“لقد كانت مجزرة الدوايمة آخر مجزرة كبيرة ارتكبها الجيش الإسرائيلي حتى سنة 1956، عندما قتل 49 قرويًا من أهالي كفر قاسم في نفس تاريخ مجزرة “الدوايمة”، الـ29 من شهر أكتوبر/تشرين الأول، وبين مجزرة “الدوايمة” وحتى التوصل لاتفاق نهائي لوقف إطلاق النار مع سوريا ولبنان في صيف 1949، احتلت “إسرائيل” 87 قرية أخرى، منها 36 اُخليت بالقوة، والبقية كانت بمثابة هروب من خطر المجازر الجماعية”، يصف إيلان بابيه الباحث اليهودي، صاحب كتاب “التطهير العرقي لفلسطين”، المجزرة المروعة التي ارتكبها جيش الاحتلال وعصاباته بحق الفلسطينيين.
بفارق 8 سنوات، مجزرتان مروعتان ارتكبتا في نفس التاريخ، أواخر أكتوبر/تشرين الأول، بحق الفلسطينيين، اختلفتا في المكان وبعض التفاصيل، لكن لم تختلفا في الوحشية والإجرام الاستعماري الإسرائيلي الذي تملّك آلة قتلٍ صهيونية بكت على ما تعرضت له من نازية في أوروبا، وكانت أكثر نازية هنا في فلسطين. نحدثكم هنا في “نون بوست” عن مجزرتي الدوايمة وكفر قاسم.
مجزرة الدوايمة.. رائحة عظام محترقة
700 شهيد فلسطيني على الأقل، رجال ونساء وأطفال، كانوا قبل لحظات من ارتقائهم يعيشون حياتهم الطبيعية، ويوم الجمعة التي كان حينها، كما يعيشون تفاصيله كل مرة في قريتهم، أكبر قرى قضاء محافظة الخليل، قبل أن يحاصر بشكل مفاجئ جنود عصاباتٍ من “شتيرن” و”أرجون” القرية التي تخلو من مقاتلي المقاومة أو مخازن السلاح، واقتحموها وقتلوا كثيرًا من ذكور القرية دون ضرورة عسكرية.
قرية الدوايمة التي قدر الانتداب البريطاني عدد سكانها عام 1945، بنحو 3710 نسمة، وامتازت بكثرة خرائبها الرومانية القديمة واشتهرت بزراعة الزيتون، وكان فيها “سوق الجمعة” كأحد أهم أسواق المنطقة، وقد أطلق الأهالي عليها اسم “سوق البَرّين” إشارة إلى منتجات السهل والجبل التي كانت تُعرض فيها، شهدت كبرى المذابح التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي خلال نكبة عام 1948، وبينما كانت “إسرائيل” تسابق الوقت لتوقيع المواثيق الدولية ومواثيق الأمم المتحدة لترسيخ دعائمها “كدولة”، ارتكبت قواتها العسكرية الرسمية مجزرة في الدوايمة.
في شهادته للمجزرة، يروي مختارها حسن محمود هديب أن بعد نصف ساعة من صلاة الجمعة في ذلك اليوم، حدث الاقتحام المفاجئ، وكان جيش الاحتلال والعصابات الصهيونية يمتلكان عربات مصفحة وأسلحة أوتوماتيكية ومدافع هاون، فتحوا النار فور دخول القرية، وكانوا يدخلون إليها بطريقٍ شبه دائري، وطوّقوا القرية من ثلاث جهات، بينما فتحوا الجهة الشرقية لتكون وسيلة هرب للسكان الذين سيكون مصيرهم اللجوء بعد ساعات من المجزرة.
يشير الشهيد المثقف باسل الأعرج في دراسته عن المجزرة، أنه وبعد أن احتلت العصابات البلدة جمعت ما بين 80-100 من النساء والأطفال وحطم الصهاينة رؤوس الأطفال بالعصي، حتى إنه لم يبقَ بيتٌ في البلدة إلا وفيه قتيل، كما تم احتجاز النساء وكبار السن من الرجال داخل البيوت وحرمانهم من الماء والغذاء، وعندما حضر خبير المتفجرات رفض هدم بيتين على رؤوس كبار السن في القرية، لكن أحد الجنود تبرع بذلك، وبالفعل هدموا كثيرًا من البيوت على رؤوس الأحياء.
