الجدل السياسي في العراق يعود من باب المنهاج الوزاري لحكومته الجديدة، وبالتحديد في البند المتعلق بإجراء انتخابات مبكرة، بعد أن طرحها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ضمن بنود عدة ووعود كثيرة تضمنها منهاجه الوزاري الذي جاء بالاتفاق مع القوى السياسية، ونص على “تعديل قانون الانتخابات النيابية خلال ثلاثة أشهر وإجراء انتخابات مبكرة خلال عام”.
مَثّلَ تضمين الانتخابات المبكرة في البرنامج الحكومي مطلبًا مهمًا يريده أنصار التيار الصدري، وخلال الأشهر الماضية نزل الصدريون إلى الشارع واعتصموا في البرلمان رافعين شعار إجراء الاقتراع، وجاء إعلانه في منهاج حكومة السوداني جزءًا من ترضية وتهدئة سياسية تضمن التزام الصدريين الصمت خلال مرحلة تشكيل الحكومة الجديدة، لكن نبرة الأحزاب المنضوية في الإطار التنسيقي اختلفت بعد تشكيلها الحكومة الجديدة.
إذ تحاول العديد من القوى السياسية القفز على المطلب وعدم اللجوء إليه، بحجج كثيرة، وعلى الرغم من أنها ليست المشكلة الوحيدة التي تواجه ثاني انتخابات مبكرة بعد عام 2003، فإنها تنذر بعدم وجود إرادة سياسية تمهد لإجراء الاقتراع، مع ردّ فعل من الصدريين والقوى المدنية في العراق.. مشهد مأزوم قد يعيد البلاد من جديد إلى سياسة الضغط بالجماهير.
ويبدو الإعلان هشًّا لنهاية الانسداد السياسي بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد ومن ثم تشكيل الحكومة ومنحها ووزرائها الثقة من أعضاء مجلس النواب، نظرًا إلى التحديات الكبيرة التي تواجه إجراء الانتخابات المبكرة في العراق، إذ نصَّ المنهاج الحكومي الذي حظي بأغلبية مطلقة من البيت التشريعي، على إجراء انتخابات نيابية ومحلية أيضًا خلال عام.
صعوبات فنية
بعيدًا عن التحديات السياسية وفرص الالتفاف على المطلب الذي ينادي به الصدريون، يواجه إجراء الانتخابات صعوبات فنية كبيرة، تتمثل في عدم توافر الأموال لها، والدعم دولي متوقف على طلب من الحكومة وموافقة من الأمم المتحدة، وتعديلات ملزمة لقانوني الانتخابات والمفوضية، وحتى تبدأ المفوضية الجديدة في المهمة المستحيلة، فهي تحتاج إلى قانون معدّل قبل ثلاثة أشهر من بدء إجراءاتها الفعلية، فلا يمكن العودة إلى القانون السابق بعد قرار ملزم من المحكمة الاتحادية بإجراء تعديلات فيه، بالإضافة إلى هيكلة المفوضية الحاليّة بقرار قضائي أيضًا، علمًا بأن أعمالها تنتهي رسميًا بداية العام المقبل.
ففي 27 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، ألزمت المحكمة الاتحادية الدورة التشريعية المقبلة – البرلمان الحاليّ – بضرورة “تعديل قانون الانتخابات واعتماد نظام العدّ والفرز اليدوي حصرًا”، وهذا خلاف سياسي آخر بين الصدريين والإطاريين، لن يُحَلَّ داخل البرلمان بالتأكيد، بعدما استقال نواب التيار الصدري الـ73 في يونيو/حزيران الماضي من البرلمان، رغم أنهم كانوا يشغلون الكتلة الكبرى، وذلك بعدد المقاعد البرلمانية التي حازوها.
