تشهد الجزائر اليوم انطلاق أعمال القمة العربية، ولا شك أن بلد المليون ونصف المليون شهيد استعد جيدًا لهذه المناسبة لعدة أسباب؛ منها الغياب الطويل لالتقاء القادة العرب وجهًا لوجه، وغياب ثانٍ أطول لدور الجزائر كعضو فاعل في القضايا العربية، وكونها أول قمة بعد محاولات إغلاق قوس الثورات.
تسعى الجزائر إلى لم الشمل والعودة بقوة من باب قضية العرب الأولى “فلسطين”، بعد عصف “الخريف العبري” كما ظلت تهدد دائمًا الثورات المضادة للربيع العربي، فهل تكون قمة توحيد أم قمة فرز مع غياب دول وازنة؟ وهل تنجح في إدانة المطبّعين؟
“الشعب يريد تحرير فلسطين”
عادت الجزائر من باب القضية الفلسطينية في محاولة لتحصيل الحد الأدنى من الإجماع العربي أو من إنجاح القمة التي أصبح مجرد انعقادها بعد ثلاث سنوات إنجازًا في حد ذاته، لذا تركزت جهود الرئيس عبد المجيد تبون، على استدعاء العامل التاريخي المحفّز للشعوب العربية التي تحركت خلال موجات الربيع العربي، وكانت أولى صيحاتها من تونس المجاورة: “الشعب يريد تحرير فلسطين”.
صحيح أن الحراك الجزائري الذي جاء متأخرًا في 2019 وأطاح بالرئيس المقعد عبد العزيز بوتفليقة، لم يستطع الإتيان برئيس جديد من خارج المنظومة القديمة، لكن ربما كان تبون الأفضل ضمن المرشحين كونه كان جسرًا انتقاليًا بين فترتين، لذلك حاول دائمًا التخلص من الإرث القديم الذي يصفه بـ”إرث العصابة”.
ذلك النجاح ولو نسبيًا، لعدم تحقيق مطالب الحراك وسجن كثير منهم، ساهم في تفادي سقوط الجزائر في الفراغ السياسي داخليًا، ويحاول تبون حاليًّا استثمار ذلك الاستقرار من خلال العودة للساحة العربية بقوة، عبر إعادة القضية الفلسطينية إلى تربتها الخصبة في المنطقة المغاربية.
كما تتزامن القمة مع إحياء الجزائريين لذكرى ثورة نوفمبر التاريخية، وهو نفس الشهر الذي اختاره ياسر عرفات في الجزائر لإعلان استقلال فلسطين في 1988، وقبل ذلك ساهمت الجزائر في تدريب الفلسطينيين ومدهم بالسلاح، بل شاركهم الجزائريون في سحق كتيبة الدبابات عام 1973 بقيادة شارون.
33 عاما على إعلان الرئيس ياسر عرفات وثيقة استقلال #فلسطين
تقرير بصوت #عبدالله_حميد pic.twitter.com/mfCtgwMmuk
— عبدالله حميد (@abdallahMohamma) November 16, 2021
ولربط الماضي بالحاضر، قام تبون بمحاولات للصلح بين الفصائل الفلسطينية عندما جمعهم خلال ذكرى الاستقلال الأخير، ثم قبيل أيام، حين تم إبرام اتفاق لإجراء انتخابات فلسطينية لتجاوز الانقسام.
قدم تبون مساعدات مالية لدعم الموازنة الفلسطينية، في خطوة تثير انزعاج بلدان مجاورة، ونقصد المغرب الذي يقود لجنة القدس المجمدة أعمالها منذ عقدين، دون تحرك مغربي أو منظمة المؤتمر الإسلامي، كما تزعج الخطوة، بلدان أخرى تعتقد أنها تقود القاطرة العربية في السابق ولا تزال، مثل مصر والسعودية اللتين تخشيان سحب البساط من تحتهما، بعدما كانتا تقودان جهود إقليمية في مسار القضية الفلسطينية وتحددان توجهات السياسة العربية عمومًا، في المنطقة والعالم.