يروي الحاج إسماعيل نشوان، من أبناء الدوايمة قبل أن يلجأ إلى الأردن، أن العصابات الصهيونية ألقت نحو 101 فلسطيني على قيد الحياة، في بئر تدعى “بئر المشبك”، وكانت تحوي قضبانًا حديديةً على فوهتها على شكل شبك، وعندما كانوا يقذفونهم، كان البعض منهم يتشبث بالقضبان الحديدية من حلاوة الروح، فيقطع الجنود أصابعهم بالبلطات.
كما ويستذكر المؤرخون، مجزرة مسجد الزاوية في الدوايمة الذي احتمى بداخله كبار السن ممن لم يستطيعوا السير لمسافات طويلة خارج القرية، لكن العصابات الصهيونية حاصرتهم داخله وقتلتهم، وقدر حينها عدد الذين استشهدوا داخله بـ75 فلسطينيًا، وخوفًا من خروج جرحى محتملين، ينقل الباسل في دراسته، أن العصابات أحرقت المسجد بمن فيه بعد إغلاقه بإحكام، وتم دفن جزء من الشهداء في حفرة قرب الجامع حيث كانت الأهالي يحفرون لتوسعة المسجد، والجزء الباقي منهم دفن في قبر جماعي ولم ينج منهم إلا امرأة واحدة.
وخوفًا من بطش العصابات، لجأ نحو 500 فلسطيني وعائلات أكملها إلى كهف “عراق الزاغ” القريب من الدوايمة للاحتماء، إلا أن العصابات هاجمتهم، وأوقفت بين 500 عربي في صف واحد وقتلوهم بنيران الرشاشات.
وبشكلٍ يليق بالعقلية الاستعمارية التي ترتكب الجرائم وتتبجح لاحقًا بها بينما تغض الطرف عنها في المحافل الدولية، ينقل الباحث أحمد العداربة في كتابه “قرية الدوايمة” أن أحد الجنود اعترف مفتخرًا أمام زملائه بأنه “اغتصب امرأة عربية قبل أن يطلق النار عليها”، فيما تحدث آخر عن نقل ثلاث فتيات في سيارة عسكرية، وجدن مغتصبات ومقتولات لاحقًا في أحد أطراف القرية.
ومن التفاصيل المروعة التي تحملها مجزرة الدوايمة، إجبار إحدى النساء من حاضنات الأطفال الصغار على نقل الجثث ثم قتلها هي وطفلها، وإطلاق النار على طفل يرضع من صدر أمه فاخترقت الرصاصة رأسه وصدر أمه فقتلهما والطفل يلثم الثدي وبقايا الحليب تسيل على جانبي فمه.
بعد المجزرة بنحو أسبوعين، زار وفد من الصليب الأحمر القرية، وذكر في تقريره أن لحظة وصوله إلى القرية، كانت لا تزال أعمدة الدخان تتصاعد في سماء القرية، واشتم أعضاء الوفد رائحة عظام تحترق، وذلك لإخفاء الجثث المتعفنة في القرية، وأكد على ذلك قائلًا: “أشتم رائحة غريبة وكأن بداخلها عظمًا يحترق”، وعندما سأل الضابط البلجيكي هوفي عن سبب تفجير المنازل، أجابه الضابط الإسرائيلي أن بها حشرات سامة، لذلك نسفوها.
وإضافة إلى الـ700 شهيد المقدر عددهم، أحصى الباحثون نحو 300 شهيد آخر من الأشلاء التي عثر عليها متناثرة في أرجاء القرية، وفي عام 1955، أقام الاحتلال مستوطنة “أماتسيا”، فوق أنقاض مجزرة الدوايمة.
