بناء من ثلاثة طوابق وراء ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، الطابق الأول يتجلى بتكلّس معالجات عقيمة لما تُنعت بالحركات الإسلامية المعتدلة في فشلهما بزحزحة الأنظمة عن استبداديتها وديكتاتوريتها وفسادها لعقود، وعجزها أيضًاعن تقديم طريق آخر بديل عن سلميتها، بل وانغماسها أحيانًا مع أنظمة فاقدة للشرعية، وقد عشعش الفساد والإجرام والاستبداد فيها، يزيد الوضع تعقيدًا تعشيش فساد نخب متحالفة مع هذا الاستبداد الذي تغذّت عليه لعقود، وإن وُجدت نخب آمنت بطريق الشعوب الثورية أو المسلحة للانقلاب على هذه الأنظمة فتراها تنقلب وتسرق الثورة والثوار بألسنة حداد حالما رأت أن الطريق طويل والكلفة غالية، واستبطأت النصر، واستبطأت معه المغنم بعد أن حلّ بها المغرم، فتراها تنحاز إلى ما انشقت عنه بالأمس، أو تسعى للتصالح معه في منتصف أو ربع الطريق.
بالعودة إلى الحركات الإسلامية المعتدلة تتجلى أمامنا عدة صور، وليكن الحديث بالأسماء لتظهير الصورة فحسب، ويعلم الله أننا لا نريد تشهيرًا بأحد ولا النيل منه، خصوصًا وأن بعضهم غيبته سجون الطغاة المجرمين، ولذا فليس من الرجولة فضلاً عن الإسلام أن يُنال منهم ولكن مصلحة الأمة ومصلحة الشعوب – بحسب قدرتنا على الفهم – التي تقدم فاتورة دموية بشكل يومي أغلى منهم ومنّا.
فشعار سلميتنا أقوى من رصاصهم، شعار رائع جميل وإنساني بحجم إنسانية من طرحه، ولكن أنّى لهذا الشعار أن تفهمه وحوش الغابة التي ترى في الغابة حقًا مصكوكًا لها ورثته عن آبائها وأجدادها، لا مكان فيه للبشر، فكان ما كان مما أذكره و لست أذكره في مصر واليمن السعيد الحزين، وللأسف فإن الحركة الإسلامية في اليمن تهرع للتصالح مع الحركة الحوثية للقاء مع “عبد الملك الحوثي” في صعدة وهو اعتراف بأمر واقع مفروض، وتسليم به، بعد اجتياح معاقلها ومراكزها وقتل شبابها واعتقالهم وإهانتهم ودك مواقعها ومواقع غيرها في مناطق عديدة من اليمن؛ وهو ما دفع بعض شباب الإصلاح إلى مهاجمتها لتصالحها مع الحوثيين، يحدث هذا بينما القاعدة ومسلحو القبائل يخوضون يوميًا معارك مع الحوثيين، الذين يواصلون تقدمهم وتوسعهم، ومطالبهم بإدماج عشرات الآلاف من أتباعهم في الجيش والأمن، وحينها لا أدري عمّ تجري المفاوضات إن ذهبت الأرض والحكم للحوثيين، تمامًا كالمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، بينما على الأرض الاستيطان ابتلع مادة التفاوض نفسها التي من المفترض التفاوض من أجلها.
وإذا صحّ ما تسرّب عن أن أحد بنود الاتفاق بين الحوثيين والإصلاح وهو تخلي الأخير عن عناصره الذين يقاتلون مع القاعدة؛ فهذا سيعني انشقاقًا حقيقيًا في صفوف الإصلاح وتعزيزًا لقوة القاعدة على حسابه لسببين: الأول أن الحوثي لا يمكن الوثوق به بعد سلسلة التجارب والخبرات المريرة الماضية، والثاني أن الشباب حينها سيرون أن لا بديل عن العمل المسلح لاسترداد حقوقهم وحقوق ثورتهم اليمنية وهو ما لا توفره سوى القاعدة بنظرهم .
وقد حصل الانفصال من قبل في مصر بعد أن رأى الشباب أن الانقلابيين وداعميهم لا يفهمون إلاّ لغة القوة، ونحن هنا لسنا بصدد تأييد هذا النهج أو معارضته بقدر ما نتحدث عن واقع نسعى إلى فهمه سوسيولوجيًا، وللأسف أمام هؤلاء جميعًا التجربة العراقية التي لم تشفع للحزب الإسلامي العراقي في تحالفه مع التحالف الشيعي بسنوات، ليرى نفسه زعيم الحزب ونائب رئيس الجمهورية العراقية “طارق الهاشمي” مطاردًا في المنافي، ويبدو أن الإصلاح اليمني مصر على تكرار التجربة ذاتها.
