ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد مرور حوالي سنة على انتشار الوباء، كانت كيانا، وهي طالبة في مدرسة ثانوية في بالتيمور، تشعر بعزلة متزايدة. وأثناء مكوثها بمفردها في غرفة نومها كان هناك الكثير من الوقت للتفكير – على حد تعبيرها – لذلك كانت تركز أحيانًا على عزلتها أو تبدأ في انتقاد مظهرها.
ذكرت كيانا (17 سنة) التي طلبت أن يُشار إليها باسمها الأول فقط خلال التحدث عن صحتها النفسية: “أتذكر أنني كنت أقضي ساعات طويلة يوميًا على منصة تيك توك، وحينها بدأ تقديري لذاتي في الانخفاض”.
في ذلك الوقت وتحديدًا في أوائل سنة 2021، كان نظام الدراسة في الصف العاشر افتراضيًا وبدأت في تبادل الرسائل النصية مع أصدقائها بدلاً من التحدث إليهم. أصابها القلق بصداع وقلة النوم وشعور غريب بالعيش خارج جسدها. بعد ذلك، بدأت في مشاهدة مقاطع فيديو على تيك توك حول اضطراب تبدد الشخصية، وهو من حالات الانفصام التي يمكن أن تجعل الناس يشعرون كما لو أن الجسد منفصل عن أفكارهم – كما لو كانوا في حلم.
وتتذكر أنها قالت في نفسها إنها: تعاني من تلك العلة النفسية، لكن الأمراض النفسية لم تكن من المواضيع التي تناقشها عادة مع أصدقائها أو عائلتها لذلك لم تخبر أحدًا عن أفكارها: “كنت منغلقة على نفسي لدرجة الاعتقاد أن هناك خطبًا في”.
في السنوات الأخيرة، انتشرت المناقشات حول الصحة النفسية على منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما على تيك توك، حيث تسمح الخوارزميات بعرض مقاطع فيديو حميمة ومستساغة تستمر في التدفق إلى ما لا نهاية. بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن مختلف الاضطرابات النفسية، أصبح من السهل بشكل متزايد العثور على تعريفات مختصرة واختبارات التقييم الذاتي عبر الإنترنت. ومع أن هذه المكافأة من الموارد غير المفلترة يمكن أن تساهم في تقليل وصمة العار المرتبطة بالمرض العقلي، إلا أنها لا تخلو من جوانب سلبية.
بعض المراهقين سيختارون تصديق تيك توك بدلاً من المعالج
يقول عدد من مقدمي خدمات الصحة العقلية إنهم يشهدون زيادة طفيفة في عدد المراهقين والشباب الذين يشخّصون أنفسهم بأمراض عقلية – بما في ذلك الاضطرابات النادرة – بعد معرفة المزيد عن هذه الحالات عبر الإنترنت. يمكن أن تقودهم هذه المعلومات أحيانا إلى الحصول على المساعدة التي يحتاجون إليها، ولكنها قد تؤدي أيضًا إلى تصنيف الأشخاص حالاتهم بشكل غير صحيح وتجنب التشخيص المختص وتبني علاجات غير فعالة أو غير مناسبة.
تلقت آني بارش، وهي معالجة مرخص لها للأزواج والأسرة في إلبورن إلينوي، في إحدى ضواحي شيكاغو استفسارات متعددة من المراهقين أو أولئك الذين وصلوا إلى مكتبها مع وضع تشخيص محدد بعين الاعتبار. وحيال ذلك قالت: “يفكر الناس بالشكل التالي، إذا كانت لدي الأعراض، فمن المؤكد أنني أعاني من اضطراب”- لكن التشخيص لا يكون على هذا النحو”. وأضافت أن البعض يقول: “أنا أعاني من اضطراب الوسواس القهري”. وأضافت: “إذا كنت منظمًا وتحب الأشياء بطريقة معينة وتقوم بأنشطتك الطبيعية، فأنت لا تعاني من اضطراب الوسواس القهري – أنت فقط شخص منظم، ذلك أن الأشخاص الذين لديهم اضطراب الوسواس القهري لا يستطيعون ممارسة حياتهم بشكل طبيعي بسبب هذا السلوك القهري”.
