقييم للأمور، لكن الإصرار على المضيّ قدمًا في الدرب ذاته يشير إلى أن القادم لن يكون بأفضل ممّا هو عليه الآن.
ولأول مرة منذ تولي السيسي المسؤولية، يتمّ الاعتراف بشكل مباشر بأن الدين “تجاوز الحدود الآمنة”، وأن حلفاء النظام المصري بات لديهم قناعة أن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى، وبصرف النظر عن دوافع تلك التصريحات وما إذا كانت ابتزازًا للأشقاء الخليجيين أم توصيفًا للمشهد، فإنها اعتراف واضح لحالة الانهيار التي يحياها الاقتصاد المصري المترنّح على أنغام العجز والقروض وغياب فقه الأولويات.
وبعد سنوات من سياسة الصوت الواحد، والخطاب الواحد، وشيطنة الآخر، وتشويه صورة كل من يغرّد خارج السرب، ترفع السلطات المصرية الحالية يدها مناشدة الجميع بفتح باب المناقشة والاستماع إلى الصوت الآخر، بدعوى أن السفينة إن غرقت فستغرق بالجميع، رغم أن ربّانها وعلى مدار 8 سنوات كاملة تفنّنَ في إبراز الثقوب بها فيما كان أنصاره يصفقون له، كما لو كان يرسم لوحة فنية، لا أن يغرق وطنًا بأكمله.
وكالعادة.. سيدفع المواطن فاتورة كل ما يحدث، ارتفاع جنوني في الأسعار لا يتناسب مطلقًا مع مستوى المداخيل، زيادة في التضخم ومعها البطالة وتراجع قيمة الأجور، تصفير ممنهج للدعم، إثقال كامل بديون مستقبلية سيتم تحصيلها بصورة أو بأخرى، لتصل حالة الاحتقان إلى الحلقوم، وهي النقطة التي عندها قد تكون كل السيناريوهات متاحة، فهل يسمح النظام بوصول المصريين إلى لحظة الانفجار؟