عندما كنت أستعد للقدوم لإيطاليا، حاولت أن أطّلع ما أمكنني على المعلومات والتجارب المتاحة على الإنترنت، كي أكوّن فكرة حول ما ينتظرني، قرأت في أحد تدوينات السفر لشابّة من فرنسا تحكي عن تجربتها السيّئة مع الإدارة الإيطالية، وظننت حينها بسذاجة أنها كمواطنة فرنسية معتادة على مستوى من النجاعة في تقديم الخدمات العمومية، ومن العادي أن تستاء من أقل صعوبة تواجهها.
أما أنا، القادمة من إحدى دول شمال إفريقيا المتأزّمة: “إيش ياخد الريح من البلاط؟”، فأي بلد أحسن من موطني الذي لا يتوفر على نظام حقيقي ويعتمد العشوائية التامة في خدماته العمومية، هذا إن وُجدت بالأساس، إلى أن اكتشفت من خلال تجربتي وتجربة أصدقائي من حولي، أن إيطاليا تستحق عن جدارة لقب الجمهورية البيروقراطية.
إدارة الضرائب، مركز التشغيل، إدارة الضمان الاجتماعي، الجامعة، النظام الصحي… أينما ذهبت هناك متاهة يجب عليك الخروج منها بمطلبك سالمًا، ففي دراسة أشارت إليها جريدة “لا ريبوبليكا”، قد يتطلب الأمر لاستخراج التراخيص من أجل فتح مقهى مبالغ تصل إلى 20 ألف يورو وحتى 1200 ساعة من العمل لإتمام المسطرة.
كنا ننتظر يومها في طابور خارج إدارة الأحوال المدنية مدة ناهزت الـ 6 ساعات، مهاجرين وإيطاليين، فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث لقتل الملل، منحَ الإيطاليون أنفسهم حق التبرُّم من طول الانتظار، بينما نحن المهاجرون قمعنا أنفسنا واكتفينا بتنفيس غضبنا بيننا بلهجاتنا ولغاتنا التي لا تفهمها الأغلبية.
وخلال تبادلنا للقصص والتجارب، حكى لنا شابّ تركي أن بعضًا من عائلته وأصدقائه في ألمانيا حصلوا على بطاقة الإقامة في اللحظة نفسها التي قدّموا فيها الطلب، بينما هنا في إيطاليا يرهنون حياتنا لأشهر قد تفوق السنة، فيصير المرء سجينًا لا يستطيع أن يغادر البلد ولا حتى أن يبقى في بلده الأصلي مدة تفوق الشهرَين، خوفًا من المضايقات على الحدود.
تحتلّ الإدارة العمومية الإيطالية أواخر المراتب من ناحية الجودة في تصنيف قامت به منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
جاء دوري أخيرًا، بعد أن استنفدت كل الأدعية التي أعرفها لاستلهام الصبر، أخبرتني الموظفة أنه كان ينبغي عليّ الذهاب إلى مكتب يقع في الطرف الآخر من المدينة، وعندما استنكرت الأمر وأخبرتها أن زميلتها في تلك الإدارة هي التي أرسلتني لإدارتها، لم تزد عن العبارة الكلاسيكية التي يردّدها الموظفون الايطاليون: “يؤسفني الأمر ولكنهم أعطوك معلومة خاطئة”، وكأن مسؤوليتها تنتهي باستعمالها لهذه العبارة، وهكذا يتقاذفني الموظفون ككُرة من واحد إلى الآخر.
دور البيروقراطية في تحريك عجلة الإدارة
رغم أن نجاعة الإدارة العمومية، في أي بلد، تعتمد على النظام البيروقراطي، الذي يوحّد المساطر بالنسبة إلى الجميع وينظّمها ويجعلها أكثر عقلانية، إلا أن البيروقراطية في إيطاليا تعرف أمراضًا كتطبيق القوانين بطريقة عمياء دون النظر إلى روحها، التعقيد الشديد، والهوس بتنفيذ التعليمات حرفيًّا، حيث تصبح التعليمات هي الهدف عوض تسهيل حياة الناس.
