ترجمة وتحرير: نون بوست
أحدثت سلسلة من الاحتجاجات الأخيرة في إيران حيرة وفضولًا وأثارت الناس في كل مكان، وربما لدى أكثر المراقبين الأمريكيين الذين يسهل استثارة حماسهم، والذين يتوقون إلى قراءة أي شيء يحدث في جميع أنحاء العالم كتعليق على كيف أن تاريخهم وأيديولوجياتهم السياسية كانت قدوة في غإطار الإنسانية بوجه عام.
بالطبع، من المحزن أنهم مخطئون في هذا الافتراض المعتاد.
وذلك مثل الجهد الأخير الذي قام به روس دوثات، كاتب العمود في صحيفة نيويورك تايمز، بعنوان “من موسكو إلى طهران، أزمة اللا ليبرالية”، وكان الجزء الأول عبارة عن نقد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغزوه لأوكرانيا.
ثم ينتقل دوثات للحديث عن الصين بنفس الحدة النقدية، قبل أن يتحول إلى إيران؛ حيث يشير إلى أن “الجمهورية الإسلامية” تمثل نوعًا مختلفًا من المنافسين لليبرالية الغربية، [و] التي تعاني من موجة من الاحتجاجات التي حتى لو لم تطح بالنظام فهي تذكير بأن الثورة الإسلامية اليوم لا تحظى بشعبية اليوم”.
“هؤلاء الناس لا يرون شيئًا في جميع أنحاء العالم باستثناء المحاولات الأيديولوجية الفاشلة – ولا سيما من النوع الإسلامي – للإطاحة بالديمقراطية الليبرالية”.
المغزى من القصة بالنسبة لدوثات هو التأكيد المنتَصِر لـ”الليبرالية الغربية”. ويتابع: “لذا فإن مزيجهم من الفشل والهزيمة، وفي الحالة الإيرانية، الفساد والركود يقف بمثابة تحذير دائم للمفكرين الغربيين الذين يحاولون تخيل شيء ما بعد الليبرالية”.
إن ما يدفع في النهاية دوثات وغيره من المراقبين الرجعيين هو الفكرة القائلة بأن الانتصار المفضوح لمقال “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما كان صحيحًا، وبالتالي فإن الديمقراطيات الليبرالية المحبوبة لديهم في الواقع ليست متورطة في الاقتصاد الليبرالي الجديد الكارثي، والسياسة الخارجية للمحافظين الجدد التي تثير الحرب.
بعبارة أخرى؛ كل هؤلاء الناس يرون في العالم الإسلامي إرهابًا إسلاميًّا، وعادة ما يعلنون أن الإسلاموية قد فشلت، وبالتالي انتصرت الديمقراطيات الليبرالية واقتصادهم الليبرالي الجديد الثمين.
في عصر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والترامبية؛ حيث تهاجم العصابات المسلحة مؤسساتهم المقدسة، قد تعتقد أن هؤلاء الأشخاص سيتمهلون قبل تقديم هكذا تأكيدات. لكنك ستكون مخطئًا: هؤلاء المحللون هم عميان أمام مصائبهم وما زالوا بحاجة إلى تهويدات ليبرالية، حتى مع اقتحام مثيري الشغب لمبنى الكابيتول الأمريكي وانتصار الأحزاب السياسية الفاشية في جميع أنحاء أوروبا.
مقاومة القوى المناهضة للاستعمار
هؤلاء الناس لا يرون شيئًا في جميع أنحاء العالم باستثناء المحاولات الأيديولوجية الفاشلة، ولا سيما من النوع الإسلامي، للإطاحة بالديمقراطية الليبرالية. وبالطبع يجدون دائمًا الكتّاب الذين يخبرونهم بما يريدون سماعه؛ حيث يخبر دوثات قراءه أنه “كما أشار شادي حميد في مقال استفزازي لصحيفة “فيرست ثينغس” من أن الحركات الإسلامية المختلفة في العالم الإسلامي توقّعت انبهار الغرب الأخير (والخوف من) سياسات ما “بعد الليبرالية””.
آسف لإعلان ذلك، لكن ليس كل ما حدث في العالم الإسلامي يتعلق بـ”حركات إسلامية”، فلقد كانت لدينا قوى عميقة وثابتة من القومية المناهضة للاستعمال، والحركات الاشتراكية التي لا تتسم بالأوروبية المركزية، بنفس القدر – إن لم تكن أكثر – أهمية من الحركات الإسلامية.
ولا يزال التأثير التراكمي لهذه الحركات يتكشف نحو سياسة واقتصاد ما بعد الليبرالية الجديدة؛ حيث تتسرب الأيديولوجيات السياسية إلى الحدود المليئة بالثغرات بين بعضها البعض، وفشل إحداها هو وعد بفشل الآخر.
وبالتالي ليس من قبيل الصدفة أن مقال افتتاحي حديث في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان “كيف يمكن للولايات المتحدة أن تساعد في دعم النساء الإيرانيات الداعيات إلى التغيير”، يستقي كل دلالاته تقريبًا من المتحمسين لتغيير النظام الملتزمين بتفكيك النظام الإسلامي الحاكم.