مجزرة كفر قاسم.. خطة إخلاء المثلث
مع بدء العدوان الثلاثي على مصر في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956، قررت حكومة الاحتلال فرض منع تجول على القرى العربية المحاذية للأردن، وأبلغ مختار قرية كفر قاسم بقرار منع التجول قبل نصف ساعة من دخوله حيز التنفيذ عند الساعة الخامسة، في وقتٍ كان أهالي القرية ما زالوا في أعمالهم.
وأبلغه الجنود الذي أوكلوا بتنفيذ القرار بإطلاق النار بنية القتل على كل من يشاهَد خارج بيته بعد دخول منع التجول حيز التنفيذ، دون التفريق بين الرجال والنساء والأطفال.
بطبيعة الحال، لم يكن سكان القرية الواقعة في الجزء الجنوبي من المثلث الصغير الذي سلمه الأردن إلى “إسرائيل” في أعقاب اتفاقية الهدنة في رودس أبريل/نيسان 1949، الذين كانوا في أعمالهم قد وصلهم خبر منع التجول بعد، فلما عاد بعض الأهالي إلى بيوتهم بعد الساعة الخامسة، أوقفهم جنود حرس الحدود في الجهة الغربية من القرية، وأنزلوهم من دراجاتهم أو عرباتهم أو سياراتهم وبدأوا بإطلاق النار عليهم عن قرب، فقتلوا 49 فلسطينيًا من سكان كفر قاسم بدم بارد، خلال ساعة واحدة.
عن ذلك، يدلي الضابط في جيش الاحتلال ليفي أمام المحكمة التي فتحت تحقيقًا صوريًا فيما بعد، أن قائد الكتيبة ملينكي أبلغه بشكل واضح بأنه “يُرغب بسقوط عدد من القتلى”، وفي رده على سؤال بشأن ما إذا كانت أقوال ملينكي معقولة، أجاب ليفي: “فهمت أنه هكذا ينبغي أن يكون، وأن هذه هي السياسة، الرغبة، وخلال ذلك قيل: إن أي أحد يشاهد سيقتل، وأدركت ذلك من خلال الأمر العسكري الصادر”.
لفهمٍ أكثر لدوافع المجزرة التي كانت “إسرائيل” تفتح فيه جبهتها مع مصر، التي ارتكبتها بحق من تقول أمام المجتمع الدولي إنهم “مواطنوها” لوقوعهم داخل الخط الأخضر، يمكننا قراءة الواقع الديموغرافي لمنطقة المثلث والجليل والنقب والمدن المختلطة، الذين وصل عددهم حينها إلى 160.000 نسمة تقريبًا، حاولت “إسرائيل” مرارًا وتكرارًا دفعهم إلى ترك أراضيهم وبيوتهم والهجرة من وطنهم ضمن محاولات مستمرة لإفراغ الداخل المحتل من الوجود الفلسطيني.
في عام 1991، كُشف جزء من هذا المخطط، ومن قضية كفر قاسم، من خلال الصحفي الإسرائيلي روفيك روزنتال في مقالٍ له تحدث فيه عملية كان من المقرر تطبيقها على فلسطينيي 1948 خلال أحداث عام 1956، إذ كانت فكرة هذه الخطة هي استغلال حرب مستقبلية مع الأردن لإخلاء قرى المثلث العربية (من كفر قاسم جنوبًا وحتى أم الفحم وقرى بناتها شمالًا)، بحيث يفر جزء من السكان إلى الأردن، في حين يتم إرسال آخرين إلى معسكرات الاعتقال في “إسرائيل”.
إن مجزرتي الدوايمة وكفر قاسم، ما هما إلا نقطة من سيل مجازر وحشية ارتكبها – وما زال يرتكبها – الاحتلال الإسرائيلي جيشًا ومستوطنين وعصابات بحق الفلسطينيين في أماكن وجودهم، بغرض بث الرعب من ناحية، وإخلاء الأرض من ناحية أخرى، لكن الشواهد التاريخية تثبت بكل جدارة تمسك الفلسطيني بأرضه ورغبته بأن ترتوي بدمائه على أن يكرر مأساة النكبة واللجوء مرة أخرى.