وتعاني إيطاليا، كما نعاني معها نحن كذلك، من تجمُّد العملية الإدارية وبقاء العقلية البيروقراطية القديمة، رغم عملية الإصلاح التي قامت بها الحكومة. ويعرّف “معجم العلوم الاجتماعية” لأحمد بدوي البيروقراطية بأنها “عبارة عن تنظيم يقوم على السلطة الرسمية وعلى تقسيم العمل الإداري وظيفيًّا بين مستويات مختلفة، وعلى الأوامر الرسمية التي تصدر من رئاسات إلى مرؤوسين، ويعتبر التنظيم البيروقراطي ترشيدًا للعمل الإداري”.
وتحتل الإدارة العمومية الإيطالية أواخر المراتب من ناحية الجودة في تصنيف قامت به منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فتأتي الثالثة والثلاثين على 36 بلدًا، يليها فقط تركيا والمكسيك، ويعتمد التقييم على 3 معايير: مستوى الرشوة، طبيعة القانون ومدى احترامه، ثم جودة البيروقراطية بشكل خاص.
ويخيب أمل أغلب المغتربين حين يصطدمون بواقع بطء وعدم نجاعة المساطر الإدارية، حيث إننا عادةً ما نتخيل الغرب ككتلة واحدة مثالية، كل شيء فيها يسير بنظام خيالي.
معاناة المهاجرين الخاصة
يجد معظم المهاجرين صعوبات خاصة في تدبير أمورهم الإدارية، فيتعذّر عليهم الولوج إلى أبسط معلومة بسبب حاجز اللغة والجهل بالقوانين، ما يساهم في ازدهار عمليات الوساطة والنصب داخل الجاليات المهاجرة، خصوصًا تلك المكوّنة أغلبيتها من العمالة ذات التعليم الضعيف أو المحدود، حيث تصبح المعلومات المتوفرة مجانًا مقايضةً بثمن.
يقول برهان الذي ينتمي إلى إحدى جاليات الشرق الأوسط: “إن أغلب المواقع باللغة الايطالية ونادرًا ما تجد موظفًا يتحدث اللغة الإنجليزية، ينبغي استعمال جوجل للترجمة في معظم مواقع الإدارة لكي تحصل على المعلومة، وأغلب المهاجرين حين يصلون الى هنا لا يجيدون اللغة الإيطالية، إذًا ينبغي التحدث إليهم بلغة عالمية كالإنجليزية”.
وينتمي برهان إلى جالية أغلب أفرادها من الطلبة الذين يغلب عليهم التضامن، فقد استطاع القيام بالعديد من الإجراءات الإدارية بفضل الشروحات المبسّطة التي يوفرها أبناء جاليته مجانًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
هناك عدد كبير من القوانين والقواعد التي تخلق حالات من التداخل بين القوانين وحالات مبهمة، حيث يعجز حتى الموظفين عن إيجاد حل لها.
“أظن أن كل الإدارات في إيطاليا لديها الثقافة التنظيمية نفسها، ولكن تلك التي تُعنى بشؤون المهاجرين خاصة لا تأخذ مسؤوليتها بجدّية كبيرة، ويعطيك الموظفون الانطباع من خلال تصرفاتهم أنهم يمنّون عليك بإعطائك الإقامة، كما أن تعاملهم مع اللاجئين يختلف ما بين الأفارقة أو السوريين وما بين الأوكرانيين، فمثلًا لقد كان عليّ الانتظار لـ 4 أشهر حتى أقوم بوضع البصمات، بينما الأوكرانيون كانوا يذهبون من دون موعد مسبق، وهذا نوع من العنصرية”، يضيف برهان.
تصنِّف البيروقراطية الإيطالية المهاجرين إلى صنفَين: إما من الاتحاد الأوروبي وإما من خارج الاتحاد الأوروبي، و قد تعني في بُعد أعمق: من ينتمي إلى أمّتنا ومن هو خارج الأمة، كما أن مكتب الهجرة من أبطأ الإدارات، وقد زاد الأمر وضوحًا بعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث يتمّ إعطاء الأولوية للأوكرانيين بموجب الاتفاقيات التي أُبرمت بين البلدَين، بينما يتركون المهاجر القادم من خارج الاتحاد في انتظار وحيرة، لأن لا خيار له سوى الصبر أو الرحيل.