وأضافت أن بعض المراهقين سيختارون تصديق تيك توك بدلاً من المعالج، وعلى مدار عدة جلسات “سيستمرون في تبني نفس الفكرة”. وعندما يصبح المرضى مهووسين بتشخيص معين، يقول مقدمو الخدمة إنهم يجب أن يميزوا بين تقديم فحص واقعي وإيجاد طريقة لدعم عملائهم، الذين غالبًا ما يكونون قلقين للغاية. وأوضحت بارش أن الأمر “يبدو كما لو أنني، كمحترف – حاصل على درجة الماجستير، ورخصة إكلينيكية وسنوات من الخبرة – أتنافس مع صانعي محتوى تيك توك هؤلاء”.
من السهل جدًا أن تخطئ في التشخيص
يعد تيك توك من المنصات الأكثر شيوعًا في العالم، لا سيما بين المراهقين والشباب، وخوارزمياته بارعة في عرض محتوى مشابه لما شاهدوه في أوقات سابقة. (يشاهد مستخدمو إنستغرام وفيسبوك أيضًا هذا النوع من المحتوى عبر ميزة الريلز) ولا يترك التنسيق – تكرار مقاطع الفيديو التي غالبًا ما تكون مدتها أقل من دقيقة واحدة – مجالًا كبيرًا للفوارق الدقيقة. فقد يجد المشاهدون الذين يبحثون عن معلومات عن الصحة العقلية أكثر من مجرد قائمة من الأعراض.
لكن ما يجعل التشخيص معقدًا للغاية هو أن نفس الاضطراب يمكن أن يظهر بشكل مختلف تمامًا عند الطفل والمراهق والبالغ – بعبارة أخرى، لا تنطبق نفس الأعراض على جميع الفئات العمرية.
قال ميتش برينشتاين، المدير العلمي لجمعية علم النفس الأمريكية: “من السهل للغاية أن نخطئ في التشخيص. قد تكون لديك أعراض تشبه الاكتئاب لدى شخص بالغ، ولكن كطفل أو مراهق قد يعني ذلك شيئًا مختلفًا تمامًا”. وأضاف أنه قد يكون من الصعب أيضًا أن تكون على دراية ببعض الأعراض التي تحتاج حقًا إلى مراقبتها من قبل جهة موضوعية.
يمكّن الشباب من معرفة أنهم ليسوا هم فقط من يختلقون شيئا ما، وأنه ليس في رأسهم فقط، فالآخرون يشعرون مثلهم أيضًا
يحتاج المعالجون إلى النظر في مجموعة الخبرات التي يمر بها المريض، ومتى تحدث، وإلى متى، وهل يمارسون حياتهم بشكل طبيعي؟ كيف ينامون ويأكلون ويتصلون بالآخرين؟ ما هو مزاجهم ودوافعهم؟
قالت متحدثة باسم تيك توك يوم الجمعة في بيان: “نشجع الأفراد بشدة على طلب المشورة الطبية المهنية إذا كانوا بحاجة إلى المساعدة”، مضيفة أن الشركة تواصل الاستثمار في تعليم محو الأمية الرقمية بهدف مساعدة الأشخاص على تقييم المحتوى عبر الإنترنت.
ذكرت سارة آن هوكينز، أخصائية علاج الأزواج والأسرة في مينيابوليس، إن ثلاثة من عملائها الشباب أخبروها مؤخرًا أنهم مصابون بالميسوفونيا، وهي حالة يمكن أن تجعل الناس يشعرون بالغضب عند سماع الأصوات الصادرة عن الآخرين مثل المضغ أو التنفس. وأضافت: “إنهم يتجاهلون حقيقة أنهم رأوا ذلك على تيك توك، بل ويسقطون ما رأوه على أنفسهم”.
وكما اتضح، انتهى الأمر بواحدة فقط من عملائها تعاني من هذا الاضطراب. وبغض النظر عن ذلك، فإن طرح هذا الموضوع يوفر فرصة لبقية مرضاها لمواصلة مناقشة أي مشاعر غضب وتهيج. وعن ذلك قالت: “أعتقد أنه يمكّن الشباب من معرفة أنهم ليسوا هم فقط من يختلقون شيئا ما، وأنه ليس في رأسهم فقط، فالآخرون يشعرون مثلهم أيضًا”. مع ذلك، حذّرت هوكينز من أن “المعلومات القليلة يمكن أن تكون خطيرة”.
