تمثّل عملية إعادة تأهيل المتطرفين العنيفين أحد أبرز التحديات التي تواجهها الحكومات في مرحلة ما بعد الحرب، أو أثناء وقوع هؤلاء المتطرفين العنيفين في ظروف الأسر والاعتقال خلال الحروب، إذ تحتاج عملية إعادة التأهيل جهودًا كبيرة، قد تفوق في بعض الأحيان الجهد الحربي لمواجهتها.
حيث تشير العديد من التجارب الدولية إلى أنه حتى هذه اللحظة لم تستطع جهود إعادة التأهيل الوصول إلى نتائج حاسمة، رغم وجود بعض التقارير التي تتحدث عن أن موضوع النجاح أو الفشل لا يتعلق بصورة رئيسية ببرامج إعادة التأهيل، بل بنوعية المتطرّفين العنيفين الذين يخضعون لهذه البرامج، فهناك من هو متطرف أيديولوجي أو متطرف قومي أو متطرف يمتلك نزعة الانتقام، وهي أنواع تؤدّي دورًا مهمًّا في تحديد فرص نجاح أو فشل هذه البرامج.
وفي ما يتعلق بالعراق باعتباره محور الدراسة، فقد ساهمت ظروف عدم الاستقرار الأمني والصراع السياسي وغياب الفرص الاقتصادية والتفكك الاجتماعي، في تأدية أدوار مهمة لخلق بيئة مناسبة لولادة الفكر المتطرف، أو توفير بيئة حاضنة لهذا الفكر، كجزء من حالة ردّ فعل دينامي لمواجهة حالة الإقصاء والتهميش التي سادت في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
وعلى الرغم من تبايُن أهداف الجماعات المتطرفة في العراق، وتحديدًا السنّية منها، إلا أن نظرةً بسيطة إلى ظروف إعادة التأهيل التي خضع لها عناصر هذه التنظيمات، كالقاعدة ومن ثم “داعش”، تشير إلى أن البرامج التي تمَّ تطبيقها لم تضع حدًّا لهذه المعضلة التي يعاني منها العراق.
إذ حرصت الولايات المتحدة على تطبيق برامج لإعادة تأهيل المتطرفين في العراق، وتحديدًا في السجون التي كانت تديرها القوات الأمريكية، إلا أن هذه البرامج لم يكتَب لها النجاح، بسبب طبيعة الظرف السياسي الذي عاشه العراق بعد الغزو، وكذلك سرعة انسحاب القوات الأمريكية من العراق، إلى جانب الفساد السياسي والإداري الذي انتقل إلى داخل السجون العراقية، كل هذه الأسباب ساهمت في عرقلة التوصُّل إلى نتائج حاسمة، بل أصبحت السجون بؤرة مهمة لتجنيد المزيد من المتطرفين العنيفين الذين التحقوا فيما بعد بـ”داعش”، بدلًا من إعادة اندماجهم بالمجتمع المحلي.
حالة “داعش” تمثل ترجمة عملية لفشل برامج إعادة تأهيل المتطرفين في العراق، ورغم التداعيات الخطيرة التي أفرزها صعود التنظيم، وما نجم من الحرب عليه، إلا أن أسباب وجوده أو حتى عودته ما زالت موجودة.
إن تفاقُم هذه المعضلة يشير بما لا يقبل الشك إلى أن إصرار الحكومات العراقية المتعاقبة على المعالجات الأمنية لها، دون أن تكون هناك معالجات سياسية واقتصادية واجتماعية، سيجعل منها حالة مستمرة بل ناشطة في العراق، فالأسباب التي أفشلت برامج إعادة تأهيل المتطرفين العنيفين، وساهمت في صعود “داعش”، ما زالت فاعلة في الساحة العراقية.
حيث إن ظروف ما بعد تحرير المدن من سيطرة التنظيم ما زالت توفر بيئة مناسبة لعودة التطرف، كما أن غياب برامج فاعلة لإعادة تأهيل عناصر “داعش” في السجون العراقية قد تمكّنهم من تجنيد مقاتلين آخرين يمكن أن يستفاد منهم التنظيم بعد الإفراج عنهم، ومن ثم يحملُ هذا الواقع في طياته مخاطر كبيرة قد يواجهها الأمن الوطني العراقي في المرحلة المقبلة، مع عودة نشاط عمليات التنظيم على أطراف المدن والقرى، أو حتى على طول الحدود العراقية السورية.
