من جديد تطل أزمة كبيرة من مناطق الشمال السوري المحرر من نظام الأسد، خاصة أن فصل الشتاء يطرق الأبواب على أكثر من 5 ملايين نسمة يقطنون في المنطقة، ومن هؤلاء يسكن مليون ونصف في مخيمات تفتقر لأدنى مقومات الحياة وحفظ الكرامة، تتضاعف الأزمة هذا العام بعد الإعلان عن أن الأمم المتحدة خفضت المساعدات للشمال السوري مقابل رفعها لمناطق النظام السوري ومناطق السيطرة الكردية التي يحكمها تنظيم “قسد”.
يتكلم المهندس أحمد أبو الحسام العامل في إحدى المنظمات الإنسانية في منطقة إدلب عن الحالة الإنسانية السيئة في الشمال السوري وخصوصًا في المخيمات، مشيرًا إلى أن الأمر أصبح متكررًا، ففي كل عام يأتي الشتاء والحالة الإنسانية لأهل الخيام تزداد صعوبة، ومما يعزز صعوبة الحالة الإنسانية تقاعس المنظمات الداعمة والأمم المتحدة عن إدخال المساعدات اللازمة.
إنذار بالكارثة
يشير أبو الحسام إلى أن “بعض العوائل ما زالت في نفس الخيمة منذ 3 سنوات وبالأصل هي مخصصة للجلوس المؤقت لمدة 6 أشهر فقط”، ويروي في حديثه لـ”نون بوست” أن أحد الاجتماعات التي قاموا بها مع مسؤولي الأمم المتحدة لم يلمسوا جدية في التعامل مع الملف السوري كما يجب، كما أنهم لم يأخذوا طلبات الاحتياجات اللازمة على محمل الجد، ما يجعل الأمر خطيرًا وينذر بالكارثة.
منذ أيام أصدر فريق “منسقو استجابة سوريا” العامل في الشمال السوري بيانًا يحذر فيه من أفعال الأمم المتحدة التي تعمق المأساة الإنسانية في المناطق تلك، ويأتي بيان الفريق بعد أن قدم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش التقرير الخاص بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بإدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى مناطق شمال غرب سوريا من معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.
يقول البيان إنه من الملاحظ مع تقرير غوتيريش “انخفاض حجم العمليات الإنسانية للمدنيين في المنطقة ضمن كل القطاعات ويوضح الشكل المرفق حجم الاستجابة المقدمة للقطاعات”، ويذكر بيان الفريق السوري القطاعات التي انخفض منسوب الدعم الأممي الإنساني لها على الشكل التالي: “انخفاض عدد الشاحنات الإغاثية بشكل كبير مقارنة بالتقرير السابق، حيث انخفضت أعداد الشاحنات الإغاثية إلى مستويات قياسية مقارنة بزيادة حجم الاحتياجات للمدنيين في المنطقة”.
كما يشير الفريق إلى “استمرار توقف الدعم عن القطاع التعليمي من وكالات الأمم المتحدة”، وعلى الرغم من زيادة الاحتياج الكبير لقطاع المياه يشير البيان إلى “توقف الدعم عن القطاع خلال مدة الإحاطة رغم المناشدات الكثيرة بالتزامن مع انتشار مرض الكوليرا وارتفاع أعداد المصابين بفيروس كورونا خلال الفترة السابقة”.
أما بالنسبة لقطاع الأمن الغذائي، يقول بيان “منسقو الاستجابة”: “لوحظ الانخفاض أيضًا بسبب ضعف توريد المساعدات الإنسانية، حيث تقلصت نسبة المساعدات إلى أكثر من النصف، في حين تقلصت المساعدات إلى نسبة 31% ضمن قطاع الصحة الذي يعاني بالأصل من كوارث حقيقية نتيجة الأزمات المستمرة التي يتعرض لها منذ أعوام”.
انحياز للنظام
وبيّن البيان أن الأمم المتحدة تعمل على “استمرار تقديم الدعم بشكل كبير إلى مناطق النظام السوري وخاصةً ضمن قطاع الإنعاش المبكر ضمن مشاريع حيوية تعود بالفائدة الفعلية على تلك المناطق”، في حين ادعى التقرير الأممي “ارتفاع عمليات التعافي المبكر في شمال غرب سوريا”، لكن بمراجعة المشاريع المقدمة للشمال السوري الواقع تحت سيطرة المعارضة “لوحظ أن أغلبها يتركز على ترحيل الأنقاض ومخلفات الحرب والأبنية وهي بالمختصر ما دمره النظام السوري وروسيا في استهدافها للمناطق السكنية والبنى التحتية في المنطقة”.
يشير البيان إلى أنه “خلال 107 أيام من بدء تطبيق القرار الأممي الخاص بآلية إدخال المساعدات، لوحظ الانحياز الكامل في مشاريع الأمم المتحدة لمناطق النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على مناطق في شرقي سوريا”.
