ترجمة وتحرير: نون بوست
تستقبل أدمغتنا منذ اللحظة التي نولد فيها كمية هائلة من المعلومات عن أنفسنا والعالم من حولنا. إذًا، كيف نحتفظ بكل الذكريات التي تعلمناها واختبرناها؟ يحتفظ البشر بأنواع مختلفة من الذكريات لفترات زمنية مختلفة. وتدوم الذكريات قصيرة المدى من ثوانٍ إلى ساعات، بينما تظل الذكريات طويلة المدى راسخةً في أذهاننا لسنوات.
لدينا أيضًا ذاكرة عاملة تتيح لنا الاحتفاظ بالذكريات في أذهاننا لفترة محدودة من خلال تكرارها. فكلما كررت مثلا رقم هاتف لتتذكره، فأنت تستخدم ذاكرتك العاملة. وهناك طريقة أخرى لتصنيف الذكريات من خلال موضوع الذاكرة نفسه وما إذا كنت واعيًا بها. تتكون الذاكرة التصريحية، التي تسمى أيضًا الذاكرة الصريحة، من أنواع الذكريات التي نختبرها بوعي. بعض هذه الذكريات هي حقائق أو “معرفة عامة”: مثل عاصمة البرتغال (لشبونة)، أو عدد البطاقات في مجموعة أوراق اللعب القياسية (52). وتتكون الذكريات الأخرى من أحداث سابقة مررت بها مثل عيد الميلاد.
في المقابل، تتراكم الذاكرة التلقائية التي تسمى أيضًا الذاكرة الضمنية دون وعي، وتشمل الذكريات الإجرائية التي يستخدمها جسمك لتذكر المهارات التي تعلمتها. هل تعزف على آلة موسيقية أم تركب دراجة؟ هكذا تعمل ذكرياتك الإجرائية. ويمكن للذكريات غير المعلنة أيضًا أن تشكل استجابات جسمك غير المفكرة، مثل إفراز اللعاب عند رؤية طعامك المفضل أو التوتر عندما ترى شيئًا مخيفًا.
ذاكرتك تحت الضغط
تعتبر الذكريات الصريحة عمومًا أسهل في التكوين مقارنةً بالذكريات الضمنية. ويستغرق حفظ عاصمة بلد ما وقتًا أقل مما يستغرقه تعلم العزف على الكمان. ولكن الذكريات الضمنية تظل أكثر سهولة. فبمجرد أن تتعلم ركوب الدراجة، لن تنسى ذلك على الأرجح.
أنواع فقدان الذاكرة
لفهم كيفية تذكرنا للأشياء من المفيد للغاية دراسة كيف ننساها في المقام الأول – وهذا هو سبب دراسة علماء الأعصاب لفقدان الذاكرة وفقدان الذكريات أو القدرة على التعلم. وعادة ما يكون فقدان الذاكرة ناتجًا عن نوع من الصدمات التي يتعرض لها الدماغ، مثل إصابة في الرأس أو سكتة دماغية أو ورم في المخ أو إدمان مزمن على الكحول.
هناك نوعان رئيسيان من فقدان الذاكرة: أولهما فقدان الذاكرة الرجعي الذي يحدث عندما تنسى الأشياء التي كنت تعرفها قبل صدمة الدماغ؛ أما النوع الثاني فهو فقدان الذاكرة التقدمي الذي يحدث عندما تؤثر صدمة الدماغ أو توقف قدرة الشخص على تكوين ذكريات جديدة.
تعتبر حالة هنري مولايسون أشهر دراسة حالة لفقدان الذاكرة التقدمي، الذي تمت إزالة أجزاء من دماغه في سنة 1953 كعلاج أخير للنوبات الشديدة. وعلى الرغم من أن مولايسون – المعروف باسم “إتش آند إم” عندما كان على قيد الحياة – كان يتذكر الكثير من طفولته، إلا أنه لم يكن قادرًا على تكوين ذكريات صريحة جديدة. وكان على الأشخاص الذين عملوا معه لعقود أن يعيدوا تقديم أنفسهم له مع كل زيارة.
من خلال دراسة أشخاص مثل حالة هنري مولايسون، وكذلك الحيوانات التي تعاني من أنواع مختلفة من تلف الدماغ، يمكن للعلماء تتبع مكان وكيفية تكوين أنواع مختلفة من الذكريات في الدماغ. ويبدو أن الذكريات قصيرة المدى وطويلة المدى لا تتشكل بنفس الطريقة تمامًا، ولا حتى الذكريات التصريحية والإجرائية.
