“قرن تركيا”، بهذا الوصف اللافت تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى شعبه، كاشفًا رؤية حزبه “العدالة والتنمية” المتعلقة بأهداف الجمهورية في مئويتها الجديدة، التي يريد – من خلالها – إكساب البلاد دستورًا جديدًا يكون نتاج الإرادة الوطنية، بدلًا من الدستور الذي تم وضعه بعد انقلاب 1980، ومتحدثًا أن القرن الجديد سيرتفع من خلال تلبية تطلعات الشباب وملامسة اهتماماتهم في جميع المجالات، من التكنولوجيا إلى الفن، ومن الرياضة إلى البيئة، وهي رسالة مهمة إلى شريحة ستحدث تأثيرًا كبيرًا في الانتخابات المقبلة، مع تصميم من أردوغان على إعداده بالشكل الذي يناسب قرن تركيا، وتنفيذه بموافقة البرلمان وموافقة الشعب، ومن المرتقب أن يعرض على البرلمان الأسبوع المقبل مشروع التعديل الدستوري المتعلق بالحجاب.
“القرن الجديد”، سياسة يريد من خلالها حزب “العدالة والتنمية” العودة إلى الميدان بإنتاج سياسات مغايرة، بعد أن نجح في إحداث طفرة كبيرة وأسهم في إنعاش قطاعات عديدة خلال فترة حكمه المستمر منذ أكثر من 20 عامًا، منها قطاعات النقل والرعاية الصحية والبيئة والصناعة، وهي صورة التنمية التي عرفتها تركيا والعالم عن الحزب، التي يراد منها أيضًا تحقيق التنمية الاقتصادية بخطة مئوية.
واحدة من أكبر 10 دول بالعالم
اليوم يعود الحزب في مهمة إعادة تشكيل السياسة في تركيا، فيخطط أردوغان من خلال الرؤية أن تكون بلاده واحدة من أكبر عشر دول بالعالم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية وكذلك الدبلوماسية.
تضمنت كلمة أردوغان المطولة دلالات تاريخية ورسائل مهمة إلى الداخل التركي
“مشروع معاصر للاستبدال، بالهوية الوحدة، وبالاستقطاب التكامل، وبالإنكار الاحتضان، وبالهيمنة الحرية، وبالكره المحبة”
يصف أردوغان “قرن تركيا” – في كلمته التي خاطب بها شعبه وسمعها العالم – بأنه مشروع معاصر للاستبدال، بالهوية الوحدة، وبالاستقطاب التكامل، وبالإنكار الاحتضان، وبالهيمنة الحرية، وبالكره المحبة، هي خريطة طريق محددة بأهداف وبرامج ومبادئ، يريد من خلالها أيضًا أن تستمر تركيا في قرنها بدخولها المئوية الجديدة لتأسيس الجمهورية عام 2023.
تضمنت كلمة أردوغان المطولة دلالات تاريخية ورسائل مهمة إلى الداخل التركي، فقد اختار موعد إعلان “قرن تركيا” قبل يوم واحد من ذكرى تأسيس الجمهورية – 29 أكتوبر/تشرين الأول – معلنًا بذلك نموذجًا جديدًا لتركيا يلوح في الأفق، يريد من خلاله أيضًا نقل بلاده إلى مستويات مغايرة، وعلى مختلف الصعد، السياسية والأمنية والعسكرية، ويحصد ما بناه خلال السنوات العشرين الماضية من حكم العدالة والتنمية، الذي حوّل أنقرة إلى لاعب مهم في السياسة الإقليمية والدولية.
العالم يصغي إلى “قرن تركيا”
يصغي العديد من دول العالم إلى أردوغان في خطابه الأخير، بعد أن تحولت بلاده إلى ملاذ دبلوماسي أخير في قضايا العالم الكبرى، وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية، وتؤشر هذه العوامل بوضوح على قوة السياسة الخارجية، التي أسهمت أنقرة عبرها في لعب دور إيجابي وكبير – فشلت به الولايات المتحدة والأمم المتحدة والعديد من الدول – من خلال عمل دبلوماسي لافت خلال الحرب، أصبحت من خلاله طرفًا موثوقًا فيه وفريدًا من الأوكرانيين والروس.
يريد أردوغان استثمار هذا الدور الكبير بتحويل تركيا إلى أهم الدول الصناعية والتجارية في العالم، على أن تكون في السنوات المقبلة، مركزًا عالميًا في الصناعة والتجارة اللتين تضررتا كثيرًا خلال جائحة كورونا ومن ثم الحرب في أوكرانيا.
ووسط التفكك العالمي والأزمات التي تعصف بدول العالم، تريد تركيا أن تحجز مقعدًا مبكرًا في مصاف الدولة المتقدمة، من خلال مواكبة دورها المؤثر في السياسات الخارجية، بشكل يُمَكِّن أنقرة من الحضور بقوة في عالم جديد قيد التشكيل، لكن الحرب في أوكرانيا سرّعت من وتيرة الحديث عن العالم المحتمل، تتراجع فيه أوروبا والولايات المتحدة بفعل الضغوط الكبيرة، وتتقدم فيه الصين التي تحولت إلى عملاق اقتصادي مستمر بالتوسع من خلال الاستثمار والنفوذ والتحالفات الهادئة، وروسيا التي لا تخفي طموحها باستعادة الإمبراطورية السوفيتية، في المحصلة، ما يجري هو – في حقيقته – صراع حضارات، لا يبدو أن لكثير من الدول مفرًّا منه.
رسائل تسبق انتخابات مصيرية!
هي الاستدامة في كل شيء، هكذا يريد زعيم العدالة والتنمية توضيح “قرن تركيا”، انطلاقًا من تقوية النظام بيئيًا ليحتضن الحياة بكل عناصرها، والمضي في مسيرة النضال من أجل مواكبة مسيرة العالم، هو قرن السلام للبلاد، ومواصلة العمل من أجل تحقيق الاستقرار إقليميًا على وجه الخصوص، والعالم على وجه العموم، انطلاقًا من مفهوم “العالم أكبر من خمسة” وهي عبارة شهيرة للرئيس التركي، شدد من خلالها في سنوات سابقة على ضرورة إلغاء حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي وتفعيل دور الأمم المتحدة التي تمثل معظم الدول تقريبًا، من أجل تحقيق عدالة عالمية حقيقية وشاملة.
داخليًّا، كانت ردود الفعل على الخطاب كبيرة، إذ قدّم “العدالة والتنمية” دعوات إلى معارضيه من الأحزاب والصحفيين، وهو ما جاء قبل نحو 8 أشهر على الانتخابات الرئاسية في تركيا، إلا أن حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه رجب طيب أردوغان بدأ العد التنازلي لها مبكرًا، بإطلاقه أولى الخطوات على هذا الصعيد، إذ يبرز أردوغان من جديد كمرشح رئاسي وحيد، بينما يعيش معارضوه في حيرة البحث عن منافس بحجمه.
قدّم الرئيس “قرن تركيا” على أنها رؤية حزبه، إلا أن ملايين الأتراك تلقّوا الرسالة على أنها بيان انتخابي عند سماعها أول مرة، لتمهد لبيان انتخابي للعدالة والتنمية، يتضمن رؤية الحزب وخططه للسنوات المئة القادمة، من خلال سلسلة من البرامج والمشاريع والأهداف التي من شأنها تحديد شكل “القرن المقبل”، قبل الانتخابات الرئاسية الحاسمة والمصيرية عام 2023.