ترجمة وتحرير: نون بوست
في كتابه الصادر سنة 2022 بعنوان “العقل المقاوم للعمر”؛ يستكشف الدكتور مارك ميلشتاين العلم الكامن وراء كيفية شيخوخة العقل، والتدهور العقلي الذي يعاني منه كثير من الناس عند بلوغهم سن الشيخوخة. وعلى الرغم من أن الجينات تؤثر على كيفية تقدم أدمغتنا في العمر واحتمالية الإصابة باضطرابات عصبية معينة، فإن أسلوب الحياة يلعب دورًا مهمًا في صحة العقل أيضًا، ويلقي التقرير المقتطف من الكتاب نظرة عامة حول كيف يمكن لتراكم “مخلفات العقل” أن يتسبب في شيخوخة العقل بشكل أسرع مما قد يحدث بدونها.
نحن نعلم أن أعمار أدمغتنا غالبًا لا تكون في نفس عمرنا الزمني، فعلى سبيل المثال؛ هناك مجموعة من الأشخاص الذين يسمون بـ”المعمرين الخارقين”، وهم الذين يكونون في الثمانينيات من العمر وما بعدها ولكن عقولهم تمتلك الوظيفة المعرفية للعقود الأصغر سنًّا، وبالمقابل أيضًا يمكن أن يكون عمر عقلك أكبر من عمرك الزمني، وهذا بالطبع شيء لا تريده!
وعلى الرغم من عدم وجود اختبار يمكنك إجراؤه في المنزل لتحديد مدى “شيخوخة” أو “شباب” عقلك، ولكن يمكن التفكير بأن العقل الشاب والصحي يكون في ذروة أدائه، وغالبًا ما ترتبط ذروة وظيفة العقل بذاكرة حادة، فمع تقدمنا في العمر قد يكون من الصعب تذكر الأسماء أو الوجوه أو الأحداث أو شيء قرأناه أو أكلناه مؤخرًا، أما في العقول الشابة، تكون العملية المسماة بالتمايز العصبي فعالة وقوية، وهذه العملية يتم فيها تكليف خلايا عقلية معينة بتذكر أنواع معينة من المعلومات، كالوجوه مثلًا، ومع تقدمنا في العمر تتدهور هذه العملية، وبالتالي تفقد الخلايا خصوصيتها ولا تعمل بشكل فعال، وبدلاً من مجرد التركيز على الوجوه، يحاولون تذكر أنواع أخرى من المعلومات أيضًا.
أما بالنسبة إلى “المعمرين الخارقين”، فإن تمايزهم العصبي يماثل التمايز العصبي لشخص يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، وهذا أحد الأسباب التي تجعلهم يتمتعون بأداء ذاكرة تبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا.
إذن ما هي أسرار هؤلاء المعمرين الخارقين الذين يتمتعون بذاكرة قوية وكل أولئك الذين لديهم أعمار عقلية أصغر من عمرهم الزمني؟
كشفت دراسة نُشرت سنة 2021 عن بعض الإجابات المفاجئة؛ فعلى مدى ثمانية عشر شهرًا، تابعت الدراسة 330 شخصًا، يشار إليهم بأنهم من “المعمرين الخارقين، والذين بلغوا 100 عام أو أكثر؛ ولم يجد الباحثون لديهم أي انخفاض في معظم مجالات الذاكرة أو القدرات المعرفية، وفي حين أن سنة ونصف قد لا تبدو فترة طويلة، إلا أنه بمجرد وصول الشخص إلى عمر القرن؛ يصبح العامين بالنسبة لهم مثل 25 عامًا بالنسبة للبالغين من العمر 75 عامًا من حيث صحة العقل، فعلى سبيل المثال، يزداد خطر الإصابة بالخرف بنسبة 60 بالمائة كل عامين بعد سن 100، بينما يستغرق الأمر 25 عامًا حتى يزداد خطر الإصابة بالخرف لدى البالغ من العمر 75 عامًا بنفس المقدار. أي أنه يتم ضغط خمسة وعشرين عامًا من الخطر إلى عامين بعد سن 100.
