انطلقت في تونس يوم السبت الماضي فعاليات الدورة الـ33 لأيام قرطاج السينمائية – المهرجان السينمائي الأعرق في القارة الإفريقية -، دورة جديدة ستعرض نحو 170 فيلمًا من عدة دول عربية وإفريقية في قاعات السينما، بمعدل 60 عرضًا كل يوم، وفي أثناء النظر إلى برنامج المهرجان والأفلام المبرمجة في مختلف القاعات، لوحظ غياب أحد أبرز الأفلام التونسية عن الدورة، وهو فيلم قد لاقى استحسان الكثير من المتابعين والنقّاد في أول عروضه.
“قدر”، فيلم يُعرّي الواقع ويكشف المستور من إخراج التونسية إيمان بن حسين وإنتاج مشترك تونسي أردني – أمجد الصفدي وعبد العالم الشميري – وبطولة الممثلين التونسيين: مهذب الرميلي الذي برز بدور البطولة في مسلسل الحرقة، إضافة إلى وجيهة الجندوبي ومعز القديري ورياض حمدي ورابعة السافي، ومن لبنان الممثلة تقلا شمعون التي عرفها المشاهد العربي من خلال مسلسل عروس بيروت.
“قدر” يكشف الحقائق
لن تندم إن قرّرت مشاهدة الفيلم، بالعكس سترغب في مشاهدته مجددًا، فطيلة ساعة وثماني وأربعين دقيقة ستكون أمام قصص تُترجم واقع تونس المرير، الواقع الذي انتشر فيه الفساد السياسي والمالي والإعلامي لتضليل الشعوب والسيطرة على مستقبلها.
عالج “قدر” الواقع سينمائيًا وسلّط الضوء على قصة “حفناوي” – الذي أبدع في نحت معالمها الممثل التونسي مهذب الرميلي – دكتور الطب الشرعي الذي جندته منذ الصغر “كاتيا” التي تنفذ مهمة داخل منظمة سرية مأجورة تنفذ مخططات لأجندات مختلفة لا يعلمها حتى منفذيها، ويصنعون من حفناوي آلة مطيعة لأوامرهم.
الطبيب المحلّف الذي أقسم في بداية الفيلم على الدفاع عن حياة الناس وخدمة الإنسانية نجده فيما بعد يكتب التقارير الطبية المزورة بعد وفاتهم، إذ انخرط دون وعي في جرائم ومأساة التحكم في الشعوب الفقيرة من قبل القوى الخارجية.
أرادت بن حسين أن تبين من خلال السينما القدرة على التغيير متى أراد الإنسان ذلك
تمر الأيام ليجد حفناوي نفسه أمام إملاءات لا يستطيع تنفيذها، فقد زادت مطالب المنظمة السرية وقياداتها، يدخل الطبيب في دوامة وصراع داخلي، يُحارب دوافع الشر عنده ويسترجع إنسانيته التي داس عليها طوال حياته.
عبر تقنية الفلاش باك، تضع المخرجة إيمان بن حسين الجمهور أمام طفل ذكي، مجتهد ومتميز دراسيًا، لكنه يعاني من ظلم داخل العائلة والمدرسة، وهذه التنشئة الاجتماعية الصعبة دفعته لارتكاب أولى جرائمه المتمثلة في حرق والديه بعد أن فقد كل مشاعره وأصبح دون إحساس.
أرادت بن حسين أن تبرز عبر تقنية العودة للبدايات والمراوحة بين أحداث الحاضر وصور الماضي الحالة النفسية لحفناوي وغيره من الشخصيات، وتبين أن الإنسان وليد البيئة التي عاش فيها، فالتنشئة الاجتماعية هي ما يبني الفرد.
“رفضه” قرطاج واحتفى به الجمهور
مواضيع حسّاسة لم يعتدها الجمهور التونسي داخل قاعات السينما كانت سببًا، ربّما، في رفض لجنة الانتقاء صلب مهرجان قرطاج الدولي قبوله، وبالتالي لم يكن للتونسيين حظًّا في مشاهدة هذا الفيلم – الحدث – ضمن المهرجان السينمائي الأكبر في بلادهم وإفريقيا.
تقول المخرجة إيمان بن حسين في حديث لـ “نون بوست” إن لهيئة المهرجان أسبابها في رفض قبول الفيلم، لكن “قدر” يلاقي أقوى وأروع جوائز العالم من الجمهور الذي يملأ قاعات السينما، فنظرًا لكمية الضغط والطلب عليه تقرر عدم سحبه من القاعات في أثناء فعاليات مهرجان قرطاج.
هذا النجاح بالنسبة للمخرجة التونسية “لا تضاهيه أكبر جوائز العالم، فعندما يقول الجمهور كلمته على الجميع أن يصمت”، وشهدت قاعات السينما إقبالًا كبيرًا من الجمهور التونسي لمشاهدة الفيلم، ما دفع المشرفين عليه لمواصلة عرضه بالتزامن مع عروض مهرجان قرطاج، وعادة ما تتوقف عروض الأفلام خلال هذه الفترة خوفًا من عدم الإقبال الجماهيري، فالجمهور يفضل أفلام المهرجان على باقي الأفلام.
صراع بين الخير والشر
تقول إيمان بن حسين لـ “نون بوست” إنها أرادت من خلال هذا الفيلم أن تمرّر العديد من الرسائل المهمة، فـ”قدر” كشف المستور وتناول المحظور، وبيّن المعركة الأزلية بين الخير والشر وتموقعها في قلب الإنسان وعقله.