ومما يثير السخرية أيضًا أن المقال المضلل الأخير عن احتجاجات إيران الذي نشرته مجلة نيويورك؛ حيث أظهر كاتب المقال نفسه كقائد للثورة الحالية، ولذلك من الطبيعي تمامًا أنه على الرغم من جذورها المشروعة وتطلعاتها، فإن العديد من القوى التقدمية في جميع أنحاء العالم تنظر إلى الانتفاضة بشكل مريب.
من المؤكد أن المراقبين الأمريكيين ليسوا الوحيدين الذين يسيئون قراءة هذه الاحتجاجات وبالتالي يحرفونها، بل الأنظمة الرجعية في العالم العربي، بقيادة المملكة العربية السعودية و”إسرائيل“، تفعل الشيء نفسه لأسباب مشينة.
فلا ترى هذه الأنظمة مثل هذه الحركات على أنها انتفاضة منسقة من أجل الحرية السياسية والعدالة الاقتصادية، ولكن كفرصة لتفكيك عدو إستراتيجي، وحقيقة أن الولايات المتحدة و”إسرائيل” والمملكة العربية السعودية يعتقدون أنهم المستفيدون المباشرون يشير إلى عدم قدرتهم على قراءة جذور وعواقب هذه الاحتجاجات.
إن ما فات النقاد الأمريكيين ورفاقهم العرب والإسرائيليين هو كيف أن الزخم الثوري عبر الشرق الأوسط – من حركات الحقوق المدنية في إيران إلى احتجاجات “غيزي بارك” في تركيا – يكشف عن فعالية أكثر قوة وتقدمية أكثر بكثير في العمل من إسلامويتهم المخيفة.
ولطالما كانت الإسلاموية جزءًا لا يتجزأ من هذه الانتفاضات، ولكنها ليست حتمية على الإطلاق، وحتى الحركات الإسلامية نفسها بشكل عام في حالة تقلب مستمر.
النقطة هنا ليست النجاح أو الفشل المحتمل لمثل هذه الحركات، فقد انتهى الاطمئنان وغابت الثقة الجماعية في الثورات العربية داخل أروقة التعذيب في سوريا ومصر وبسبب الفساد والاستبداد في تونس والسودان ونتيجة للحرب الأهلية في اليمن، والنقطة المهمة هي أن يكون لدينا تصور دقيق لما يحدث في أوطاننا، من المغرب في الغرب إلى إيران وباكستان في الشرق.
نموذج جديد من السياسة
بالنظر إلى القراءة الشائعة للثورات الشرق أوسطية الواسعة والمتنوعة على أنها فشلت في تحقيق النتائج، فليس من الغريب اعتبار الانتفاضة الحالية في إيران محكوم عليها بالفشل بالفعل، فمثل هذه القراءات الهيكلية والوظيفية هي أولاً وقبل كل شيء تصب في صالح دعم الانتصار الأيديولوجي للليبرالية الجديدة الأمريكية والأوروبية، على خطى النموذج الذي شخّصه فوكوياما ونادي المعجبين الليبراليين الجدد الخاص به الآن.
بالنسبة للعالم بأسره؛ ما يهم هو: ماذا كان يقصد الثائر المصري الشهير علاء عبد الفتاح عندما قال بالضبط في عنوان مذكرات سجنه، “أنت لم تهزم بعد؟”.
بأية سلطة وجرأة يتمتع بهذه الثقة؟ من خلال الحقيقة المطلقة أن عبد الفتاح يمثل في شخصه وشخصيته الجماعية والتعددية لطموح ثوري لا يبقى مركّزًا على دولة أو أخرى، بل يشكل تمردًا مفتوحًا لجميع المواطنين ضد كل الدول.
في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي، يقبع إخوة وأخوات لعبد الفتاح في السجون، ويحلمون وينفذون مهام المواجهة المجلة، وهذا نموذج جديد من السياسة لم يتم تصوره في الخيال الليبرالي الجديد والمحافظين الجدد.
ووسط صعود الحركات المناهضة لليبرالية والديمقراطية في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا، قد يبدو هذا الإحياء لتكهنات فوكوياما أمرًا غريبًا تمامًا، لكن إعادة إحياء جواد فوكوياما الميت من قبل المراقبين الأمريكيين الرجعيين هو محاولة يائسة واهنة لطمأنة أنفسهم بأن كل شيء على ما يرام ورائع في أرض أحلامهم الغربية.
لكن مع ذلك ليس كل شيء على ما يرام؛ هناك بالفعل شيء فاسد في دولتهم، فقد توقفوا عن كونهم مقياسًا لأي شيء سوى الخراب السياسي والبيئي الذي ألحقوه بالعالم.
العالم بأسره قائم بذاته؛ قد نفشل أو ننجح، ولكن من منظور محلي تمامًا لآمالنا ويأسنا، ولا يمثل فشلنا ولا انتصاراتنا أي تفسير حول مدى قربنا أو بعدنا من الوعود الكاذبة لـ”الديمقراطيات الليبرالية”.
المصدر: ميدل إيست آي