إذن، ما هو سر هؤلاء المعمرين الأقوياء عقليًا؟ قد تميل إلى تخمين أن “الجينات” هي الإجابة، ولكن في حين أن الجينات يمكن أن تلعب دورًا بالتأكيد، فإن 16.8 بالمائة من الأشخاص في الدراسة لديهم جينات معروفة بأنها تزيد من خطر الإصابة بمرض الزهايمر، ولم يصابوا به، لكن ما بدا أنه المفتاح الأساسي لهذا اللغز هو أسلوب الحياة!
وكان أحد العوامل الرئيسية هو أنهم استمروا في تعلم أشياء جديدة طوال حياتهم، تذكر أن ذكرياتك موجودة في تلك الروابط بين خلايا عقلك، لذلك فكر في عقلك على أنه حساب مصرفي؛ فكلما زاد عدد الودائع التي نودعها فيه، قلّ تأثير عمليات السحب على صافي ثروتنا. وبقيامنا بعمل ودائع “روابط جديدة” من خلال تعلم أشياء جديدة؛ وفقداننا لبعض هذه الروابط مع تقدمنا في العمر شكل طبيعي؛ يظل هناك المزيد.
هناك مقولة إسبانية تقول: “تعلم شيئًا جديدًا كل يوم”؛ هذه النصيحة البسيطة هي قاعدة أولى ممتازة لصحة العقل، وسنناقش بشكل أعمق في الفصل السادس عشر أي أنواع التعلم هي الأفضل، ولكن الرسالة الرئيسية الآن هي أن تعلم معلومات جديدة أو مهارة جديدة يبقي عقلك شابًا. لذا؛ إذا كنت تتعلم شيئًا جديدًا من خلال قراءة هذا الآن، فأنت تقوم بواحد من أهم الأشياء لأجل عقلك.
وعلى الرغم من أننا لسنا في المرحلة التي يمكن لكل شخص فيها الدخول إلى ماسح ضوئي للعقل ومعرفة عمر عقله، لكن هناك بعض العوامل التي يمكن أن تساعد في إعطائك تقديرًا لعمر عقلك. لذا، اسأل نفسك الأسئلة التالية:
1. الأداء التنفيذي: ما مدى جودة إدارة يومي؟
2. التوازن والتنسيق: إلى أي مدى يمكنني التحرك والحفاظ على التوازن؟
3. القدرة على التعلم والتذاكر؛ ما مدى جودة تذكر المعلومات المهمة؟
4. الحركة: ما هي سرعتي في المشي؟
5. الهوية: ما هو عمري الذي أشعر به؟
بالطبع لا يمكن لأي من هذه الأسئلة أن يحل محل فحص العقل الفعلي والتقييم الشامل من قبل طبيب أعصاب. ومع ذلك، يمكن أن تساعدنا هذه الفئات الأساسية في الشعور بعمر العقل. من المهم أيضًا الانتباه إلى أن مجرد تحديد عمر عقل شخص ما عن طريق فحص العقل لا يخلو من التعقيد والجدل. فعلى سبيل المثال؛ هناك عدة أمور تحتاج للتحقيق وتحديد أيها أكثر أولوية، مثل أي جزء من العقل يتم التعامل معه، وأي المؤشرات الحيوية أكثر أولوية، مثل المادة البيضاء أو الرمادية، ورواسب الحديد، والحجم.
كن حذرًا من العيادات الخاصة التي تعرض عليك إخبارك بعمر عقلك، خاصة مقابل رسوم باهظة؛ حيث إن هذه الأداة يقتصر استخدامها بشكل أساسي في هذه المرحلة على المؤسسات البحثية الكبيرة. فبكل جدية؛ أصبح تحديد عمر العقل باستخدام تقنية التصوير المتطورة أداة ناشئة وقوية في الدراسات البحثية في المؤسسات الكبيرة لفهم ودراسة الصحة والأمراض ومعدلات الوفيات.
