“جهاد .. إما نصر أو شهادة” هكذا تتخذ قوات الدفاع الشعبي السوداني (إحدى مؤسسات القطاع الأمني في السودان والتي شُكلت عقب انقلاب عسكري قادته الحركة الإسلامية في السودان تحت اسم “ثورة الإنقاذ الوطني”)، شعارها.
فبعد خمسة أشهر من قيام الانقلاب العسكري شرعت قيادات الإنقاذ في تقنين ما يسمى بقوات الدفاع الشعبي وذلك في شهر نوفمبر من العام 1989.
قوات شبه عسكرية لها شعارات إسلامية واضحة اتخذتها حكومة الإنقاذ الوطني ركيزة أساسية في خوض حروبها المتعددة التي دخلتها منذ توليها السلطة وبها عملت على نوع من التجييش الشعبي للشباب داخل السودان تحت أيدولوجية الإنقاذ الإسلامية، تتبع هذه القوات الرئاسة السودانية بشكل مباشر رغم أنها تعتبر في عداد مؤسسات القوات السلحة، وقد يفسر البعض تشكيل هذه القوات الشبه عسكرية وتدريبها وتبعيتها للرئيس السوداني “عمر البشير” إلى عدم ثقة حكومة الإنقاذ الوطني في الجيش الذي يعرف ثقافة الانقلابات جيدًا وكنوع من خلق ذراعٍ أمني موالٍ للحركة الإسلامية في السودان.
ومن الغير المعروف للكثيرين أن قوات الدفاع الشعبي المتواجدة حاليًا لم يبدأ بتشكيلها رجال الإنقاذ حينما وصلوا للحكم وإنما كانت نواتها الأولى حين سلحت الحكومة السودانية بقيادة “الصادق المهدي” زعيم حزب الأمة الحالي بعض القبائل السودانية في بعض الولايات التي تشهد صراعات مسلحة كولايات كردفان ودارفور للقيام بحماية بعض المصالح الاقتصادية هناك للقبائل بعد تكرار هجوم مسلحين على القبائل تزامنًا مع عجز الجيش السوداني النظامي عن إعادة الانتشار في تلك المناطق؛ فاضطرت الحكومة إلى إمداد تلك القبائل بالسلاح اللازم حتى تكونت مجموعة من المليشيات المسلحة في تلك المناطق تحت رعاية السلطات المحلية في هذه الأقاليم؛ ما استدعى الجيش السوداني لتوجيه تحذيرات للحكومة من الاستمرار في دعم تلك المليشيات بالسلاح حتى اتخذ قرار بوضعها في إطار قانوني وهذا ما لم يحدث بسبب حركة الإنقاذ في الجيش والتي تزعمها العميد عمر البشير في ذلك الوقت وأزاح بها عدة قيادات بالجيش السوداني واستولى على الحكم بدعم من الحركة الإسلامية في السودان.
في ذلك الوقت صدر مرسوم قانوني من الحكومة التي ترأسها البشير باعتبار قوات الدفاع الشعبي مؤسسة رسمية تتبع للدولة وتم تشكيلها بنسق إسلامي جديد وعرفت باسم “قوة المجاهدين”.
جرت حالة من التعبئة العامة للتجنيد داخل قوات الدفاع الشعبي مع نوع من الاستعياب للمليشيات القديمة المنتشرة في أرجاء البلاد وبالفعل تشكلت قوات الدفاع الشعبي مع ترويج لفكرة الجهاد والأسلمة الحاصلة للمؤسسات.
اُستخدمت هذه القوات بجوار الجيش الوطني السوداني في أول استخدام سياسي لصد المتمردين في الولايات المختلفة داخل الحرب الأهلية.
في وسط هذه البروباجاندا الإسلامية باتت الحركة الإسلامية التي تحكم في ذلك الوقت مقتنعة تمامًأ بأهمية وجود ذراع عسكري ينفذ قوانين الدولة ويحميها، ويبدو أنها كانت متأثرة بوصف ثورتها بالإسلامية كالذي حدث بإيران في سبعينيات القرن الماضي، فأولت حكومة الإنقاذ قوات الدفاع الشعبي مزايا خاصة ووجهت إليها الأموال حتى جذبت لها العديد من الشباب الجامعي السوداني الذي التحق بمعسكرات القوات في جميع الأنحاء حتى صرحت الحكومة أنها تستهدف تجنيد أكثر من 100 مقاتلاً أو “مجاهدًا”، حسب وصفها في ذلك الحين.