إن العراق بوصفه دولة عاشت تجربة مريرة مع “داعش”، يحتاج لبناء استراتيجية واضحة المعالم لاحتواء حالة التطرف في العراق، بشقَّيها السنّي والشيعي، خصوصًا أن هناك تجارب عديدة لدول أخرى تمكّنت وعبر برامج مدروسة من أن تصل إلى نتائج جيدة، وتحديدًا في السعودية وفرنسا وألمانيا.
كما أنها خفّفت من مخاطرها عبر إعادة تأهيل المقاتلين العائدين من ميادين القتال، أو ممّن تمَّ القبض عليهم قبل التحاقهم بـ”داعش”، أو ممّن تمَّ تسليمهم إلى بلدانهم بعد أسرهم واعتقالهم، فممّا لا شكّ فيه أن استمرار هذه المعضلة سيجعل منها حالة مرتبطة بالوضع العام في العراق، كما أنها ستكون مدخلًا لولادة مزيد من الأزمات السياسية والأمنية والاجتماعية في البلاد.
وفضلًا عمّا تقدم، فإن هناك أسبابًا أخرى تدعوا الحكومات العراقية للبحث عن استراتيجية جديدة لإعادة تأهيل المتطرفين العنيفين في العراق، فإلى جانب الأسباب الداخلية المتمثّلة بغياب الأنظمة الفاعلة للسجون والكوادر الكُفؤة والبيئة المناسبة، هناك أسباب خارجية تتعلق بالتدخلات الخارجية في العراق، والتي أضعفت السيادة العراقية وجعلتها عرضة للانتهاك المستمر، وتحويل العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات مع التنظيمات المتطرفة.
والحديث هنا لا يقتصر على تنظيم “داعش” فحسب، وإنما يشمل تنظيمات أخرى كالفصائل المسلحة الشيعية وتنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) وغيرهما، والتي أدّت بشكل أو آخر إلى دخول عشرات المقاتلين للداخل العراقي، ما تسبّب في تفاقم المعضلة الأمنية بالعراق.
إجمالًا، إن حالة “داعش” تمثل ترجمة عملية لفشل برامج إعادة تأهيل المتطرفين في العراق، ورغم التداعيات الخطيرة التي أفرزها صعود التنظيم، وما نجم من الحرب عليه، إلا أن أسباب وجوده أو حتى عودته ما زالت موجودة، وهو ما يدفع للقول بضرورة إعادة صياغة استراتيجية جديدة لإعادة تأهيل المتطرفين العنيفين في العراق، من أجل وضع نهاية لمسبّبات وجود هذا التنظيم، وكذلك من أجل إعادة دمج هؤلاء المتطرفين، وتحويلهم إلى عناصر فاعلة في المجتمع.
الموجة الأولى للفشل: بعد عام 2003
بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ونتيجة لحالة الفراغ الأمني التي عانى منها العراق جرّاء السياسات الأمريكية المتمثلة بحلّ الأجهزة الأمنية والاستخباراتية العراقية، وما نجم عن ذلك من فوضى أمنية شهدها العراق، نجح أبو مصعب الزرقاوي، الذي جاء إلى العراق عبر الحدود الإيرانية قادمًا من أفغانستان، في تأسيس جماعة التوحيد والجهاد التي ستُعرَف فيما بعد باسم الدولة الإسلامية في العراق، والتي انتشرت في مدن شمال العراق وتحديدًا في نينوى والأنبار وصلاح الدين، فالزرقاوي قبل عام 2003 كانت تجمعه علاقة وثيقة بجماعة أنصار الإسلام المتطرفة، إذ لم يكن قياديًّا بارزًا في القاعدة حتى ذلك التاريخ.
وخلال فترة ما بعد عام 2003، دخلت جماعة التوحيد والجهاد التي أسّسها الزرقاوي في تنافس شديد مع العديد من التنظيمات المسلحة التي شهدتها الخارطة السنّية في العراق، والتي كانت تشمل العديد من الضبّاط والبعثيين الذين شُملوا بالإجراءات الأمريكية المتمثلة بإبعادهم عن المناصب الحكومية التي كانوا يشغلونها في ظلّ نظام صدام حسين، هذا بالإضافة إلى بعض التنظيمات المتطرفة التي بدأت تجد طريقها نحو العمل المسلح النشط، وتحديدًا أنصار الإسلام.