لا يوجد مكان واحد في الدماغ يحتفظ بكل ذكرياتك وإنما هناك مناطق مختلفة من الدماغ مسؤولة عن تخزين أنواع مختلفة من الذكريات، وقد يضطلع كل منها بدور مختلف. فعلى سبيل المثال، توجد الاستجابات العاطفية مثل الخوف في منطقة دماغية تسمى اللوزة. وترتبط ذكريات المهارات التي تعلمتها بمنطقة مختلفة تسمى النواة المخططية. وتعتبر منطقة تسمى الحُصين ضرورية للغاية لتكوين الذكريات التقريرية والاحتفاظ بها واستحضارها. وتلعب الفصوص الصدغية، مناطق الدماغ التي كان يفتقر إليها هنري مولايسون جزئيًا، دورًا حاسمًا في تكوين الذكريات واسترجاعها.
كيف يتم تكوين الذكريات وتخزينها واستحضارها؟
منذ أربعينات القرن الماضي، اعتقد العلماء أن الذكريات محفوظة داخل مجموعات من الخلايا العصبية تسمى تجمعات الخلايا. وتطلق هذه الخلايا المترابطة كمجموعة استجابةً لمحفز معين، سواء كان وجه صديقك أو رائحة الخبز الطازج. وكلما عملت الخلايا العصبية معًا، زادت قوة الترابط بين الخلايا. بهذه الطريقة، عندما يعمل محفز مستقبلي على تحفيز الخلايا، من المرجح أن تُحفَّز المجموعة بأكملها. ويقوم النشاط الجَماعي للأعصاب بنسخ ما نختبره كذاكرة. ولا يزال العلماء يعملون على تفاصيل كيفية عملها.
وحتى تصبح الذاكرة قصيرة المدى ذاكرة طويلة المدى، يجب تقويتها للتخزين طويل المدى، وهي عملية تسمى توحيد الذاكرة. ويُعتقد أن التوحيد يحدث من خلال عدة عمليات. أولًا، التقوية طويلة الأمد التي تتكون من أعصاب فردية تعدل نفسها لتنمو وتتواصل مع الأعصاب المجاورة لها بشكل مختلف.
وتؤدي إعادة البناء هذه إلى تغيير اتصالات الأعصاب على المدى الطويل، مما يساهم في استقرار الذاكرة. وتستخدم جميع الحيوانات التي لديها ذاكرة طويلة الأمد نفس الآلية الخلوية الأساسية. وقد توصل العلماء إلى تفاصيل التقوية طويلة المدى من خلال دراسة الرخويات البحرية في كاليفورنيا. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن جميع الذكريات طويلة المدى تكون في البداية ذكريات قصيرة المدى.
يمكن استهداف الذكريات بسهولة أكبر عن طريق الأدوية أثناء عملية إعادة التوحيد، مما قد يساعد في علاج حالات مثل اضطراب ما بعد الصدمة.
عندما نستحضر ذكرى ما، تتواصل أجزاء كثيرة من أدمغتنا مع بعضها بسرعة، بما في ذلك مناطق في قشرة الدماغ تقوم بمعالجة معلومات عالية المستوى، ومناطق تتعامل مع المدخلات الأولية لحواسنا، ومنطقة تسمى الفص الصدغي الإنسي الذي يبدو أنه يساعد في تنسيق هذه العملية.
وجدت إحدى الدراسات الحديثة أنه في الوقت الذي يستحضر فيه المرضى الذكريات التي تشكلت حديثًا، فإن تموجات النشاط العصبي في الفص الصدغي الإنسي تتزامن مع تموجات في قشرة الدماغ.
وتبقى هناك العديد من الأسرار حول الذاكرة، منها ما مدى دقة الذكريات المشفرة داخل مجموعات من الخلايا العصبية؟ ما مدى انتشار الخلايا التي تشفر ذاكرة معينة في الدماغ؟ كيف يتوافق نشاط أدمغتنا مع الطريقة التي نختبر بها الذكريات؟
قد توفر مجالات البحث النشطة يومًا ما رؤية جديدة لوظيفة الدماغ وكيفية علاج الحالات المتعلقة بالذاكرة. فعلى سبيل المثال، أظهر البحث الأخير أنه ينبغي “إعادة توحيد” بعض الذكريات في كل مرة يتم استحضارها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن فعل تذكر شيء ما يجعل تلك الذاكرة مرنة مؤقتًا – مما يجعلها قوية أو ضعيفة أو تتغير بأي طريقة أخرى. ويمكن استهداف الذكريات بسهولة أكبر عن طريق الأدوية أثناء عملية إعادة التوحيد، مما قد يساعد في علاج حالات مثل اضطراب ما بعد الصدمة.
المصدر: ناشيونال جيوغرافيك