كانت المهمة الأبرز التي أوكلت للقوات التي اشتد ساعدها على يد الدولة وباتت تتبع رئيس الجمهورية مباشرة من خلال قائدها، هي مجابهة قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان وتوقيفه باعتباره حركة تمرد في أراضي الشمال والذي فشل الجيش النظامي في كبح جماحه، وفي تلك الاثناء أيضًا أعلن النظام أن حرب الجنوب لا مفر من خوضها.
وقد استعانت قيادة الدفاع الشعبي بالجيش النظامي السوداني في التدريب بل إن الدفاع الشعبي بعد ذلك تحول إلى مركز لتفريخ قادة للجيش النظامي، ولكن بأيدلوجية إسلامية حيث تم تحويل عدة ضباط للتدريب في قوات الدفاع الشعبي ومن ثم العودة إلى القوات المسلحة مرة أخرى، فلم تكن معسكرات الدفاع الشعبي مجرد معسكرات تدريبية بل كانت تلقينًا لأهداف الحركة الإسلامية مع العمل على تكوين جيل متشبع بأفكار الإسلاميين، ولائه التام للنظام الحاكم، مستعد للدفاع عنه، فاستخدمت المحاضرات الدينية والأناشيد الإسلامية في بث هذه الروح داخل معسكرات الدفاع الشعبي.
لم يغب الوجه المدني عن الدفاع الشعبي بالسودان ففي الولايات الحضرية حيث يوجد قيادات مدنية بالدفاع الشعبي دورها الأساسي في التجييش والحشد بالاضافة للأعمال الإغاثية والخيرية التي تقوم عليها في المناطق والأحياء قوات الدفاع الشعبي؛ وهو ما يجعل للدفاع بُعد مدني داخل المجتمع السوداني كهيئات تتدخل أثناء الكوارث كالسيول وغيرها لمساعدة الحكومة في المناطق المتضررة.
التدريب في معسكرات الدفاع الشعبي أصبح إجباريًا في السودان للشباب من سن 16 تحت اسم “الخدمة الوطنية” وبات عليك الحصول على شهادة الخدمة الوطنية لتستطيع العمل أو السفر وما إلخ من إجراءات حكومية، لكن الذهاب لقتال المتمردين لم يكن إجباريًا وإنما اعتمدت الحكومة على الدعاية الدينية في الأمر، فصدرت الفتوى التي تستحل دماءهم باعتبارهم مرتدين على الرغم من كون غالبية النوبيين المشاركين في التمرد كانوا مسلمين ولم يخلو الخطاب من الحديث عن الاستشهاد في صفوف قوات الدفاع الشعبي باعتبار قتال المتمردين جهاد وله فضل، ودأبت الصحافة في ذلك الوقت لعمل الترويج اللازم لهذه الأفكار حتى انضم العديد من الشباب للدفاع الشعبي حتى أن قوات الدفاع الشعبي في الجنوب قارب عددها عدد الجيش السوداني هناك.
حرس ثوري
عقب استتباب الأمر للحكومة السودانية الجديدة في عام 1991 قام الرئيس الإيراني “علي أكبر رفسنجاني” بزيارة إلى الخرطوم بصحبة العديد من المستشارين الأمنيين الإيرانيين من ضمنهم مسئولين بالحرس الثوري الإيراني؛ بموجب هذه الزيارة أصبحت إيران أحد مصادر التسليح والتدريب للجيش السوداني، حيث أصبحت الزيارات المتبادلة بين الوفود العسكرية من البلدين تتم بصفة دورية كان أهمها ما يخص الدفاع الشعبي هي زيارة لـ “رفيق دوست” أحد قيادات الباسدران بالحرس الثوري الإيراني وذلك لتدريب قوات الدفاع الشعبي، كما قيل آنذاك.
ما جعل بعض السودانيين يعلقون على ارتباط نموذج قوات الدفاع الشعبي بالحرس الثوري الإيراني وتشكيلاته الممتدة باعتبار أن قوات الدفاع الشعبي استنساخ لتجربة الحرس الثوري الإيراني، بل وأضاف البعض أن إيران استفادت من تجربة الدفاع الشعبي العسكرية وطبقتها على تأسيس الذراع العسكري لحزب الله بلبنان، حيث يؤكد “عبد الماجد عبد الحميد” أحد الذين تخرجوا في المدرسة الجهادية للإنقاذ وشاركوا في أهم معارك الدفاع الشعبي في تصريحات صحفية نشرتها عدة وسائل إعلام سودانية، أن المقارنة أقرب بين الدفاع الشعبي وحزب الله في لبنان، مؤكدًا أن حزب الله قد استمد تجربته وتشكل على غرار قوات الدفاع الشعبي في السودان، ولكن الفارق أن الدفاع الشعبي في السودان لا يعتمد على رجل واحد كحزب الله متمثلاً في أمينه العام.