معركة تؤثر على الخيارات التي اختارها أي منا سواء في حياته الاجتماعية أم السياسية وفي علاقاته اليومية ونتيجة هذا الصراع الذي عاشته الشخصيات في الفيلم هي عودة الإنسان إلى أصله وفطرته الخيرة التي تنتصر في الأخير رغم التراكمات الاجتماعية والهزات النفسية والانكسارات التي يعيشها بطل الفيلم وشخوصه.
رسالة إيمان الأبرز، هي “رسالة أمل لكل الشعوب باختلاف أجناسها وتموقعها الحضاري” يعتقد البعض أن البقاء للأقوى، لكن “رسالة القوة في قدر هي قوة الخير داخلنا وليس القوة المادية كما يروج الكثير”.
أرادت بن حسين أن تبين من خلال السينما القدرة على التغيير متى أراد الإنسان ذلك، وعُرفت المخرجة التونسية باشتغالها على السينما الملتزمة وانتصارها للشعوب ومحاولتها الدؤوب لتعرية الفساد والمحسوبية والمؤامرات التي تحاك ضد الشعوب المستضعفة.
سبق أن أخرجت بن حسين فيلمًا وثائقيًا بعنوان “هل يصنع القتلة الدواء”؟ ويكشف الفيلم حقائق خطيرة من خلال وثائق مكتوبة وشهادات حية عن تورط معهد باستور ووزارة الصحة التونسية منذ سنة 2002 في مؤامرة مع البنتاغون ومخبر أدوية إسرائيلي في استغلال أطفال قصّر وكهول بالجنوب التونسي وجعلهم فئران تجارب لمرهم لمداواة مرض أصيب به جنود أمريكيون في حرب الخليج مقابل 50 دينارًا.
تجديد في الطرح
في حديثها لـ “نون بوست”، تؤكد بن حسين أن “قدر فيه تجديد من حيث الجرأة في الطرح، تجديد من حيث طريقة كتابة السيناريو التي لم نعتدها في العالم العربي وهي السرد غير الخطي، التي يعتقد البعض أنها الفلاش باك”.
التجديد يكمن أيضًا في “جمالية الصورة وطريقة الإخراج الجديدة وكل ما هو تقني” تضيف محدثتنا، “زيادة على ذلك الكادر كان قويًا وثريًا، حيث تشعر أن كل شخصية في مكانها وأدت دورها بشكل مدهش بطريقة متجددة سواء كانت من ناحية الأدوار أم الأداء”.
قيل إن هذا الفيلم ابتعد عن الأفلام التجارية، فصاحبته لا تريد من خلاله جمع المال وإنما كشف حقائق غائبة عن فئة كبير من الجمهور
كل هذا أعطى طابعًا متجددًا ومميزًا للفيلم، جعل الكثير يثني عليه، وفق قول إيمان بن حسين، إذ أحسنت المخرجة التونسية بتقنياتها السينمائية وقدرتها الكبيرة على الإخراج واحتراف الممثلين الذين عملوا معها في كشف الفساد والانتصار للخير رغم أن المعركة ما زالت طويلة.
ككل الأعمال الفنية كان “قدر” محل جدل وانتقاد من بعض الجماهير أو الممثلين، إذ اتهمه البعض بالترويج لثقافة المؤامرة، لكن إيمان بن حسين لم يزعجها ذلك، بالعكس رأت أن “النقاش بشأن رسالة الفيلم إثراء له ويعطي فرصة لصناع الفيلم لتطوير أعمالهم المستقبلية”.
مجهود كبير
كرّست إيمان بن حسين وقتًا كبيرًا حتى تكمل الفيلم وتخرجه في الصورة الجميلة التي جاء بها، تقول بن حسين في هذا الشأن: “قدر أتعبني كثيرًا، يكفي أنني كرّست له سنة ونصف من الوقت”، يُذكر أن بداية عرض الفيلم كانت منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تضيف المخرجة “زيادة على ذلك، الفيلم فيه العديد من الجنسيات التي تعاملت معها من تونس ولبنان والأردن ومصر وروسيا وأن تدير فريقًا بجنسيات وأفكار مختلفة أمر ليس سهلًا”، لكنها نجحت في ذلك وكانت “النتيجة رائعة وزال كل هذا التعب أمام ردود الفعل التي أتلقاها الآن من الجمهور”.
سينما جديدة
قيل إن هذا الفيلم ابتعد عن الأفلام التجارية، فصاحبته لا تريد من خلاله جمع المال وإنما كشف حقائق غائبة عن فئة كبير من الجمهور أو لعلّها حاضرة في مخيلته لكن لم يتم تناولها في أعمال سينمائية سابقًا خشية العواقب.
لكن إيمان بن حسين لا تعنيها كثيرًا تصنيفات الفيلم، “أنا قدمت فيلمًا للجمهور ولم أركز على غيره يريدون تصنيفه تجاري سينما المؤلف.. هذا لا يعنيني ما أدركه هو أنني خلقت سينما جديدة من الناس وللناس وسنجد لها تصنيفًا يومًا ما”.
أن تكون جزءًا من هذا الشعب وتحمل المشعل لكي تتولى طرح وتعرية أو تجريد أفكاره وكل ما يدور من أسئلة في ذهنه لم يجد لها جوابًا، ليس سهلًا، كان تحديًا كبيرًا للقائمين على فيلم قدر، والأصداء الأولية للفيلم تقول إنهم نجحوا في ذلك.