“حاولوا دفني حيًا، وأنا الآن هنا لحكم البلاد.. في موقف صعب للغاية، لكنني متأكد من أنه بمساعدة الناس سنجد مخرجًا ونستعيد السلام”، بهذا الكلام أعلن لويس إيناسيو لولا دا سيلفا اليساري عودته إلى حكم البرازيل بعد سنوات من تركه لمنصبه، وقال لولا دا سيلفا في خطاب انتصاره: “الشعب البرازيلي يريد أن يعيش بشكل جيد، ويأكل بشكل جيد، يريد وظيفة جيدة وراتبًا يتم تعديله دائما فوق التضخم، ويريد الحصول على تعليم وصحة جيدين، يريد الحرية الدينية ويريد الكتب بدلًا من البنادق.. الشعب البرازيلي يريد استعادة الأمل”.
انتصر لولا دا سيلفا بالانتخابات الرئاسية البرازيلية بفارق ضئيل (50.9% من أصوات الناخبين مقابل 49.1%) على منافسه الرئيس المنتهية ولايته اليميني المتطرف جايير بولسونارو الذي لم يستطع الصعود إلى ولاية ثانية، صحيح أن الفارق بين المرشحين كان قليلًا، إلا أن استطلاعات الرأي التي أجريت في الشهور الماضية كانت تؤكد فوز لولا دا سيلفا بالانتخابات، خاصة أن عهد اليمين المتطرف بقيادة بولسونارو أوصل البرازيل إلى انحدار غير مسبوق.
اعتبرت سنوات حكم الرئيس المنتهية ولايته قائمة على سياسة “تفكيك الدولة”، فقد أظهر عداءه بشكل كبير لليسار البرازيلي والمؤيدين للإجهاض بالإضافة إلى العلمانيين والنساء، ووصل به المطاف إلى محاربة السكان الأصليين الذين شهدوا تراجعًا في حقوقهم وفي حماية أراضيهم وممتلكاتهم، وتذكر التقارير أن بولسونارو عزز خطاب الكراهية والعنف في البلاد، إذ إن أنصاره كانوا يحتشدون في الشهر مرتين في عدّة مدن ويقومون باستعراضات استفزازية.
حضر بعض العسكريين التجمعات والتظاهرات المؤيدة لليميني المتطرف مما أثر على السلم المجتمعي، وقد أغرق البلاد بالسلاح، وفتح الأمازون لكل المتربصين بثرواته الطبيعية، من دون أن يخفي الرئيس البرازيلي عداءه منقطع النظير للجماعات البيئية والبيئيين.
كل ذلك، جعل الرئيس المنتصر لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، يجزم بالفوز قبل أيام حيث قال: “أنا متأكد من أننا سنفوز في الانتخابات”، مشيرًا إلى أنه يخوض معركة انتخابية كبيرة بقوله: “نحن نناضل لإقناع من يسمون بالممتنعين عن التصويت، أولئك الذين لم يذهبوا للتصويت.. لأن الانتخابات مشدودة للغاية، عدد الأشخاص الذين يتعين علينا إقناعهم يتناقص بشكل متزايد”.
من أحياء البرازيل
بدأت حياة لولا دا سيلفا مليئة بالصعوبات كحال الكثير من الشبان البرازيليين الذين كانوا يكافحون لكسب لقمة عيشهم في ظل حياة اقتصادية بائسة، دفعت بعض المواقف التي حصلت بين الشاب لولا دا سيلفا مع دوائر الدولة إلى الانخراط في الشأن العام والصعود للمطالبة بحقوق الناس، ولا غرابة من اندفاعه المستمر، فقد ساهمت أمه في هذه التنشئة حيث يقول: “لقد علمتني أمي كيف أمشي مرفوع الرأس وكيف احترم نفسي حتى يحترمني الآخرون”، وهو الأمر الذي زاد من شعبيته عندما أصبح رئيسًا، فهو ابن أحياء البرازيل التي خبرها جيدًا وله علم بأزماتها.
