رغم المؤشرات الإيجابية التي يحققها الاقتصاد الجزائري هذا العام جرّاء ارتفاع أسعار النفط والغاز، والتي جعلت مؤسسات دولية عالمية تتوقع ارتفاعًا في معدلات نموه، إلا أنها لا تلبّي تطلُّعات الحكومة الباحثة عن اقتصاد متنوّع يتحقق برفع حجم الصادرات خارج المحروقات، بهدف التقليل من عجز الميزانية ورفع قيمة الدينار الجزائري مقابل العملات الأجنبية، وفي مقدمتها الدولار واليورو.
فقد وضع الرئيس تبون منذ وصوله إلى مقاليد السلطة في ديسمبر/ كانون الأول 2019 تنويع اقتصاد البلاد ضمن أولوياته، وهو هدف لا يمكن تحقيقه دون التمكُّن من رفع قيمة الصادرات خارج المحروقات إلى أرقام تجعل الاقتصاد الجزائري غير مرهون بتقلبات سعر برميل النفط.
انتعاش تدريجي
رغم الإمكانات الكبيرة التي تتوفر في الجزائر لتطوير صادراتها خارج قطاع المحروقات، إلا أن الحكومة لا تريد أن تضع حاليًّا أحلامًا خيالية لا تستطيع تحقيقها في اقتصاد بُني لعشرات السنين على الريع البترولي، لذلك تضع سنويًّا أهداف ارتفاع محدود.
وفي هذا الشأن، قال الوزير الأول، أيمن بن عبد الرحمان، قبل أيام إن “بتضافر كل الجهود، سنعمل على الرفع من قيمة صادراتنا خارج المحروقات إلى 10 مليارات دولار مع نهاية سنة 2023″، معرّبًا عن ثقته في قدرة المتعاملين الجزائريين على تجسيد هذا الهدف.
كما لفت الوزير الأول إلى أن قيمة الصادرات خارج المحروقات بلغت إلى غاية نهاية سبتمبر/ أيلول 5 مليارات دولار، وهي القيمة نفسها المسجّلة خلال عام 2021 بأكمله، وشكّل تحقيق 5 مليارات دولار صادرات خارج المحروقات إنجازًا كبيرًا العام الماضي للحكومة الجزائرية، بالنظر إلى أن هذه القيمة لم تكن تتجاوز في سنوات ماضية مليارًا أو مليارَي دولار.
وتهدف الحكومة إلى تحقيق مبلغ 7 مليارات دولار من الصادرات خارج المحروقات نهاية العام الجاري، أي بزيادة مليارَي دولار عن العام الماضي، وهو أمر ممكن بالنظر إلى المعطيات الاقتصادية الحالية.
وحسب إحصاءات الجمارك الجزائرية، بلغت الصادرات خارج المحروقات 3 مليارات و507 آلاف دولار خلال النصف الأول من عام 2022، مقابل 2 مليار و47 ألف دولار خلال الفترة نفسها من السنة الماضية، أي نصف الهدف المسطر لسنة 2022 وهو 7 مليارات دولار، وهي القيمة التي ارتفعت إلى 5 مليارات في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري.
لكن هذه الأرقام تظل ضئيلة مقارنة بمساهمة الصادرات النفطية في الاقتصاد الجزائري، وبالخصوص هذا العام الذي يشهد زيادة كبيرة في أسعار النفط والغاز جرّاء الحرب المندلعة في أوكرانيا، فقد بلغت الصادرات الجزائرية الكلية خلال النصف الأول من عام 2022 مبلغ 25 مليار و922 ألف دولار، أي أن أكثر من 22 مليار دولار ناتجة عن عائدات النفط.
إجراءات حكومية
بهدف الرفع من الصادرات الجزائرية خارج المحروقات، اتخذت السلطات عدة إجراءات كانت تهدف بالأساس إلى التقليل من الاستيراد المفتوح الذي عرفته البلاد في العقدَين الماضيَين، والذي جعلها مستهلكًا لكل أنواع السلع الأجنبية، ما جعل الإنتاج المحلي لا يستطيع الصمود أمام المنتَج القادم من الخارج، وبالتالي عدم التفكير على الإطلاق في إنتاج وطني ينافس أولًا محليًّا ثم البحث عن أسواق خارجية.
وفي هذا الإطار، قلّلت الحكومة من عدد المستوردين الذي تراجع من 43 ألف مستورد سابقًا إلى 13 ألف حاليًّا، مقابل رفع عدد المصدّرين من 200 مصدّر سابقًا، أغلبهم غير منتظمين، إلى أكثر من 3 آلاف مصدّر مسجّل، من بينهم 1500 مصدّر يجري عمليات تصدير فعلية، وفق تصريحات صادرة عن الوزير الأول أيمن بن عبد الرحمان.
