يمثل قطاع الخدمات أحد أهم محطات الفساد وأكثرها تأثيرًا على الحياة السياسية اليومية في العراق، فهذا القطاع الذي يشمل الخدمات الأساسية من صحة وكهرباء وتعليم واتصالات، شهد إنفاق الكثير من الأموال الطائلة دون تغيير حقيقي في البنى التحتية التي لا تزال تعاني رغم توسع قاعدة المستخدمين.
في هذا التقرير الجديد من ملف “فرهود” الذي نبحث فيه ملف الفساد في العراق، نتناول هذه المرة قطاع الخدمات في هذا البلد العربي الغني بالموارد والثروات والشباب، وكيف يستنزفه وحش الفساد بلا هوادة.
الكهرباء
تعود مشكلة الكهرباء في العراق إلى عام 1990، بعد الغزو العراقي للكويت الذي أعقبه فرض عقوبات اقتصادية على البلاد، ثم العمليات العسكرية خلال حرب الخليج الثانية التي استهدفت الكثير من البنى التحتية وبينها محطات الطاقة، ورغم أن العراق استطاع التغلب على هذه المشكلة نسبيًا بحلول عام 2003، فإن المشكلة عاودت الظهور بعد الغزو الأمريكي، وصولًا للعام الحاليّ، حيث وصل تعداد السكان إلى 40 مليونًا، أي ضعف عدد السكان عام 1990.
منذ عام 2003، تولى تسعة وزراء للكهرباء الملف، اثنان فقط لم يلاحقا بتهم فساد هما: الوزير حسين الشهرستاني الذي اتهمته صحف أجنبية بالمشاركة في فساد بوزارة النفط، لكن القضاء لم يحقق في هذه التهم، وماجد مهدي، أما السبعة الباقون فهم بين مسجون بتهم فساد أو لا يزال يخضع للتحقيق، أو أصدرت بحقه أوامر قبض ومنع من السفر.
في تحقيق لقناة الحرة، قال مسؤول سابق في دائرة المشاريع بوزارة الكهرباء، رفض ذكر اسمه، إنه كان شاهدًا على شراء محولات كهرباء صغيرة غير صالحة للعمل، لكن هذا لم يمنع الوزارة من التعاقد على المزيد، ويعتقد أن هذا ليس إلا لمحة بسيطة على نوع الفساد الإداري الذي سبب ضياع 62 مليار دولار بشكل مباشر، فيما أدى التعاقد على محطات غير مناسبة للوقود العراقي إلى ضياع نحو 3 مليارات أخرى، ويقول المسؤول السابق: “القطاع الخاص يسلم المحطات إلى وزارة الكهرباء ليتلفها فنيوها بسبب سوء الاستخدام”.
يقول رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي إن العراق أنفق نحو 80 مليار دولار على قطاع الكهرباء، دون فائدة حقيقية، تولت شركتا سيمنز وجنرال إلكتريك أغلب العقود العراقية في مجال الطاقة، فمحولات سيمنز ومولداتها تشاهد في كل مكان تقريبًا في العراق، لكن مشاريع الطاقة التي تنفذها الشركتان رافقتها العديد من المشاكل منذ أول يوم لها في العراق، من بينها جانب نقل الطاقة، تقول الإحصاءات إن قطاع الطاقة العراقي يفقد 40-50% من قدرته التوليدية خلال عمليات النقل بسبب “سوء النقل، الخطوط القديمة والتخريب”.
والنتيجة النهائية لكل هذا، لا يزال العراقيون يعتمدون على أنفسهم تقريبًا في توليد الطاقة الكهربائية، فبحسب تقارير صحفية، ينفق العراقيون ما يقارب من 4 مليارات دولار سنويًا على المولدات الخاصة التي يشترونها في المنازل أو المولدات الأكبر حجمًا التي توجد في الأزقة، وتسبب تشوهات كبرى في المدينة فضلًا عن خطورتها على المواطنين نتيجة انتشار الأعمدة والأسلاك الكهربائية بطريقة بعيدة عن السلامة.
بالمحصلة النهائية، يحتاج العراق 30 ألف ميغاواط من الطاقة بينما لا يولد إلا 19 ألف منها، ورغم توافر الأموال والتخصيصات اللازمة سنويًا للاستثمار في الكهرباء من أجل حل المشكلة، كان الإنجاز منخفضًا جدًا في المشاريع الاستثمارية الخاصة بالكهرباء، فبحسب بيانات ديوان الرقابة المالية العراقية الصادرة عام 2019، لم يبلغ إنجاز وزارة الكهرباء إلا 3.7% من مخصصاتها الاستثمارية!