لا زلت أتذكر حين هدد الرئيس الأمريكي باطني السياسة “باراك أوباما” بقصف طاغية الشام لانتهاكه الخط الأحمر الذي رسمه باستخدامه الكيماوي، وليس لقتله البشر على مدى سنوات، فهرعت حركات إسلامية ووطنية إلى التنديد والتهديد والوعيد لمن يُوجه ضربات أمريكية لما وصفوها بسوريا، أما توجيه الطاغية لكل آلته العسكرية المجرمة ضد الشعب السوري على مدى سنوات فهذا حق طبيعي كفلته له قوانين تلك الجماعات الخرقاء وقواعدها، ومع هذا لم تقع الضربات، وحين وقعت بالفعل ولا تزال تقع رأينا هذه الجماعات تدخل غياهب الجب وتلتزم جحورها تنفيذًا لتعاليم طهران وواشنطن بالصمت المطبق على هذه الغارات الأمريكية والدولية والعربية، ويسألونك لماذا خرج تنظيم الدولة، ولماذا خرج الشباب عن اعتدالهم وسلميتهم وثورتهم التي شهد لها العالم كله.
الطابق الثاني لبناء ظهور تنظيم الدولة وقدرته على كسب الأتباع يعود لوحشية الأنظمة المجرمة التي سدّت كل منافذ التغيير السلمي، وأرغمت الشباب على العمل المسلح، ولذا نرى التأييد للتنظيم بحسب استطلاعات الرأي في المناطق البعيدة عن تواجده ويعود ذلك للصورة الوردية عن الخلافة ودولة الإسلام التاريخية التي يحملها الشباب، وهو ما سعى تنظيم الدولة إلى استغلالها بإعلانه عنها في الشام والعراق، فالأنظمة المجرمة التي انقلبت على خيار الشعب في مصر بطريقة وقحة، وتوجتها بمجزرة رابعة، ثم بالبراءة لطاغية مصر وفرعونها، إنما هو تجريم لثورة 25 يناير، ولم يتبق إلا محاكمة الثوار والشهداء الذين انتفضوا ضد نظام مبارك؟!، أضف إلى ذلك ما جرى في اليمن من التفاف على الثورة في البداية، ثم انقلاب عليها تمامًا، وبلغ ذروة الانقلاب والوقاحة أن يصل الحوثيون إلى صنعاء وتتبجح إيران بسيطرتها على خمس عواصم عربية، ثم ما جرى في ليبيا وتجرؤ دول عربية صغيرة على قصف الليبيين وتدخلها في خياراتهم الانتخابية وفرض أنظمة استبدادية شمولية ديكتاتورية كحفتر.
يبقى الطابق الثالث المتمثل في الدعم الدولي للاستبداد العربي بكل ما أوتي من قوة وصمته وتواطئه ومساعدته على المجازر اليومية التي تجري في الشام والعراق واليمن، ودعمه للاستبداد والديكتاتورية في العراق، بل والتحالف العضوي بين واشنطن وطهران لإذلال الشعوب العربية، تجلى ذلك بكل صلافة في رسالة أوباما إلى خامنئي بأن ضرباته لن تمس بشار الأسد؛ كل ذلك زاد من حنق الشباب وغضبه حيث لا يوجد عدل ولا انصاف في هذا العالم، وأن الخيار الوحيد المتبقي أمامه القوة المسلحة، فالأمريكيون منذ بداية الثورة السورية وهم يكررون أنهم لن يسمحوا بانتصار الثورة السورية عسكريًا، ويدعون الضحية إلى الاستسلام للجزار الطائفي بشار أسد ليلقي لهم بالفتات، إن رضي وتكرّم عليهم، ولن يفعل.
أخيرًا .. أدرك تمامًا أن تنظيم الدولة حالة غضب وليس حالة فكرية أوعسكرية مستدامة فحسب، ومن يريد أن يُعالجه فعليه أن يلتفت إلى الجذور التي تسببت في ظهوره وتطوره، وقد بان ذلك من خلال التعاطف الكبير في العالمين العربي والإسلامي تجاهه، بينما من اكتوى بناره في العراق والشام، يدرك أنهم كانوا ضررًا على الثورة بجهل أو بعلم لا فرق، ولكن الحالة الفكرية التي يكسب فيها فكر تنظيم الدولة سيتمدد ما دامت الأحزاب المعتدلة سادرة في غيّ تكلس فكري وانبطاح سياسي وإصرار على التمسك بثوابت ماضوية لا تُعالج متغيرات متسارعة إن كانت على صعيد الجلاد وهي الأنظمة المستبدة، أو على صعيد الضحية التي لم تعد هي نفسها قبل ربيع العرب.
المصدر: شؤون خليجية