خلل الإدارة الرقمية
حتى المساطر التي يمكن إجراؤها أونلاين تمتاز بالتعقيد الشديد، والبرامج المطروحة للاستخدام قديمة ولا يمكن حدس كيفية استعمالها كما هو الحال بالنسبة إلى التطبيقات التي نستعملها يوميًّا في هواتفنا، فلكلّ ضغطة زر يجب عليك أن تقرأ فصلًا كاملًا من كتاب كيفية الاستعمال، لكي تعرف أي زر ينبغي اختياره.
وإذا طلبت المساعدة، يقولون لك اذهب عند المحاسب لكي يقوم بكافة الإجراءات الرقمية من أجلك، ولكن ماذا إن لم تتوفر الإمكانات المادية للدفع لخدمات المحاسب؟ ثم أليست فكرة الإدارة الرقمية هي في الأساس لمنح الاستقلالية في تدبير المساطر الشخصية؟
هناك عدد كبير من القوانين والقواعد التي تخلق حالات من التداخل بين القوانين وحالات مبهمة، حيث يعجز حتى الموظفين عن إيجاد حل لها، فقد دردشت خلال إعدادي للموضوع مع صاحب مقهى تاريخي في وسط المدينة، قال لي في حسرة أنه يفضّل الذهاب إلى بلد في طور النمو حيث يمكنه أن يجد التسهيلات لإنشاء مشروعه، “هنا في إيطاليا أي شيء تود أن تفعله يقولون لك: “لا يمكنك انتظر حتى نراجع القواعد الجديدة”، إنهم يغيرون المراسيم الوزارية كل سنة، فيستحيل أن تواكب كل التغييرات”.
بيروقراطيون سعداء
ضيّعت إيطاليا ما يقدَّر بـ 70 مليار يورو ما بين عامَي 2009 و2018، بسبب البطء الإداري الذي يسبّب عرقلة نمو المقاولات الذي بدوره يؤخر النمو الاقتصادي للبلد، وفي دراسة لعالم الاجتماع أندريا تومو، يشرح العوامل التي تساهم في المشاكل التي تعاني منها الإدارة الإيطالية.
فيفسّر تومو أن عادةً ما يشجّع موظفي الإدارة العمومية الإيطالية هي المهام الموحدة والحوافز المالية، وهم مقتنعون تمامًا بالحفاظ على الوضع الراهن، إذ يقاوم الموظفون أي تغيير في الروتين الذي تعوّدوا عليه، تحت شعار: “احصل على الكثير عبر القيام بالقليل”، كما أن الإدارة تعاني من غياب ثقافة موجّهة لتسيير الشأن بغية المصلحة العامة، وليس مصلحة الموظفين والمدراء الذين يحاولون الوصل إلى المكافآت المخصّصة لنجاعتهم.
وقد صرّح أغلب الموظفين المستجوَبين أن ما يميز نموذج مؤسّستهم هو الفوضى و ليس النظام، بحيث إنه ليس هناك توزيع واضح للأدوار والمسؤوليات، كما أنه لا يتم إشراكهم في إيجاد الحلول للمشاكل التي تواجهها مؤسساتهم.
الإصلاح الإداري
ومن أهم الملفات الإصلاحية التي تناولها الوزير الأول المنتهية ولايته، ماريو دراغي، إثر تعيينه هو إصلاح الإدارة العمومية، وتمَّ تخصيص 1.67 مليار يورو.
ومن البديهي أن الإصلاح الإداري إجراء ضروري، ليس فقط للمواطنين الإيطاليين ولكن أيضًا لتجنُّب رحيل المهاجرين الأكثر كفاءة الذين تركوا بلدانهم بسبب الفشل الإداري، خصوصًا أن إيطاليا لا تقدّم إغراءات مادية مهمة للأطر العليا، وحتى الحصول على الجنسية يتطلب تمضية على الأقل 10 سنوات، ما يعدّ وقتًا طويلًا بالمقارنة مع دول أوروبية أخرى، فمن المنطقي أن يتمّ تسهيل حياتهم بتبسيط المساطر الإدارية وجعلها أكثر نجاعة.
وختامًا، يمكن تلخيص حالة الإدارة الإيطالية بمقطع ساخر من الرسوم المتحركة الفرنسي “أستريكس وأوبليكس”، اللذين يسعيان للحصول على وثيقة من الإدارة الرومانية، التي يسمّيانها “دار المجانين” دون أن يفقدا عقلَيهما.