قطاع الصحة
تدهور الوضع أكثر فأكثر بعد عام 2003، فلم يحسن النظام السياسي الجديد واقع النظام الصحي في العراق، ووجد تقرير صدر بعد عامين من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة أن “الفساد في قطاع الرعاية الصحية قد وصل إلى حد انتشار الرشوة والمحسوبية والسرقة بشكل كبير، وأن المشكلة خطيرة جدًا لدرجة أن صحة المرضى أصبحت في تدهور مستمر”، فانتشرت سرقة الأدوية والمعدات الطبية وكثرت حالات الاحتيال، ما أدى إلى تردي الأوضاع في المؤسسات الصحية دون أن يواكب ذلك تحرك حكومي.
وعلى سبيل المثال، لم تواكب الدولة وتيرة الزيادة السكانية ومعها الاحتياجات الاجتماعية، فارتفع عدد سكان العراق من 7.28 مليون في عام 1960 إلى 39 مليون في عام 2019، لكن بحسب “البنك الدولي”، انخفض عدد الأسرة في المستشفيات للفرد بشكل فعلي بين عامي 1980 و2017 من 1.9 سرير لكل 1000 عراقي إلى 1.3 سرير لكل 1000 فقط.
لعب الفساد دورًا رئيسيًا في هذا الانهيار المستمر للبنية التحتية، فالعراق من الدول الأكثر فسادًا بحسب منظمة “الشفافية الدولية” وأثّر ذلك بشكل طبيعي على النظام الصحي، فبغض النظر عن نسبة الناتج المحلي الإجمالي المخصصة لقطاع الصحة، جعل الفساد المستشري أي استثمار في القطاع الصحي غير مجدٍ.
وفي الحقيقة، تعيق الحكومة العراقية تحسين الرعاية الصحية للعراقيين في كلا القطاعين العام والخاص بسبب المنافسة الشرسة بين السياسيين العراقيين للفوز بوزارة الصحة بهدف اختلاس الأموال من عقود الأدوية، كما تتوافر في المحاكم الأمريكية أدلة مقدَّمة ضد شركات أعطت رشوة للفوز بعقود من وزارة الصحة العراقية.
في الواقع، الحكومة العراقية ووزارة الصحة متهمتان ببيع الأدوية المخصصة لوزارة الصحة في السوق السوداء، وعلى هذا النحو، عندما انتشر وباء “كوفيد-19” في الشرق الأوسط، وجدت الحكومة العراقية والمجتمع العراقي نفسهما غير مستعدين كنتيجة طبيعية لكل ما سبق.
يقول مسؤول بارز في وزارة الصحة إن عدد المستشفيات الحكومية التي شيّدت بعد عام 2003 تسعة فقط، بينها أربعة بتمويل من منظمة الأمم المتحدة والجيش الأمريكي، ويكشف وجود 235 مستشفى خاصًا تقدم خدمات طبية بكلفة باهظة، ما يجعل روادها من أصحاب الدخل المرتفع، في وقت يعيش أكثر من 40% من الشعب تحت خط الفقر.
يتبين أثر الفساد في قطاع الصحة من خلال الفروقات في عدد المستشفيات بين مناطق العراق المختلفة وإقليم كردستان الذي نجا مما شهده العراق من دمار ما بعد الغزو الأمريكي والحرب الأهلية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، فرغم أن سكان الإقليم يشكلون 15-20% من سكان العراق، فإنه يضم ربع ما في العراق من مراكز لأمراض القلب والتأهيل وثلث مراكز علاج مرض السكري، وفي حين أن نسبة الأسرة بالمستشفيات تبلغ 1.1 ونسبة الأطباء 0.8 لكل ألف مواطن في باقي مناطق العراق فإن النسبة تبلغ 1.5 سرير و1.4 طبيب في كردستان.