سنستمر في مناقشة العوامل الرئيسية الأخرى التي توفر نظرة ثاقبة لأعمار عقولنا، وتذكر أنه عمر العقل لا يتحدد بواحد فقط من هذه العوامل، بل بمجموعة منها.
علاقة مخلفات العقل بعمره
الآن؛ وبعد أن عرفت أن عمر عقلك يمكن أن يكون أكبر من عمرك الزمني، قد تتساءل كيف يحدث ذلك. أحد الأشياء التي تجعل الدماغ يتقدم في السن، أو يشيخ قبل الأوان، هو تراكم المخلفات والسموم (نناقش العوامل الأخرى في الفصول القادمة من هذا الكتاب)، والمخلفات هي نتيجة ثانوية للعمل الذي تقوم به خلايا دماغك. تذكر أننا قلنا أن كل خلية من خلايا دماغك تشبه المدينة الصاخبة، وتمامًا كم يمكن أن تتسخ المدينة، يمكن لعقلك أن يتسخ أيضًا عن طريق امتلائه بنفايات بقايا التفاعلات الكيميائية، والسموم البيئية، والخلايا القديمة والتالفة، والبروتينات التي لم يعد هناك حاجة إليها.
وينتج دماغك الذي يزن ثلاثة أرطال خمسة أرطال من المخلفات سنويًا، والتي عادة ما يتم إعادة تدويرها أو التخلص منها، ولكن إذا تعطلت هذه العمليات، يمكن أن تتراكم هذه المخلفات وتُتْلف الدماغ.
ويتداخل تراكم هذه المخلفات مع قدرة خلايا دماغك على التواصل مع بعضها البعض، مما يؤدي في النهاية إلى تقلص الخلايا وموتها. وهناك العديد من أشكال نفايات الدماغ، لكن النوعين الرئيسيين هما صفائح الأميلويد وتشابكات تاو.
الصفائح
لفهم أفضل لكيفية نشأة الصفائح؛ تخيل منزلًا به هوائي على السطح يوفر بعض محطات التلفزيون التلفزيونية الأساسية، إذا انكسر هذا الهوائي، فلن يقتصر الأمر على عدم تمكنك من استقبال محطات التلفزيون، ولكن القطع المكسورة من الهوائي يمكن أن تلحق الضرر بسطحك أيضًا، ويمكن أن تحدث نفس الفكرة مع خلاياك؛ إذ تحتوي أسطح خلاياك على مستقبلات تشبه الهوائيات، والتي تعمل كنظام اتصال وأمان واسع النطاق، وهناك العديد من الأنواع المختلفة من المستقبلات التي تلعب دورًا في جميع النشاطات والمشاعر المعقدة في الحياة. فعلى سبيل المثال؛ تتلقى بعض المستقبلات على وجه التحديد إشارات تخبر الخلايا إذا ما كانت ستنمو أم لا، وترتبط المستقبلات أيضًا بالمواد الكيميائية التي تحاول دخول الخلية، بحيث إذا تعرف المستقبل على المادة الكيميائية، فإنه يفتح الخلية بحيث يمكن للمادة الكيميائية – التي قد تؤثر على وظائف تتراوح من الحالة المزاجية إلى تعلم المشاعر مثل الحب – أن تدخل.
ويُطلق على أحد أنواع المستقبلات الموجودة في خلايا الدماغ اسم بروتين أميلويد البدائي، وفي بعض الأحيان، تأتي الإنزيمات، التي تعمل مثل المقص، وتقطع بروتين أميلويد إلى قطع صغيرة، وهناك العديد من العوامل التي تجعل هذه الإنزيمات تقطع بروتين أميلويد، أحدها هو الالتهاب – نناقشه في الفصل التالي-، لكن من المهم أن تعرف الآن أن القطع المقطعة من هذا المستقبِل تصادف أن تكون لزجة وتتكتل معًا لتشكيل صفائح نسميها بيتا أميلويد.