وأضاف الوزير الأول أن “الدولة لا تعترض على الاستيراد المكمّل للإنتاج الوطني، والذي يسمح للاقتصاد الوطني بالولوج في سلاسل القِيَم وبالتحكم في تقنيات الإنتاج، بل تحارب الاستيراد الذي يستنزف العملة الصعبة والذي كاد أن يدفع بالبلاد إلى سوق الاستدانة الدولية”.
وترفض الجزائر بشكل كلّي حلّ اللجوء إلى الاستدانة الخارجية، بهدف عدم تكرار ما عاشته في التسعينيات حين التجأت إلى الاقتراض من المؤسسات الدولية المالية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ما تسبّب في إصلاحات خرّبت الصناعة المحلية وتسبّبت في تسريح كبير للعمّال.
لا يعدّ تحقيق الأهداف التي تضعها الحكومة لترقية الصادرات الجزائرية خارج المحروقات أمرًا سهلًا، بالنظر إلى كثرة المشاكل التي يعيشها الاقتصاد الجزائري الذي بُني لعشرات السنين على الريع البترولي.
وضمن سياسة تقليص الاستيراد، خفضت الحكومة على سبيل المثال وارداتها من الأدوية والصناعات الصيدلانية، وشجّعت الإنتاج المحلي ما جعلها اليوم تنتج 30% من احتياجاتها الدوائية محليًّا، وهو ما خفض فاتورة استيراد الأدوية من مليارَي دولار سابقًا إلى 1.2 مليار دولار عام 2021، أي توفير 800 مليون دولار من العملة الصعبة رغم الظروف الصحية التي فرضتها جائحة كورونا، والتي استغلّتها مؤسسات محلية لتشجيع الإنتاج الجزائري في عدة مجالات طبية.
ورغم أن الصادرات الجزائرية الغذائية تظل محدودة، إلا أن تقليص الاستيراد ساهم هو الآخر في تأمين الاحتياجات الغذائية محليًّا بأكثر من 70%، وتطمح الحكومة لرفعه إلى 80% عام 2023، ما جعل عدة خضروات وفواكه جزائرية تصدَّر اليوم إلى دول الخليج وفرنسا وكندا، لكن إسهامها في الصادرات خارج المحروقات يبقى طفيفًا مقارنة بمنتجات أخرى.
وفي الحقيقة، برزت الصادرات الجزائرية خارج المحروقات في مجالات معيّنة، منها الإسمنت الذي تحوّلت فيه الجزائر من مستورد إلى مصدّر، بالخصوص نحو الدول الإفريقية كموريتانيا وساحل العاج، إضافة إلى الحديد والصلب حيث حققت الجزائر العام الماضي عائدات بلغت 900 مليون دولار من صادرات مصنع توسيالي بوهران غربي البلاد، وهو مشروع استثماري تركي، وذلك دون نسيان المصنع القطري بولاية جيجل شرقي الجزائر، ومركب الحجار الحكومي بعنابة شرقي الجزائر الذي تعمل الحكومة على عودته للإنتاج والتصدير بالطاقة الكاملة.
ورغم أن هذه الشركات الأجنبية أُنشئت ضمن قاعدة الاستثمار الأجنبي المبنيّ على قاعدة 51/49، إلا أن إلغاء هذه القاعدة وتطبيقها في المجالات الاستراتيجية فقط ساعدا بحسب المتابعين بإعطاء أمل لعودة الاستثمار الأجنبي، وبالخصوص مع صدور قانون جديد للاستثمار هذا العام مبنيّ على محاربة البيروقراطية التي كانت السبب الرئيسي في هروب الاستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية من السوق الجزائرية.
عوائق
لا يعدّ تحقيق الأهداف التي تضعها الحكومة لترقية الصادرات الجزائرية خارج المحروقات أمرًا سهلًا، بالنظر إلى كثرة المشاكل التي يعيشها الاقتصاد الجزائري الذي بُني لعشرات السنين على الريع البترولي.
ومن أبرز المشاكل التي تواجه تطوير الصادرات الجزائرية هي العقلية المتخلفة التي تعيشها الإدارة الجزائرية، وعدم انخراطها في الاقتصاد الرقمي، فالمعاملات الإدارية والتجارية لا تزال إلى اليوم تتمّ بطريقة بدائية ساعدت في انتشار الرشوة والمحسوبية، رغم سنّ الحكومة قوانين واتخاذها إجراءات لانخراط المؤسسات الاقتصادية في التعاملات الرقمية، وكان هذا الوضع سببًا في ملاحقة العديد من المسؤولين، سواء كانوا رؤساء حكومة أو وزراء بتهم فساد أدخلتهم السجن بإدانات تتعدّى الـ 10 سنوات.