ولد لولا دا سيلفا عام 1945، في ولاية بيرنامبوكو لعائلة فقيرة تتألف من 10 أشخاص، كان والده يسافر للبحث عن العمل بينما تعمل أمه في زراعة الذرة والبطاطا لإعالة الأسرة، ترك لولا المدرسة الابتدائية بعد أن أكمل الصف الخامس فقط للعمل بدوام كامل، حيث كان يعمل بائعًا متجولًا وعاملًا في مصنع، كما أنه عمل في تلميع الأحذية وكل ذلك من أجل توفير دخل إضافي لأسرته، إلا أنه عانى من البطالة في الكثير من الأوقات.
خلال عمله في أحد مصانع قطع غيار السيارات، تعرض لولا دا سيلفا لحادثة في عمر الـ19، أدت إلى بتر إصبع من أصابع يديه، بسبب إهمال صاحب العمل، هذا الإهمال أحد أهم الأسباب التي جعلته يتوجه للعمل في الشأن العام لينضم بذلك إلى العمل النقابي بهدف تحسين أوضاع العمال والتحرر من قسوة أصحاب الأموال، وبالفعل انضم لولا إلى نقابة عمال المعادن وأظهر على الفور موهبة التنظيم والتفاوض مع أصحاب المصانع.
نجح لولا بالعمل النقابي واحتل إثر ذلك منصب نائب رئيس نقابة عمال الحديد عام 1967، وبعد عام فقط تم انتخابه رئيسًا للنقابة التي كانت تضم ما يقارب 100 ألف من العاملين في قطاع صناعة السيارات في البلاد.
في بدايات عشرينياته تزوج لولا من ماريا لوردِس، التي تعرضت لوعكة صحية ذهبت على إثرها إلى المشفى لكن الأطباء تجاهلوها، ومع الأيام ازدادت أوجاع لودرس لتعود إلى المشفى ويكتشف الأطباء أنها مصابة بالتهاب الكبد الفيروسي، بالتوازي مع ذلك كانت زوجة لولا حاملًا بطفل، لكنها عند الولادة توفيت مع جنينها، وهي الحادثة المأساوية التي جعلت زوجها يبني موقفًا من الرعاية الصحية والاجتماعية في البلاد.
العمل النقابي
احتجز لولا لمدة 30 يومًا إثر خطاباته المشجعة التي ألقاها ضد الحكومة في فترة إضراب المصانع بأطراف ساو باولو عام 1980، أتى ذلك الإضراب بعد أن عمل دا سيلفا ورفاقه على تأسيس حزب العمال في البلاد، وفي عام 1981 حكمت عليه المحكمة العسكرية بالسجن لمدة 3 سنوات ونصف بتهمة التحريض، لكن أطلق سراحه عام 1982، وفي تلك الأوقات كانت البلاد تقبع تحت حكم الجيش الذي انقلب على السلطة عام 1964.
في عام 1982 فشل دا سيلفا بالفوز في أول انتخابات لحكومة ساو باولو، وبعد ذلك بسنتين شارك في حملة انتخابية لإعادة الديمقراطية إلى البرازيل وعودة حق الرئاسة المباشرة من الشعب، حققت هذه الحملة نجاحًا في الانتخابات الرئاسية لعام 1984، وقد عززت هذه الحملة شعبيته ليفوز عام 1986 بالانتخابات ويصبح نائبًا عن ولاية ساو باولو.
لعل من أهم محطات الرجل أنه شارك في صياغة دستور جديد للبرازيل عام 1988، هذا الدستور أنهى حكم العسكر الذين ظلوا في السلطة لمدة عقدين ونصف، إثر إقرار الدستور جرت أول انتخابات رئاسية مباشرة منذ سنوات، ورشح لولا نفسه لكنه هزم أمام مرشح الحزب الوطني فيرناندو كولور ميلو الذي حظي بدعم كبير، ورغم هزيمته، فإنه حافظ على موقعه وعلى حزبه في البرازيل وفي الخارج.