مواجهة “الخريف العبري”
بعيدًا عما إذا كان العاهل المغربي سيحضر القمة أم لا، رغم الدعوة الجزائرية، فلا ريب أن الخلاف عميق بين البلدين، وصل حد التوجس من مواجهة عسكرية وفق كثير من الملاحظين، لا سيما بعد مقتل جزائريين في نوفمبر/تشرين الأول الماضي، في قصف للحدود بين الصحراء المغربية وموريتانيا، نسبته الجزائر للمغرب.
كما لا تخفي الجزائر سخطها الكبير من التطبيع المغربي مع الكيان الصهيوني الذي وصل مراتب متقدمة جدًا، في مجال التصنيع العسكري، إذ حذر تبون من الاختراق الإسرائيلي للمنطقة المغاربية والإفريقية، خاصةً بعد انتشار الأخبار حول برنامج “بيغاسوس”، والطائرات المسيرة “كاميكاز”.
بينما تمكنت الجزائر في فبراير/شباط المنقضي بعد جهود دبلوماسية، من طرد ممثل الاحتلال بالاتحاد الإفريقي، الذي رغب في الترشح كعضو ملاحظ، واصلت جهودها نحو إقامة تحالف مضاد للتطبيع، بدأته مع دول الجوار، فساعدت تونس في الخروج من “مأزقها” كما وصفه تبون، خلال زيارته الأخيرة لإيطاليا، بعد إقراض تونس مبلغ 300 مليون دولار، ثم أعلنت الجزائر استعدادها لجلب الشركات الفرنسية من المغرب إلى تونس، بعد غضب المغرب من استضافة الرئيس التونسي لرئيس جبهة البوليساريو، مخافة التغلغل الاقتصادي لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
??????| «L’Algérie a demandé à la France de transférer les entreprises françaises au Maroc vers la Tunisie. L’Algérie aidera avec le gaz et le pétrole.
Excellente décision [d’accueillir le Polisario], les intérêts du peuple ?? sont avec l’Algérie»
Najib Dziri, journaliste ?? pic.twitter.com/ZaoDe7j9S7
— Morocco Intelligence (@MoroccoIntel) October 12, 2022
لا نرغب في وضع الملح على الجرح العربي، لكن من عادة القمم العربية أن تكشف الخور الذي يشهده الوطن المجزأ، فتحويل ثورات الربيع العربي إلى خريف عاصف، لم يعد أمرًا خفيًا من بعد ضخ البترودولار، لتمكين النظام المصري الجديد باعتراف السيسي نفسه، أو بمحاولة إسقاط الحكومات الشرعية المعترف بها دوليًا، في ليبيا، ثم إرجاع النظام السوري للجامعة العربية من طرف الذين هددوا بإسقاطه، في لعبة أشبه بالعبثية.
ربما في ذلك ما جعل تبون يرفض الزحف على معقل الثورات في عقر دارها، بمنطقة المغرب العربي، في تعارض صريح مع التدخل المصري الإماراتي، وقد صرح في أكثر من مناسبة أنه يدعم حكومة الوحدة الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، التي تعتبرها القاهرة حكومة منتهية الصلاحية، والموقف الجزائري واضح، فقد وجه الدعوة إلى حكومة الدبيبة لحضور القمة، حيث كانت وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش أول الذين وصلوا الجزائر.
تبون كان قد أعرب من سنوات عن استعداده للدفاع عن طرابلس ضد محاولات ضمها المتلاحقة من حفتر المدعوم مصريًا وإماراتيًا، كما دعا مؤخرًا إلى تقديم الانتخابات البرلمانية على الرئاسية، لقطع الطريق على ترشح حفتر لرئاسة البلاد، إضافة إلى تهديد رئيس أركان الجيش الجزائري شنقريحة لحفتر من مغبة الاقتراب من الحدود، تحولت حينها إلى حرب إعلامية بين الجانبين.