من السهل جدا التورط فيها
قال نجل السيدة هوكينز رونان كوسغروف (16 عاما)، الذي يستخدم تيك توك منذ حوالي أربع سنوات، إنه أصبح من الدارج بين بعض أقرانه تشخيص أنفسهم باضطرابات نفسية واعتبارها سمة شخصية تميزهم وليس علة وجب معالجتها.
وأضاف رونان: “في تيك توك ينشرون أمورا من قبيل “أوه، أنا أعاني من هذا، وانظروا إلى مدى روعتي” وبذلك يجذبون الانتباه، لكن ما يعرضونه لا يعكس حقيقتهم”، مشيرا إلى أنه “من السهل جدا التورط في هذا الأمر”.
وحسب الدكتور برينشتاين فإن الأطفال يبحثون عن مجموعة انتماء، ويستخدمون صراعهم الحالي مع أعراض الصحة النفسية كوسيلة للعثور على أشخاص يشبهونهم في التفكير، وأحيانا يُظهرون أعراضهم كشارة فخر أو طريقة مختصرة للتعريف عن أنفسهم. كما أوضح أن بعض المراهقين قد يسعون للحصول على معلومات عن الصحة النفسية عبر الإنترنت، لأن البالغين في حياتهم ليسوا منفتحين على الحديث عنها، معتبرا ذلك “أمرًا محبطًا بشكل لا يصدق”.
حللت دراسة نُشرت في آذار/ مارس الماضي 100 مقطع فيديو على تيك توك مصحوبة بوسم #الصحة العقلية حصدت مجتمعةً أكثر من 1 مليار مشاهدة. وقد أظهرت الدراسة أن المراهقين يتحولون على ما يبدو إلى تيك توك كمصدر للدعم والمشورة المدفوعة إلى حد كبير بمحادثات المستخدمين.
إذا حاول مراهق أن يناقش مع والديه موضوعا رآه على تيك توك أو أي منصة أخرى من منصات التواصل الاجتماعي، فمن الأفضل أن يكون الحوار منفتحًا وفضوليًا
أشارت كوري إتش باش، أستاذة الصحة العامة في جامعة ويليام باترسون في نيوجيرسي والمؤلفة الرئيسية للدراسة: “هناك قلق كبير بشأن المراهقين الذين يعتمدون تشخيصًا ذاتيًا ويتبعون خططًا علاجية خاطئة في غياب البصيرة المهنية”، مضيفةً أن المراهقين قد يصادفون أيضا معلومات أو حسابات غير دقيقة تشجع على السلوك الضار، أو مفاقمة معاناة من يكافحون فعلا.
على الجانب الآخر، ترى هذه الأخصائية أن “العثور على مجتمع إيجابي وداعم عبر الإنترنت قد يكون مفيدا، لا سيما بالنسبة لأولئك المهمشين أو الذين يفتقرون إلى الوصول إلى موارد الصحة العقلية”.
ينطبق الأمر نفسه على خورخي ألفاريز (23 عاما)، وهو مدافع عن الصحة العقلية للشباب وصانع محتوى في إلموود بارك نيوجيرسي، تلقى أول دليل له على أنه قد يكون مصابًا باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه على تيك توك عندما كان عمره 20 سنة. حيال هذا الشأن قال: “لقد أوصلني ذلك إلى عالم ما كنت لأراه”.
وذكر أنه أدرك عندما استمع إلى الأشخاص الذين يتشاركون نفس الأعراض، أن بعضها مألوف بشكل مخيف، لأنها حدثت له بالفعل، مضيفا “كان أحدهم ينهض باندفاع في اجتماع عمل أو في منتصف مهمة للذهاب للحصول على المثلجات. لم يكن مجرد اشتهاء للطعام، كان الأمر كما لو أن عقلي بحاجة إلى هذا الدوبامين”.