رئيسًا
أعاد لولا دا سيلفا ترشيح نفسه للرئاسة عام 1994 بعد استقالة كولور على خلفية قضايا فساد، إلا أنه خسر من الجولة الأولى، كما رشح نفسه أيضًا في انتخابات عام 1998 وخسرها للمرة الثالثة، لكن تلك الخسارات جعلته يستمر في عمله ضمن حزب العمال الذي أخذ ينمو بوتيرة أسرع، هذا النمو دفع بلولا دا سيلفا أن يصبح رئيسًا للجمهورية في أكتوبر/تشرين الأول 2002، بعد حصوله على نسبة 62% من إجمالى أصوات الناخبين، ليصبح أول رئيس يساري منذ إنشاء جمهورية البرازيل عام 1889.
في 2006 فاز لولا دا سيلفا بولاية ثانية لكن بصعوبة ليظل في الحكم حتى عام 2011، ورفض إجراء تعديل دستوري من أجل السماح له بالترشح لمرة ثالثة حيث قال: “ناضلت قبل عشرين سنة، ودخلت السجن لمنع الرؤساء من أن يبقوا في الحكم أطول من المدة القانونية، كيف أسمح لنفسى أن أفعل ذلك الآن”.
في المجال الاقتصادي استطاع دا سيلفا خلال سنوات حكمه الأولى تقوية الاقتصاد، ما خفض نسبة الفقر كما أنه عمل على كبح التضخم مع زيادة النمو وتحقيق فائض قياسي، التطور الاقتصادي الاستثنائي جعل الحكومة البرازيلية تسدد ديونًا أجنبية قبل موعد استحقاقها وتصفي قروض صندوق النقد بالكامل عام 2005، ثم استطاعت أن تقرضه 10 مليارات دولار في 2009.
وفي عهده أصبحت البرازيل أكبر دولة اقتصادية في أمريكا الجنوبية والعاشرة عالميًا، واستطاع دا سيلفا من خلال اهتمامه بالرعاية الاجتماعية أن ينتشل 30 مليون برازيلي من براثن الفقر.
على صعيد السياسة الخارجية، فقد برزت البرازيل في عهد الرئيس اليساري بشكل غير مسبوق حتى أصبحت قوة عالمية لا يستهان بها، حيث قدمت حكومة دا سيلفا سيناريو يسترشد بالدبلوماسية المرتبطة باحترام القانون الدولي وتتخللها البراغماتية والتعددية.
وبرز دوره خلال قمة مجموعة العشرين عام 2009، حين أسفرت المفاوضات آنذاك عن إعلان طهران الذي وقعته بعد عام من البرازيل وتركيا وإيران ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ما أعاد تأكيد التزام إيران بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة وحق الجمهورية الإسلامية في البحث وإنتاج واستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية.
ترك لولا السلطة لكن حزبه لم يرحل، فقد خلفته زميلته ديلما روسيف، لكن مع استلام روسيف بدأت التقارير تصدر عن تورط حزب العمال في سلسلة من فضائح الفساد، وألقي باللوم على الحزب في إغراق البرازيل في ركود، إثر ذلك حصلت تحقيقات من الشرطة الفيدرالية، نتج عنها اتهامات لكبار مسؤولي البلاد من بينهم روسيف بالفساد، فيما اعتبرت أكبر عملية كشف للفساد في البلاد.
عزلت روسيف في عام 2016 فيما وصفه العديد من المؤيدين لها بـ”الانقلاب” السياسي، وفي 2018 ، سُجن لولا بعد إدانته بتهم فساد جرى إلغاؤها لاحقًا، ما مهد الطريق لمحاولته استعادة الرئاسة، وقد قضى لولا سنة ونصف خلف القضبان وخلال هذه الفترة جرى انتخاب اليميني المتطرف بولسونارو، ما أدى إلى عصر العزلة الدولية.