لكن هذا الانخراط لا تتحمّل مسؤوليته فقط الإدارة الجزائرية، بل إن للحكومة جانبًا كبيرًا من المسؤولية، بسبب تخلُّف القطاع البنكي الجزائري، وذلك بإقرار المسؤولين أنفسهم، خاصة ما تعلق منه بالعملة الصعبة، إذ تظل السوق الموازية هي المتحكّم في أسعار صرف العملات في ظل غياب كلّي لمراكز الصرف الموجودة في كل دول العالم، وصعوبة الإجراءات الموجودة في البنوك الجزائرية.
وإضافة إلى ضعف الجهاز المصرفي الجزائري، فإن غياب فروع لبنوك جزائرية في الخارج عرقل الحركة المالية للمصدّرين الجزائريين، خاصة في الأسواق التي يستهدفونها كفرنسا والقارة الأفريقية، وهو المطلب الذي يلحّ عليه رجال الأعمال لتسهيل عملية دخول رؤوس الأموال إلى البلاد، ولذلك أقرَّ مجلس الوزراء منذ أشهر اتخاذ إجراء لفتح وكالات بنكية في الخارج، لكن العملية لم تتمّ حتى الآن.
وما يوجَّه أيضًا من انتقادات للصادرات خارج المحروقات في الجزائر أن نصفها من مواد بترولية، بقيمة تقارب مليارَي دولار، ما يعني أن نشاط الشركات الجزائرية في القطاعات الأخرى يبقى ضئيلًا ويظل غير قادر على المنافسة حتى في مجالات لا تتطلب تكنولوجيا كبيرة، مثل النسيج أو قطاع المناولة والغيار على سبيل المثال، إذ تظل المنتجات الأجنبية المسيطرة في هذا المجال.
لا أحد يمكنه إنكار أن الإنتاج الوطني الجزائري تطور ولو قليلًا مقارنة بالسنوات الماضية، مستفيدًا في ذلك من إجراءات تقييد الاستيراد والوضع الذي فرضته جائحة كورونا.
ومن بين العوائق التي تحول دون تطوير الإنتاج الجزائري خارج المحروقات هو ضعف التسويق للإنتاج المحلي سواء داخليًّا أو خارجيًّا، في ظل عدم وجود قانون للإشهار والإعلان في الجزائر، وكذا عدم وجود نيّة حقيقية من الحكومة لمعالجة هذا الإشكال العويص، إذ إن غيابه يتسبّب في عدم التعريف بالمنتَج الجزائري وفي ضياع مردود مالي للخزينة العمومية، وبالخصوص لما يتعلق بالإشهار الإلكتروني على المنصات العالمية التي تظل غائبة عبر مكاتب لها في الجزائر.
وإضافة إلى هذا، فإن ضعف قطاع النقل الجزائري يبقى هو الآخر من الأسباب التي لا تجعل المنتَج الجزائري يصل إلى أسواق جديدة، فقطاع الشحن التجاري الجزائري الخارجي ما زال ضعيفًا، ما يتسبّب في اللجوء على الدوام إلى شركات أجنبية تقوم بفرض أسعارها ومنطقها.
وتطوير قطاع الشحن الدولي يتطلب تطوير البنية التحتية للنقل الدولي في البلاد، والمتمثلة في توسيع المطارات والموانئ، خاصة أن هذه المهمة ليست بالصعبة بالنظر إلى توفُّر البلاد على عدد كبير من المطارات التي تحتاج فقط إلى قليل من التوسيع والتطوير، إضافة إلى الجدّية في إنجاز بعض المشاريع كميناء الحمدانية بولاية تيبازة وسط البلاد، الذي تأخّر إنجازه رغم أهميته الاقتصادية في أن يكون همزة ربط اقتصادية بين أوروبا وأفريقيا.
من المؤكد أن لا أحد يمكنه إنكار أن الإنتاج الوطني الجزائري تطور ولو قليلًا مقارنة بالسنوات الماضية، مستفيدًا في ذلك من إجراءات تقييد الاستيراد والوضع الذي فرضته جائحة كورونا، إلا أن هذا التطور يبقى بعيدًا كل البُعد عن الإمكانات المتوفرة في البلد، والتي تسمح بأن يتخلّص اقتصاد الجزائر من تبعيته لقطاع النفط، لذلك يتطلب تحقيق هذا الهدف جدّية وصدقًا في العمل من الحكومة وكل الناشطين الاقتصاديين مهما كانت درجاتهم ومستوياتهم.