ومقارنة بدول العالم الأخرى، يبلغ عدد الأطباء والممرضات في العراق مقارنة بعدد السكان أقل بكثير من دول أخرى، بل إن عددهم أقل بكثير من دول أفقر مثل الأردن وتونس، ففي 2018، كان لدى العراق 2.1 ممرضة وقابلة لكل ألف نسمة مقارنة بـ3.2 في الأردن و3.7 في لبنان وذلك وفقًا لتقديرات كل بلد، وبلغ عدد الأطباء 0.83 فقط لكل ألف نسمة أي أقل بكثير من الدول المماثلة في الشرق الأوسط، فقد بلغ العدد في الأردن على سبيل المثال 2.3 طبيب لكل ألف نسمة.
قطاع التعليم
لعل أكثر القطاعات ضررًا وأكثرها تأثيرًا على مستقبل العراق: قطاع التعليم، ورغم إنفاق الحكومة أكثر من 22 مليار دولار على القطاع التعليمي، لا يزال يعاني الكثير من النقص.
يوجد في العراق أكثر من 15 ألف مدرسة ابتدائية، لكن 35% منها ليس لديها أبنية خاصة بها، ومن بين أكثر من 4 آلاف مدرسة متوسطة، 30% ليس لديها مبانٍ خاصة بها، وأكثر من ألفي مدرسة ثانوية 30% منها تفتقر إلى مرافقها الملائمة، وهذا يترك عجزًا في أكثر من 8500 منشأة مدرسية على جميع المستويات، علاوة على ذلك، هناك أكثر من 4500 مبنى مدرسة ابتدائية بحاجة إلى إعادة تأهيل، كما هو الحال بالنسبة لمباني المدارس الثانوية البالغ عددها 1280، وهناك أكثر من 1800 مبنى مدرسي غير ملائم على الإطلاق.
تعاني المناطق الريفية من نقص حاد في المدارس والمدرسين والخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه وإمدادات التشغيل الأخرى، ففي حين أن المدارس في المدن بها ما يصل إلى 24 صفًا دراسيًا، فإن المدارس الريفية بها ما يصل إلى 6 صفوف دراسية فقط.
أسهمت هذه النواقص في تقليص عدد ساعات الدراسة في المدارس العراقية، إذ يتلقى الطلاب التعليم لمدة 3 إلى 4 ساعات يوميًا فقط مقارنة بالطلاب في أمريكا والصين وكوريا الجنوبية الذين يتلقون 8 و10 و14 ساعة على التوالي، كل هذه العوامل أثرت سلبًا على العملية التعليمية العراقية ومخرجاتها، ففي العام 2016، ألغى المنتدى الاقتصادي العالمي العراق و5 دول أخرى من معايير الاعتراف بالجامعات، ما تطلب من العراقيين إجراء اختبارات الكفاءة قبل قبولهم في بعض الجامعات في الخارج.
قال حيدر العبودي المتحدث باسم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إن التعليم الخاص بدأ لأول مرة في العراق عام 1988، واليوم يوجد في العراق 52 جامعة خاصة و35 جامعة حكومية.
“يتم إنشاء الجامعات أو الكليات الخاصة بتقديم طلب من المستثمر إلى وزير التعليم العالي الذي بدوره يرفعه إلى مجلس الوزراء، وبعد ذلك تتم إجراءات التسجيل بناءً على حاجة السوق للكليات المتخصصة” يقول العبودي، ويضيف “شروط إنشاء الجامعة تشمل تلبية المتطلبات المالية والبشرية والعلمية، بالإضافة إلى حرم جامعي لا يقل عن 7500 متر مربع، مع أقسام لا تقل عن 2500 متر مربع”.
قال العبودي إن المشكلة الحاليّة في الجامعات الخاصة لا تتعلق فقط بفقدان الاعتماد، حيث تستمر بعض المدارس غير المعتمدة في قبول الطلاب، كما تقبل الأقسام الطبية في بعض الجامعات الخاصة خريجي الثانوية العامة من برامج الأدب أو التجارة أو الاقتصاد وهو ما يخالف المعايير الأكاديمية، وهذا بسبب الفساد والمحسوبية.
يمثل الفساد في القبول مشكلة أخرى: فالطلاب ذوو المعدل التراكمي المنخفض الذين لم يتم قبولهم في الجامعات والمعاهد الحكومية غالبًا ما يتقدمون إلى الجامعات الخاصة ذات المعايير الأقل، لكن يمكن الحصول على القبول في الجامعات الخاصة والحكومية من خلال الرشاوى.