يخلص البيان إلى أن تقرير الأمين العام ما هو إلا إثبات أن القرار الأممي هو لخدمة مناطق النظام السوري ولتمرير المشاريع المختلفة بعيدًا عن العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري، وحذر الفريق “الوكالات الدولية كافة من أي تخفيضات جديدة في الفترة المقبلة، لما سيسببه من عواقب سيئة جدًا على المدنيين في ظل بقاء أسعار المواد والسلع الغذائية مرتفعة والهشاشة الشديدة التي يمر بها المدنيون في المنطقة”.
يشار إلى أن أكثر من 92% من العائلات التي تقطن في الشمال السوري غير قادرة على تأمين مواد التدفئة للشتاء القادم، وهو ما ينذر بتفاقم الكارثة التي تتجدد في شتاء كل عام، وبحسب الإحصاءات فإن 78% من النازحين لم يحصلوا على إمدادات التدفئة وتحديدًا ضمن المخيمات، خلال شتاء العام الماضي.
وقد أدى انخفاض درجات الحرارة في الشتاء الماضي إلى وفاة طفلتين، بالإضافة إلى وفاة 3 أطفال وإصابة 9 أشخاص آخرين نتيجة حرائق نشبت بسبب استخدام مواد غير صالحة للتدفئة، وسببت الأمطار والثلوج أضرارًا ضمن 611 مخيمًا أدت إلى تضرر 248 ألفًا و732 مدنيًا.
وفي حال استمرت الأمم المتحدة في تخفيض المساعدات المقدمة فإنه يُخشى على الأمن الغذائي لسكان المنطقة وخاصة النازحين الذين يقطنون المخيمات التي يبلغ عددها 1400 يعيش فيها أكثر من 1.5 مليون شخص.
في ظل هذا التقاعس الأممي عن الإغاثة اللازمة للمناطق في الشمال السوري، تذكر التقارير أن نسبة العائلات الواقعة تحت خط الفقر ارتفعت إلى نحو 87% خلال شهر يوليو/تموز الماضي، في حين بلغت نسبة العائلات التي وصلت إلى حد الجوع ما يقرب من 38%.
تخفيض المساعدات إلى شمال غربي سوريا يأتي رغم تقارير الأمم المتحدة التي تقر بصعوبة الأوضاع هناك، وفي بيان سابق للمنظمة الأممية تقول: “تتدهور الأوضاع الإنسانية بسبب الأعمال العدائية المستمرة والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ويعتمد نحو 4.1 مليون شخص هناك على المساعدات لتلبية احتياجاتهم الأساسية، و80% منهم من النساء والأطفال”.
انحياز الأمم المتحدة تجاه النظام وقسد على حساب الشمال السوري يصفه المهندس أحمد أبو الحسام بأنه “انحياز لا أخلاقي خاصة أن الأمم المتحدة لديها جميع البيانات والإحصاءات والأرقام التي تثبت أنه في حال تخفيض الدعم في أي مجال فإن هذه المناطق ستكون تحت خطر حقيقي”، ويشير إلى أن “الأمم المتحدة باتت تمشي كما تريد روسيا لها في سوريا، خاصة أن روسيا تريد دخول المساعدات إلى شمال سوريا عن طريق النظام وليس عن طريق تركيا، وهو الأمر الذي سيجعلنا محاصرين من كل الجهات، والمنظمة الأممية لا تحاول في هذا الصدد شيئًا”.
الحديث عن تخفيض المساعدات الأممية إلى الشمال السوري، يذكر بالتقارير التي وردت عن فساد كبير يرتبط بالأمم المتحدة في سوريا، فقد كشفت وثائق أن الأمم المتحدة قدمت ما يقرب من 137 مليون دولار للشركات السورية المرتبطة بمنتهكي حقوق الإنسان ومنتفعي الحرب والأشخاص الخاضعين للعقوبات وغيرهم من الشخصيات المرتبطة بنظام بشار الأسد في عامي 2019 و2020.
فساد وشراكات مشبوهة
تشير الوثائق التي نشرها مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية والبرنامج السوري للتطوير القانوني إلى أن “الشركات التي تلقت أموال مشتريات الأمم المتحدة في سوريا شملت كيانات يملكها زعيم ميليشيا خاضع للعقوبات على صلة بمذبحة خارج دمشق وأفراد عائلة رجل أعمال يُزعم أنه استفاد من المتاجرة بأنقاض المباني التي قصفتها القوات الحكومية”.
وبحسب التحقيق المطول فإن ما يقرب من ربع أموال الأمم المتحدة التي تم تحليلها “ذهب إلى الشركات المملوكة لأشخاص فرضت عليهم الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو بريطانيا عقوبات بسبب صلاتهم بنظام الأسد أو أي تورط آخر في الصراع”.