قانون للتيار وآخر للإطار
لا تنتهي الدوامة عند هذا الحد، إذ يريد الصدريون قانون الانتخابات الحاليّ الذي يقسم العراق إلى 83 دائرة انتخابية، بينما يريد الإطاريون قانونًا قديمًا قسم البلاد إلى 18 دائرة، وهو عدد يساوي عدد محافظات العراق، أو تفصيل قانون جديد على مقاسهم داخل البرلمان الذي يمتلكون فيه أغلبية بعد انسحاب الصدريين، ولا يقتصر الخلاف على القانون فقط، بل يمتد إلى مفوضية الانتخابات وقانونها الذي ينظم عملية الانتخاب، فيُصِر الإطار التنسيقي على أنها سبب الخسارة المدوية بعد أن تسبب قانونها بتشتيت جمهوره بين الدوائر الانتخابية المتعددة.
ومن جهة أخرى تريد القوى المدنية محاصرة الأحزاب المتنفذة من خلال تطبيق قانون الأحزاب السياسية في الانتخابات الذي يمنع أي حزب يمتلك سلاحًا أو يكون مصدر تمويله مجهولًا من المشاركة في الانتخابات، لكن تلك أمنيات تبدو غير قابلة للتحقق بسبب سيطرة الأحزاب المتنفذة على القرار السياسي في البرلمان وخارجه.
بلغة الأرقام، تبدو المفوضية بحاجة إلى أكثر من عام، فبعد إقرار قانوني الانتخابات والمفوضية، فإن الأخيرة تحتاج إلى أكثر من 6 أشهر وعلى مرحلتين: الأولى تتعلق بعملية تسجيل وتحديث بيانات الناخبين، والثانية تتعلق بمرحلة الاقتراع، على أن يسبق ذلك نظام انتخابي مثبّت في قانون يشرعه البرلمان، بالتزامن مع تعديل قانون مجالس المحافظات، وفي حال وجود إرادة سياسية لذلك، يرجح أن تجرى الانتخابات النيابية والمحلية في آن واحد، وهو يشبه ما جرى في انتخابات عام 2005، حين شهد العراق انتخابات للجمعية الوطنية والمحلية وانتخابات برلمان إقليم كردستان في آن واحد.
القنبلة الموقوتة
في محاولة تطبيق ما ورد في البرنامج الوزاري على أرض الواقع، تبرز العديد من الأزمات المتوقعة، ويظهر معها المنهاج الحكومي كأنه كلام إنشائي خُط بأيدٍ مستعجلة ولم يراعِ الجوانب الفنية والالتزام به أمام الشعب، وعَكَس بالدرجة الأولى مزاجية حزبية تهيمن على غالبية فقراته، وكشف عن استعجال لتشكيل الحكومة بأي شكل وثمن، لكن الأمر يبدو من الخارج مثل قنبلة موقوتة ستنفجر في أقل من عام، وستحدث أزمة جديدة بين الصدريين وخصومهم في الإطار التنسيقي.
ومثل كل أزمة في العراق فإنها لا تخلو من المفارقات، فبعد الانتخابات الماضية التي أجريت في 10 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي شيطنت الأحزاب المنضوية في الإطار التنسيقي الانتخابات ونتائجها، واتهمت دولًا عدة بالتدخل فيها، وطالبت مرارًا بإجراء انتخابات مبكرة، لكن الأمر تغير بعد أن هيمنت على البيت التشريعي بقرار خاطئ من الصدر، فهي لا تريد اقتراعًا مبكرًا، وتحاول إضفاء الشرعية على الانتخابات ونتائجها.
وفي المحصلة أسهم عدم احترام نتائج الانتخابات السابقة من الأحزاب المتنفذة في ردود فعل دولية، وبات دعم الانتخابات من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أمرًا صعبًا، فما فائدة الانتخابات إن كانت نتائجها تحدث كل هذا الانقسام والتقاطعات والرفض؟ وماذا ستغير الانتخابات الجديدة بعد أن صُرفت الأموال وضاعت الجهود، وخلفت نتائج الانتخابات فوضى واقتتالًا واحتجاجات، وسفكت على إثر خلافتها الدماء؟!