بعد نجاح المرشح المكلف من قوى الإطار التنسيقي الشيعي، محمد شياع السوداني، بنيل ثقة مجلس النواب العراقي على كابينته الحكومية الأسبوع الماضي، بدأ الحديث عن أبرز التحديات الداخلية والخارجية التي ستواجه حكومته بالمرحلة المقبلة.
ورغم إشارة البرنامج الوزاري لحكومة السوداني إلى معالجات آنية ومرحلية لأبرز المشاكل السياسية والاقتصادية والأمنية التي يواجهها العراق، فإنه أيضًا تضمّن إشارة واضحة إلى أن الإطار العام الذي سيحكم السياسة الخارجية العراقية في المرحلة المقبلة هو التوازن حيال البيئتَين الإقليمية والدولية.
وعند الحديث عن التحديات الخارجية التي ستواجهها حكومة السوداني، يبرز لنا الملف الأهم في السياسة الخارجية العراقية، وهو مدى نجاح حكومة السوداني في إنتاج نهج خارجي جديد، يعيد رسم مكانة العراق في إطار التفاعلات الأمريكية الإيرانية بشكل عام، والعراق على وجه الخصوص، وهي مهمة فشلت أغلب الحكومات العراقية السابقة في أدائها.
إذ عادةً ما وجد العراق نفسه ساحة للصراع بين الطرفَين، بلغ أوجَه خلال حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، عندما تصاعدت حدّة الهجمات على المواقع والمقرّات الأمريكية في بغداد، سواء عبر صواريخ الكاتيوشا أو الطائرات المسيّرة أو حتى الهجمات على قوافل الدعم اللوجستي لقوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق.
حكومة هدنة مؤقتة
يمكن القول إن وقوع العراق في قلب المنطقة الرمادية من خارطة الصراع الأمريكي الإيراني في الشرق الأوسط، حتّم على طهران وواشنطن تقديم الدعم لحكومة السوداني الحالية، ولعلّ هذا ما برز واضحًا في زيارات الدعم التي قام بها السفيران الأمريكي والإيراني في بغداد مؤخرًا.
فالولايات المتحدة بحاجة لحكومة عراقية تضمن استمرار إمدادات الطاقة، بعد قرار منظمة أوبك بلس الشهر الماضي بتخفيض نسبة تصدير النفط، وكذلك إيران بحاجة لحالة الاستقرار السياسي على حدودها، بالنظر إلى تصاعد حجم التحديات الداخلية التي تواجهها على خلفية استمرار الاحتجاجات المناهضة للحكومة على خلفية مقتل مهسا أميني.
المعضلة الأبرز التي سيواجهها السوداني، تتمثل في كيفية التعامل مع المواقف السياسية التي تحملها بعض قوى الإطار التنسيقي، وخصوصًا الفصائل المسلحة المقرّبة من طهران.
إلا أن المشكلة الأكبر تكمن في أن التوافقات الأمريكية الإيرانية في العراق عادةً ما تكون مؤقتة، فمتى ما تعافى الطرف الأول سعى جاهدًا لتصفير نفوذ الآخر في العراق، ففي مرحلة ما قبل الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 حصلت توافقات أمريكية إيرانية للإطاحة بنظام صدام حسين، إلا أنه في مرحلة ما بعد الاحتلال قادت إيران عبر قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، مهمة إنهاء التواجد الأمريكي في العراق، وهو ما تحقق في عام 2011.
والحالة ذاتها تكررت في مرحلة ما بعد الحرب على تنظيم “داعش”، ففي الوقت الذي تلاقت فيه المصالح الأمريكية الإيرانية لمواجهة التنظيم، عادت إيران إلى السياسة ذاتها في استثمار مرحلة ما بعد الحرب، عندما بدأت بالمطالبة بإنهاء مهمة القوات القتالية الأمريكية ضد “داعش”، وهو ما تحقق أيضًا عام 2021 عندما تمّ إنهاء مهمة هذه القوات.
تتمثل المعضلة الأبرز التي سيواجهها السوداني في كيفية التعامل مع المواقف السياسية التي تحملها بعض قوى الإطار التنسيقي، وخصوصًا الفصائل المسلحة الموالية لإيران من الولايات المتحدة، فعملية نجاح قوى الإطار بتشكيل حكومة عراقية قد لا تساهم في إحداث تغيير كبير في مواقفها من واشنطن، لأسباب كثيرة أبرزها تلك التي تتعلق بإيران، أو حتى تلك التي تتعلق بثبات مواقفها السياسية.
حيث إن إمكانية تعاطي الفصائل المسلحة المنضوية ضمن الإطار التنسيقي بإيجابية مع الولايات المتحدة، سيضعها أمام حرج كبير في الداخل العراقي، خصوصًا أنها رفعت شعار المواجهة معها بعد اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في يناير/ كانون الثاني 2020.