لقد تسبب قطاع التعليم الخاص في العديد من المشاكل في العراق، بما في ذلك انخفاض مستوى التعليم وزيادة البطالة نتيجة التأسيس العشوائي للكليات دون دراسة جدوى. قالت عبير الحسين، المسجّلة في لجنة التعليم لموقع المونيتور، إن العديد من الجامعات الخاصة خدعت الطلاب وقبلتهم دون اعتمادهم، والآن أصبح مستقبلهم غير مؤكد، رغم أنهم أنفقوا ملايين الدنانير على تعليمهم”.
بالإضافة إلى الفساد والتلاعب السياسي، يعاني النظام أيضًا من الإهمال الحكومي، إذ تخصص الحكومة 1.9 مليار دولار سنويًا فقط لقطاع التعليم وهي أيضًا عرضة للفساد وسوء الإنفاق.
الفساد في قطاع الاتصالات
في عام 2021، صدم القضاء العراقي شركات الاتصالات المحلية الثلاثة العاملة في العراق: “آسيا سيل، زين، كورك” بقرار عدم تجديد عقودها الخاصة بسبب تراكم الديون.
يقول أحد أعضاء لجنة متابعة تنفيذ البرنامج الحكومي إن عقود تراخيص الهاتف النقال في العراق تنطوي على مخالفات دستورية وقانونية، فضلًا عن تسببها بإضرار المال العام وحرمان الخزينة العامة من مبالغ كبيرة مستحقة على الشركات، فقد أثبتت الأوراق التي كشفها أعضاء في اللجنة، تهرُّب الشركات الثلاثة الكبرى بعد تسديد الديون التي وصلت إلى أكثر من 4.5 مليار دينار عراقي، أي ما يعادل 3 مليارات دولار أمريكي.
يقول النائب السابق القاضي وائل عبد اللطيف: “ملف شركات الهاتف النقال هو أحد الملفات المهمة الفاسدة، لأنها من حيث الأهمية تأتي بعد النفط إن لم تتقدم عليه”، مضيفًا “منذ أول عقد أبرمته هذه الشركات مع الحكومة العراقية كان من المفترض أن تكون 40% من حصتها مملوكة للعراقيين على اعتبار أن نفوس العراق وصلت إلى 40 مليونًا، لكن الكثير من رؤساء الحكومات السابقة أسقطوا الضريبة بنسبة كبيرة عن هذه الشركات، إضافة إلى أن جميع الشركات مطالبة بمبالغ للحكومة لكنها لا تسدد، وتمديد العقود لها دون تسديد المستحقات يعتبر فسادًا كبيرًا”.
ليست خدمات الهاتف النقال وحدها ما يشهد فسادًا، فخدمة الإنترنت بدورها تشهد فسادًا أيضًا، ففي عام 2020 تم ضبط أكبر عملية سرقة لسعات الإنترنت بقيمة بلغت 47 مليون دولار، في محافظة كركوك شمال البلاد، إذ قالت هيئة النزاهة إنها ضبطت أكبر عمليات تهريب لسعات الإنترنت عبر الكابل الضوئي في العراق، والكابل الضوئي هو مشروع تابع لوزارة الاتصالات العراقية، يتم من خلاله نقل سعات الإنترنت بين المحافظات.
وقعت عملية الضبط في موقعي شركتي “إيرثلنك” و”IQ” التابعتين للقطاع الخاص وتستحوذان على خدمة الإنترنت في البلاد، وبحسب الهيئة، وصلت عمليات التهريب المضبوطة إلى 47 لمدا – أي 10 غيغا بايت -، وتبلغ كلفة الواحدة منها مليون دولار أمريكي شهريًا.
بالمحصلة، يكتسب ملف الخدمات في العراق حساسية إضافية بالإضافة إلى هدر الأموال، ففصل الصيف الذي يشهد انحسارًا في خدمات الكهرباء يمثل دائمًا موسمًا للاحتجاجات في أغلب المحافظات، كما يفقد هذا الملف ثقة المواطن في الحكومة وأي خطوة تقوم بها حتى لو كانت في صالح المواطنين، هذا فضلًا عن تكوين شبكات من المنتفعين والمافيات والمتنفذين الذين يمنعون أي عملية إصلاح في الدوائر الخدمية مقابل الحصول على العقود دون إنجاز حتى، كما تقول تقارير ديوان الرقابة المالية!