لولا والقضية الفلسطينية
خلال زيارة لولا دا سيلفا للضفة الغربية عام 2010، تحدث عن حلمه برؤية فلسطين مستقلة وحرة، وفي وقت لاحق من ذات العام اعترف بفلسطين كدولة مستقلة ضمن حدودها عام 1967 وقد حذت غالبية دول أمريكا الجنوبية حذوه في غضون الأشهر الثلاث الأولى من عام 2011، وهذا العام دعا لولا إلى دعم حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وكرر رأيه بضرورة إعادة هيكلة الأمم المتحدة بحيث يمكن إحراز تقدم فيما يتعلق بالقضايا الرئيسية مثل “إقامة دولة فلسطينية”.
قبل شهور استضاف لولا الجالية الفلسطينية وشدد على أهمية العلاقات بين البرازيل وفلسطين والعلاقات التي أقامتها البرازيل مع العالم العربي وحكوماته، وقال لولا وهو يرتدي الكوفية الفلسطينية “الفلسطينيون يستحقون كامل اهتمامنا وتضامننا”، وشدد على أن للشعب الفلسطيني الحق في العيش في “دولة حرة وذات سيادة”، مضيفًا أنه سيعمل على إعادة ترسيخ الدور القيادي للسياسة الخارجية البرازيلية في التوسط في النزاعات وحق الشعوب في الدفاع عن نفسها.
من الخاسر بفوز سيلفا؟
صحيح أن اليمين المتطرف بقيادة الرئيس المنتهية ولايته جايير بولسونارو أكبر الخاسرين، إلا أن هذه الخسارة ستصيب اليمين المتطرف في عدّة دول بالإحباط، خاصة في دولة مثل البرازيل، وعلى سبيل المثال سيكون الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حزينًا، فلطالما أشاد ببولسونارو، ووصفه بأنه زعيم “عظيم”، داعيًا البرازيليين إلى التصويت له للفوز بولاية ثانية.
وقال ترامب “صوتوا للرئيس جايير بولسونارو، لن يخذلكم أبداً!!”، وهاجم ترامب المرشح اليساري دا سيلفا، واصفًا إياه بأنه “مجنون يساري راديكالي سيدمّر بلدكم بسرعة”.
أما “إسرائيل” فإنها ستفقد صديقًا مميزًا لها برحيل بولسونارو، حيث عمل طوال سنوات حكمه على دعم تل أبيب على عكس سياسة دا سيلفا الذي يدعم القضية الفلسطينية، وأظهرت الصور التي تم تداولها لميشيل بولسونارو، زوجة جايير بولسونارو، ارتداءها لـ”تي شيرت” مطبوع عليه علم “إسرائيل” ومكتوب تحته كلمة “إسرائيل” باللغة الإنجليزية.
أيضًا خسر بنيامين نتنياهو رئيس حزب الليكود اليميني الذي يكافح للفوز بالانتخابات الإسرائيلية حليفًا مهمًا في البرازيل، ففي بداية عهد بولسونارو قال نتنياهو خلال زيارته للبرازيل إن بلاده تفتح عهدًا جديدًا من العلاقات مع البرازيل، حينها أشار نتنياهو إلى أن العلاقات لم تكن على ما يرام قبل حليفه بولسونارو بقوله: “البرازيل دولة عملاقة ولديها إمكانيات كبيرة بالنسبة لدولة “إسرائيل”، اقتصاديًا وأمنيًا ودبلوماسيًا، هذا تغيير هائل أعلن عنه بولسونارو، ويسرني أننا نستطيع أن نفتح عهدًا جديدًا في العلاقات بين “إسرائيل” وهذه الدولة العظمى التي تسمى البرازيل”.
إذًا، بعد عقد من الزمن يعود لولا دا سيلفا إلى الحكم في البرازيل وسط أزمات اقتصادية عاصفة في بلده ودول العالم، لكن تحوم التساؤلات الآن عما إذا كان الرئيس اليساري سيستطيع إعادة قطار البلاد إلى السكة مثلما فعل في فترة حكمه الأولى حيث كانت البرازيل ضمن الدول المؤثرة والكبرى سياسيًا واقتصاديًا.