وأشار إلى أنه كان يكافح في دورته العلمية أثناء تلقيه دروس ما قبل كلية الطب، حيث عانى من القلق والاكتئاب، موضحًا أنه عندما بدأ يعتقد أنه قد يكون مصابا باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه تحدث مع ثلاثة أطباء نفسيين واثنين من المعالجين قبل أن يتم تقييمه في نهاية المطاف في مركز الصحة العقلية في مدرسته، وذلك بعد خضوعه لبضع جلسات اختبار هناك، ليتلقى أخيرًا تشخيصًا رسميًا.
قال ألفاريز: “لقد غيّر هذا التشخيص حيتي بالكامل”، حيث أصبح الاندفاع والصعوبات الأخرى التي واجهها الآن منطقية، ومع تناول الدواء وتلقي العلاج، أصبح يشعر أنه أقل إرهاقًا وبدأ في إكمال بعض المهام في نصف الوقت الذي يستغرقه عادةً.
التشخيص لا يحدد من أنت
يقول الخبراء إنه إذا حاول مراهق أن يناقش مع والديه موضوعا رآه على تيك توك أو أي منصة أخرى من منصات التواصل الاجتماعي، فمن الأفضل أن يكون الحوار منفتحًا وفضوليًا.
أوضح أنيش ديوب، رئيس مجلس الأطفال والمراهقين وعائلاتهم في الجمعية الأمريكية للطب النفسي: “اغتنم هذه الفرصة لإشراكهم ومعرفة المزيد عن ابنك المراهق وبعض التحديات والصراعات التي يمر بها. ما الذي يجذبهم إلى شخص أو صفحة يتابعونها؟ وما الذي يتعرّفون عليه؟ وما الذي يُقلقهم؟”.
التشخيص هو نقطة انطلاق للتفاهم وليس نقطة النهاية
غالبا ما تكون المعلومات المقدمة على منصات التواصل الاجتماعي غير دقيقة أو مفرطة التبسيط، لذلك أوصى الدكتور ديوب أيضا بتوجيه الأطفال نحو مصادر موثوقة مثل دليل “إيه بي إيه” لموضوعات الصحة العقلية، الذي يتوفر أيضا باللغة الإسبانية، وصفحة موارد الأكاديمية الأمريكية للطب النفسي للأطفال والمراهقين المتاحة للعائلات والشباب.
أوردت سيلي فاكورزي، مديرة عمليات الصحة العقلية في تيميليمد، وهو مزود صحي افتراضي يقدّم خدماته لأكثر من 1.5 مليون طالب في أكثر من 230 حرما جامعيا: “في بيئة الكلية، يسعى الطلاب أحيانا إلى التشخيص من أجل الحصول على خدمات أو سكن”. وأضافت أن الطلاب يريدون، في أوقات أخرى، اكتشاف فقط سبب شعورهم بالاختلاف، أو ما يجعلهم يشبهون أشخاصًا آخرين يعرفونهم يعانون من نفس المشكلة.
وأكدت هوكينز على أهمية مساعدة الأطفال على فهم أن “التشخيص لا يحدد من هم، بل هو جزء من شخصيتهم”، مشيرةً إلى أن “التشخيص هو نقطة انطلاق للتفاهم وليس نقطة النهاية”.
اكتشفت كيانا، المراهقة من بالتيمور التي كانت تعتقد أنها مصابة باضطراب تبدد الشخصية، مقاطع فيديو إضافية على تيك توك تدعي أنه يمكن علاج الحالة من خلال تغيير الروتين اليومي وبدء هوايات جديدة – وهو ما بدأت فعله بجدية – مثل الحياكة وكتابة مذكرات وتعلم التزلج، إلا أن هذه الأمور لم تساعدها. وفي وصف شعورها عندما عادت إلى المدرسة، في وقت لاحق من تلك السنة، وبدأت في قضاء الوقت مع صديقاتها قالت: “شعرت فجأة أنني سعيد مرة أخرى”.
وفي نهاية المطاف حين قابلت الطبيبة النفسية في مدرستها، طمأنتها بأنها لا تعاني من اضطراب تبدد الشخصية وأقرّت بالصعوبات التي واجهتها أثناء التعلّم عن بعد. وحيال ذلك قالت كيانا: “لا تحتاج فعاليًا إلى الإصابة باضطراب نفسي حتى تعاني، فكل شخص يحتاج إلى دعم عاطفي”.
المصدر: نيويورك تايمز