التشابكات
وبينما تتشكل الصفائح بين خلايا الدماغ، فإن التشابكات عبارة عن مخلفات تتشكل داخل الخلايا نفسها؛ حيث يوجد داخل خلاياك نظام واسع من الخيوط والأنابيب الدقيقة، يُسمى الهيكل الخلوي، والذي يقوم بتوصيل البروتينات والعناصر الغذائية إلى أجزاء مختلفة من الخلية، ويمكن تخيل هذا الهيكل الخلوي على أنه مسارات قطار أنفاق، ولكن بنسخة مجهرية، ويتم تثبيت الهيكل الخلوي في مكانه بواسطة بروتين يسمى تاو، والذي يشبه إلى حد كبير في هذا التشبيه روابط السكك الحديدية التي تثبت المسارات في مكانها.
وفي بعض الأحيان؛ تنفصل جزيئات تاو التي تثبت نظام التوصيل الدقيق هذا عن الهيكل الخلوي وترتبط بجزيئات تاو الأخرى، تخيل أن مجموعة من روابط السكك الحديدية تتفكك وتشكل فوضى متشابكة؛ هذا ما يبدو عليه “التشابك” في الدماغ.
ليس من الواضح تمامًا ما الذي يجعل جزيئات تاو هذه تتوقف عن تثبيت المسارات في مكانها، ولكن هناك دليل على أن الالتهاب وتراكم المكونات السامة والتفاعلات الكيميائية في الخلايا كلها من العوامل المسببة لذلك، وبمجرد أن تتراكم التشابكات في خلية دماغية واحدة، فإنها تتسرب من الخلية وتلتقطها خلية صحية مجاورة، ويتم خداع هذه الخلية السليمة لعمل المزيد من التشابكات وبالتالي تنتشر الخلايا التالفة في جميع أنحاء الدماغ، وقد وجدت دراسة أجريت سنة 2021 أن تتبع تراكم بروتين تاو في الدماغ هو مؤشر أفضل على انخفاض الذاكرة من تتبع تكوين الصفائح.
الصفائح والتشابكات هما الشكلان الأكثر شيوعًا لمخلفات الدماغ الموجودة في مرض الزهايمر (نناقش هذا أكثر في الفصل السادس)، كما توجد تشابكات تاو في أشكال أخرى من الخرف، بالإضافة إلى اعتلال الدماغ الرضحي المزمن (وهي حالة يحدث فيها تلف الدماغ بسبب الصدمة من إصابات الرأس مثل الارتجاج)، ولكن هناك أيضًا أنواعٌ أخرى من نفايات الدماغ التي يمكن أن تكون سببًا جذريًا لمجموعة واسعة من الأمراض والاختلالات، بما في ذلك الاكتئاب ومرض باركنسون والقلق، على سبيل المثال لا الحصر.
فعلى سبيل المثال؛ يتراكم بروتين يسمى ألفا سينوكلين في كتل سامة تتلف خلايا الدماغ المنتجة للدوبامين، وبما أن الدوبامين يساعد في تنسيق الحركة، فإن تدمير هذه الخلايا يؤدي إلى حدوث الرعشات التي تظهر في مرض باركنسون.
ويمكن أن يؤدي تراكم المخلفات بشكل عام أيضًا إلى أعراض مثل قلة التركيز، وفقدان الإنتاجية وانخفاض حاد في الطاقة الكلية؛ وهي علامات وأعراض الشيخوخة البيولوجية، أي ببساطة أنه كلما زادت المخلفات، كلما كان الدماغ “أقدم”.
لذا؛ هل يمكننا التخلص من هذه المخلفات؟ على الرغم من عدم وجود شامبو للدماغ، فقد توصل العلماء إلى سلسلة من الاكتشافات التي تُظهر أن جسمك لديه طرق تنظيف قوية لإخراج النفايات حرفيًّا، مثل تعلم أشياء جديدة، مما يزيد أيضًا من الروابط بين خلايا دماغك، هو أحد هذه الطرق.
المصدر: بيج ثينك