كل ذلك لا يمكن فهمه خارج معاداة النظام الجزائري للتطبيع، الذي تتهم فيه عدة أطراف سياسية وإعلامية حفتر بعزمه ربط علاقات دبلوماسية بالاحتلال، فضحتها وسائل إعلام عبرية بعد زيارة لصدام نجل حفتر، لطلب السند السياسي والمالي.
فضح الصامتين
يفسر متابعون غياب دول كبرى بحساسية الموضوعات المطروحة خاصة المتعلقة بفلسطين، فالمطبع لا يمتلك قراره، والتطبيع هو من منعهم، لأن المطبعين يخضعون للأوامر عادة، ففي بيان رسمي أعلنت السعودية تغيب محمد بن سلمان عن قمة الجزائر، بحجة مرض أصاب “الأذن الوسطى” وعدم قدرته على ركوب الطائرة وهو عذر غير مألوف، ولم تتعود السلطات كشف الأخبار الصحية لأي من ساستها، رغم ما يشاع عن الملك نفسه بين الفنية والأخرى، من أمراض، كما لم تقدم السلطات أي أخبار بهذه الدقة عن واقعها السياسي والأمني رغم الإشاعات المستمرة بشأن عدة قضايا، تتعلق بالأمن والحرب في اليمن، وغيرها.
فسر مراقبون الغياب السعودي من قادة الصف الأول والثاني (الملك أو ولي العهد)، بوجود غضب على الدولة المستضيفة، لعدة أسباب منها منافسة الجزائر للدور السعودي في قضايا يرى القائد الفعلي للسعودية أنها قد تضعف نفوذها، خاصة في ملف فلسطين (العنوان الأبرز للقمة)، بعد فشل وساطتها بين الفصائل الفلسطينية قبل سنوات، وما لذلك من رمزية لإفلات قضية المقدسات الإسلامية من بلد يرى نفسه ممثلًا للإسلام السني، ويمثل دوله.
كما يدور الحديث عن غضب سعودي على الجزائر التي رفضت وساطة الرياض لخفض التوتر مع المغرب في القضية الصحراوية، عقب زيارة وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة للسعودية، خلال الأيام القليلة الماضية.
ومن بين كل تلك التكهنات عن حقيقة الغياب السعودي، يرجح البعض أن الحرج السعودي حاصل في كل الأحوال، فيما يخص ملف التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد ما راج عن تمسك الجزائر بالتنصيص في مخرجات القمة على رفض التطبيع العربي دون الالتزام بالمبادرة العربية للسلام (مبادرة الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز) التي تم الإعلان عنها في قمة بيروت 2002.
ذلك الأمر يثير حرجًا للقيادة السعودية مع الكيان، في ظل التطبيع غير المعلن، وهو ما تجسم في زيارات خامات للسعودية وزيارات أخرى لوسائل إعلام إسرائيلية آخرها كان للبقاع المقدسة، والأهم من ذلك فتح السعودية مجالها الجوي صيف العام الحاليّ، أمام طيران الكيان.
بيان من الرئيس بايدن يرحب بفتح المجال الجوي السعودي لإسرائيل. https://t.co/ObaDymWpYb
— U.S. Embassy Riyadh (@USAinKSA) July 15, 2022
طبعًا هذا لا يعني حتمًا، حتى إن حضر جميع الزعماء العرب، أن آمالًا كبيرةً يمكن تعليقها على مخرجات القمة، ولا الشارع العربي منشغل ببيانها، في زمن باتت فيه أقصى الأماني أن يدين العرب التطبيع، بعد أن كشفت الثورات أن من يطلبون الاحتماء بالكيان اليوم، هم من حولوا الربيع إلى خريف.