وفي هذا السياق يمكن القول إن التزامات حكومة السوداني قد تختلف عن التزامات الأحزاب المشكّلة للإطار التنسيقي، إذ إنه من المتوقع ألا يكون هناك فصل استثنائي من التعاون أو تعزيز كبير للعلاقات، لكن على الأرجح لن تتدهور العلاقات مع واشنطن أكثر من المرحلة الماضية، حيث إن بغداد تحتاج لواشنطن عسكريًّا وأمنيًّا، وواشنطن لا تريد لبغداد أن تبتعد كثيرًا.
لهذا، سيمضي الطرفان بعلاقة مستقرة على الأغلب، إذ إن تشكيل الحكومة بشكلها الحالي قد لا يعجب واشنطن أو ليس في مصلحتها، لكنها تحمّلت أن يكون تشكيل الحكومة بهذا الشكل من أجل الاستقرار، حيث إن ما حدث في العراق خلال الأشهر الماضية من انعدام للاستقرار وتأخُّر في تشكيل الحكومة، أخّر قدرة بغداد على اتخاذ قرارات استراتيجية، منها زيادة إنتاج النفط.
تحديات ستواجهها الولايات المتحدة
ممّا لا شكّ فيه أن تشكيل الحكومة بالشكل الحالي سيمنح إيران مزيدًا من النفوذ في العراق، ليس بسبب طريقة تشكيل الحكومة وإنما لطبيعة الأطراف المشكّلة لها، فإيران كانت حريصة منذ صدور نتائج الانتخابات المبكّرة على أن تكون الخاتمة بهذه الطريقة، أن يتمكن حلفاؤها من الاستحواذ على المناصب المهمة في الحكومة الجديدة، ومن ثم الحفاظ على النفوذ الإيراني في العراق بعيدًا عن أية حسابات داخلية وخارجية معقدة.
حالة الضبابية السياسية التي يمرّ بها العراق بالوقت الحالي، قد تدفع الإدارة الأمريكية إلى تقنين الوجود الأمريكي في العراق، وتعزيز الجهود الاستخباراتية والأمنية.
إن أبرز تحدٍّ ستواجهه الولايات المتحدة في العراق، سيتمثّل في مدى نجاح الفصائل المسلحة الموالية لإيران في الاستحواذ على المناصب الأمنية والاستخباراتية في العراق، وأهمها جهاز المخابرات وجهاز الأمن الوطني، ورغم جهود السوداني في إبعاد هذه الأجهزة الحساسة عن المحاصصة السياسية، إلا أن جهوده على الأغلب لن تكلَّل بالنجاح.
إذ شهد يوم السبت الماضي قيام ما يقارب 300 عنصر في جهاز المخابرات، من الذين ينتمون إلى فصيل عصائب أهل الحق، بتقديم التماس للسوداني لإعادتهم للعمل ضمن الجهاز، بعد أن قامت حكومة الكاظمي في وقت سابق بنقلهم للعمل في المنافذ الحدودية، هذا فضلًا عن محاولة هذه الفصائل إعادة بعض الأسماء العسكرية التي أبعدها الكاظمي إلى بعض المناصب الحساسة، وأبرزها سكرتير القائد العام للقوات المسلحة ومنصب مدير الاستخبارات العسكرية.
وفي هذا الإطار أيضًا، يحاول رئيس ائتلاف دولة القانون المنضوي ضمن الإطار التنسيقي، نوري المالكي، إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية العراقية بالشكل الذي يجعلها أكثر ولاءً للحكومة الجديدة، إذ تدرك الولايات المتحدة أهمية ألّا تؤدي عملية الاستئثار بالدولة من قبل قوى الإطار التنسيقي إلى نتائج كارثية، كما حصل خلال حكومتَي المالكي فترة 2006-2014، عندما أدّت الإجراءات السياسية والعسكرية التي اعتمدها المالكي إلى زيادة حالة الاستقطاب السياسي في البلاد، وبالشكل الذي هيَّأ الظروف لبروز تنظيم “داعش”.
فقد أدّت جهود المالكي خلال تلك الفترة إلى تقلُّد المسؤولين المقرّبين من الفصائل المسلحة مناصب وكلاء وزارات أو مدراء عامّين في مؤسسات رئيسية، أهمها وزارات الداخلية والنقل والدفاع، فضلًا عن جهاز المخابرات ومستشارية الأمن الوطني، ما جعل هذه المؤسسات أداة للقمع السياسي، أكثر من كونها مؤسسات فاعلة ونشطة في جسد النظام السياسي.
إن حالة الضبابية السياسية التي يمرُّ بها العراق بالوقت الحالي، قد تدفع إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى تقنين الوجود الأمريكي في العراق، وتعزيز الجهود الاستخباراتية والأمنية، وأن تمنح القوات الأمنية العراقية دورًا أكبر في محاربة تنظيم “داعش”، وتفعيل جلسات الحوار الاستراتيجي مع العراق، للوصول إلى شراكات وعلاقات أمنية واضحة، إذ تنظر الولايات المتحدة إلى إيران وحلفائها على أنهما رقم صعب في المعادلة الأمنية في العراق، ولذلك فإنها لن تستثني هذين المتغيرَين من أي توجُّه مستقبلي حيال العراق.