ويظهر ذلك أيضًا في العلاقات المتينة بين السودان وإيران ومحاولة استلهام تجربة إيران بالسودان بعد الحصار الاقتصادي الأمريكي، حيث يعتبر قادة الإنقاذ أن إيران هي شريك لثورة الإنقاذ.
وفيما يبدو أنه لولا الضغوطات الخليجية على النظام السوداني لكان لإيران دورًا أكبر من ذلك في السودان، وخصوصًا في تشكيل المؤسسات الأمنية والتي ساهمت بالفعل في تدريبها بأوائل حكم الحركة الإسلامية في التسعينيات.
وبدأ الدفاع الشعبي يتضح دوره المستنبط من دور الحرس الثوري الإيراني في مسائل الحفاظ على أمن النظام من محاولات الانقلاب عليه ووأد أي تحركات من الممكن أن تتخذ ضده؛ وبالفعل فقد ساهم الدفاع الشعبي في عمليات إحباط مخططات انقلاب على نظام البشير في غير مرة كانت أبرزها في عام 2001 فيما عرف بانقلاب الدفعة 40 حربية.
كذلك دور القوات الشعبية في التظاهرات التي شهدتها السودان في الجامعات في الآونة الأخيرة ضد النظام لم يكن خافيًا، حيث يعتبر الطلاب المحتجون أن من يشتبك معهم هم طلاب موالون لقوات الدفاع الشعبي وهو ما يجعل ذلك أشبه بالفعل لما يحدث في إيران من حشد أيدلوجي لحماية النظام من أية إصلاحات.
وبهذا الصدد علينا معرفة أن تربية النشء المتطوع في قوات الدفاع الشعبي تجعله يعتبر نفسه ابنًا لهذا النظام فينشأ في خدمته ومستعدًا لحمايته؛ وهو ما يستفيد منه النظام باستخدامه كأحد أذرعه المسلحة فتربية الولاء هذه لا تختلف عن تربية الولاء لدى الصغار في إيران منذ شروعهم في الانضمام للحرس الثوري الإيراني، حيث يتم تشبيعهم بمفاهيم حماية الجمهورية الإسلامية وثورتها وهو ما يُظهر تطابقًا بين التجربتين لا ينكره أحد من المراقبين.
وهذا لا ينفي أن هناك العديد من الشباب السوداني قد انضم لهذه القوات تحت تأثير دعايا الجهاد والاستشهاد، وبالفعل فقد خاضت قوات الدفاع الشعبي العديد من الحروب الداخلية والتي قتل على إثرها آلاف الشباب المتطوعين برغبتهم دون إكراه؛ ما جعل حركات سياسية سودانية تدعو لوضع جهاز الدفاع الشعبي تحت رقابة الجيش مباشرة لعدم استخدامه كميلشيات خاصة بحزب المؤتمر الوطني الحاكم، خصوصًا وأن كثيرًا من شباب السودان قدم تضحيات بالفعل في الحروب التي خاضتها القوات ولا يمكن لأحد أن يحولها إلى مليشيات سياسية.
في حين أن قوات الدفاع الشعبي لم تتوافر مصادر علمية تدرسها بالسودان إلا بعض كتابات منظمة الهيومن رايتس واتش، كذلك الدراسة الأعمق التي تناولت تأسيس قوات الدفاع الشعبي والتي أعدها الباحث الدكتور “ياجو سالمون” تحت مسمى ثورة المنظمات شبه العسكرية والتي تعد مرجعًا لفهم طبيعة تكوين الدفاع الشعبي السوداني ووظيفته، ولكنه أشار فيها إلى أن لا أحد يعرف تعداد هذه القوات بالتحديد ولا المهام الموكله إليها بالضبط مع بدأ ظهور دور الدفاع الشعبي السوداني في مؤازة النظام أمام أي انتفاضة مدنية في ظهورها أثناء الاضطرابات السياسية، حيث تنتشر في ذلك الوقت في المناطق الحيوية بالسودان وحول القواعد العسكرية تحسبًا لأي محاولات للإطاحة بنظام الحركة الإسلامية الذي أصبح الدفاع عنه عقيدة لدى البعض، فيما تنتشر القيادات المدنية أيضًا كمنسقين للدفاع الشعبي في الحضر والجامعات كأبناء للنظام ومدافعين عنه وحاشدين له في الأزمات التي يمر بها، خصوصًا مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في العقود الأخيرة وازدياد الاحتقان الشعبي على الحكومة؛ ما يجعل للدفاع الشعبي دورًا أكبر في مواجهة ذلك، وهو ما سنتناوله بالتفصيل على مر حلقات فتح الصندق الأسود المجهول لقوات الدفاع الشعبي في السودان.
هذا المقال يأتي ضمن ملف “السودان من الداخل”