ويذكر التقرير أنه “عندما يتم إساءة استخدام المساعدات الإنسانية وتشويهها بشكل منهجي، تحت ذريعة حماية حياد العمليات الإنسانية، فقد تصبح سلاحًا خطيرًا في أيدي الحكومة ضد شعبها”، مضيفًا “من المعروف منذ فترة طويلة أن الأمم المتحدة تقدم التمويل للشركات المرتبطة بنظام بشار الأسد، الذي أشرف على حرب أهلية استمرت عقدًا من الزمان وأسفرت عن مقتل مئات الآلاف من الأشخاص وأجبرت نحو 7 ملايين شخص على الفرار من ديارهم”.
ويوثق التحقيق إنفاق موظفي الأمم المتحدة عشرات ملايين الدولارات للإقامة في فندق فورسيزونز بدمشق، الذي يمتلك معظمه سامر فوز وهو رجل الأعمال المقرب من عائلة الأسد وأحد ممولي آلة الأسد العسكرية وقد فرضت واشنطن عقوبات عليه.
ويشير التحقيق إلى أن “ما يقرب من نصف إنفاق الأمم المتحدة في عامي 2019 و2020 ذهب إلى شركات ذات مخاطر عالية أو عالية جدًا، بما في ذلك تلك الشركات المملوكة للمنتفعين من الحرب والأشخاص الخاضعين للعقوبات وحلفاء النظام البارزين، بعد استبعاد الموردين الذين تم حجب هوياتهم لأسباب أمنية أو لأسباب تتعلق بالخصوصية”.
وجد معدو التقرير أن أسماء الأسد زوجة بشار الأسد مستفيدة أيضًا من أموال المساعدات التي أرسلتها الأمم المتحدة بين عامي 2015 و2017، وذلك عبر تمويلات الأمم المتحدة إلى الأمانة السورية للتنمية التي ترأسها الأسد، إضافة إلى أسماء الأسد يبين التحقيق أن شركة “فيرست كلاس” التي يملكها نزهت مملوك، ابن علي مملوك مدير مكتب الأمن القومي الذي كان له كبير الأثر في الإجرام ضد الشعب السوري، حصلت على عقد قيمته 371000 دولار أمريكي من “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” في عام 2020.
التحقيق ذلك أتى بعد ما تم الإعلان عن قضية فساد أخرى في صفوف المؤسسات الأممية في سوريا، فقد اتهم موظفو مكتب منظمة الصحة العالمية، مديرة المكتب، بسوء إدارة ملايين الدولارات من أموال المنظمة وتقديم الهدايا إلى مسؤولين في حكومة النظام السوري، شملت حاسبات وعملات ذهبية وسيارات وانتهاك قواعد الوكالة الخاصة بكورونا خلال تفشي الجائحة في البلاد.
وتظهر أكثر من 100 وثيقة ورسائل ومواد أخرى سرية حصلت عليها وكالة “أسوشيتد برس” أن مسؤولي منظمة الصحة العالمية أخبروا المحققين أن ممثلة المنظمة في سوريا الدكتورة أكجمال مختوموفا ارتكبت مخالفات جسيمة وضغطت على موظفيها لتوقيع اتفاقات مع سياسيين بارزين في حكومة النظام السوري وأساءت إنفاق أموال المنظمة والجهات المانحة.
ووفقًا للوثائق بلغت ميزانية مكتب منظمة الصحة العالمية في سوريا نحو 115 مليون دولار العام الماضي، وقضى محققو منظمة الصحة العالمية الأشهر الماضية في التحقيق بالمخالفات، بما في ذلك الحفل الذي أقامته مختوموفا للإشادة بإنجازاتها الخاصة على نفقة وكالة الأمم المتحدة، وتقديمها خدمات “لكبار السياسيين في سوريا، بالإضافة إلى عقد اجتماعات سرية مع الجيش الروسي، في انتهاك لحيادية منظمة الصحة العالمية بصفتها منظمة تابعة للأمم المتحدة”.
وفي إحدى الوثائق التي أرسلت إلى المدير العام للمنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس في مايو/أيار، قال موظف مقيم في سوريا إن مختوموفا عينت أقارب مسؤولين حكوميين غير أكفاء، بينهم بعض المتهمين بارتكاب “انتهاكات حقوقية لا حصر لها”.
بالمحصلة، كانت سوريا مجالًا مريحًا لأن تخرق الأمم المتحدة أسس مبادئها القائمة على الحيادية والنزاهة، ثم إنها تعاملت مع نظام الأسد تحت مبرر الوصول للأشخاص المحتاجين القاطنين في مناطق سيطرة النظام، لكن مع التقارير الواردة يبدو أنهم لم يصلوا إلى المحتاجين الحقيقين، إنما ساهموا في تقوية نظام الأسد وحلفائه ماليًا، وهو ما ينسف مصداقيتها ويؤدي إلى انخفاض الثقة فيها كشريك مساعد في الأزمات الإنسانية، حيث اتضح أنها تتعامل مع الأزمة السورية بعيدًا عن الإنسانية وفق ما تقتضيه حاجة مسؤوليها، إضافة إلى الفساد المكتشف والعلاقات المشبوهة مع مجرمي الحرب من صفوف النظام السوري.