ونظرًا إلى نجاح الشيعة في السيطرة على مفاصل الحكم في العراق، مستفيدين من السياسات الأمريكية والدعم الإيراني، استطاع الزرقاوي أن يوجد مبررات لتوسيع نشاطه، واعتماد سياسات متطرفة حيال الوضع الجديد، مستفيدًا من نقمة المجتمع السنّي على الوضع العراقي بعد الغزو، حيث ساهمت سلوكيات الزرقاوي في تأجيج الوضع الطائفي عبر تعزيز التمرد السنّي، ما أدّى إلى دخول العراق موجات متصاعدة من العنف المسلح.
وفي الوقت الذي أخذت فيه التنظيمات المسلحة السنّية الأخرى، وتحديدًا كتائب ثورة العشرين والجيش الإسلامي وغيرهما، ترفع شعار مقاومة الاحتلال الأمريكي، أخذ الزرقاوي يعتمد استراتيجية مغايرة تتمثّل في تأسيس وضع جديد للسلفية الجهادية في العراق، بعد خسارة أرض التمكين في أفغانستان، إذ أدّت السلوكيات التي اعتمدها الزرقاوي إلى انعكاسات خطيرة عانى منها المجتمع السنّي، عبر معارك الفلوجة الأولى والثانية، واعتقال المئات من أبناء المجتمع السنّي بتهمة الإرهاب، فضلًا عن الارتدادات السلبية للحرب الطائفية، وإظهار تنظيمه بأنه المدافع الشرعي الوحيد عن المجتمع السنّي.
بعد سيطرة الزرقاوي على مدينة الفلوجة التي تتبع لمحافظة الأنبار، مارسَ سياسة متطرفة ضد التنظيمات السنّية الأخرى التي لا تتبع النهج السلفي، وأجبر العديد من عناصرها على الانضمام لتنظيمه، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2004 أعلن الزرقاوي عن تغيير اسم التنظيم من “تنظيم التوحيد والجهاد” إلى “تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين”، وأعلن الولاء لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.
حيث منح هذا الأمر الزرقاوي سمعة مهمة لدى التنظيمات الجهادية السلفية في الميادين الأخرى، وأصبح القائد الفعلي لدى أغلب التنظيمات المسلحة في العراق، وتحديدًا السلفية منها، والأكثر من ذلك منحه الوضع الجديد دفعة قوية للمضيّ قدمًا في تنفيذ عمليات انتحارية شرسة، طالت العديد من الأهداف المدنية والعسكرية في العراق، وكان أخطرها استهداف مقرّ الأمم المتحدة في العراق عام 2004.
أدّت ظروف الحرب التي تشهدها سوريا منذ عام 2011، إلى توفير بيئة آمنة للعديد من التنظيمات المتطرفة، ومنها القاعدة و”داعش” وجبهة النصرة.
كان للدور الذي لعبه الزرقاوي في ترسيخ تقاليد تنظيمية وإدارية للقاعدة في العراق، كما هو الحال مع قيادات القاعدة الأخرى التي جاءت بعد الزرقاوي، كأبو أيوب المصري وأبو عمر البغدادي، هو ما استفاد منه أبو بكر البغدادي بعد أن سيطر تنظيم “داعش” على مدينة الموصل في يونيو/ حزيران 2014، سواءً على المستوى الإداري والاقتصادي والعشائري، وهو ما منح تنظيم القاعدة ومن بعده “داعش” استقلالية عن التنظيمات الجهادية السلفية الأخرى.
إذ أصبح الهيكل الإداري الذي طوّره الزرقاوي في تنظيم القاعدة، عبر تقسيم المدن إلى إمارات وولايات، فضلًا عن تأسيس اقتصاد أسود قائم على التهريب والإتاوات، والتركيز على وسائل الدعاية والإعلام، إلى جانب دمج العشائر المحلية بصورة أوسع في صفوف التنظيم، بمثابة أساسيات استفاد منها أغلب التنظيمات الجهادية فيما بعد، ومنها تنظيم “داعش”.
واجه الزرقاوي قبل مقتله عام 2006 تحديَين مهمَّين في الوسط السنّي، تمثل الأول في مشاركة السنّة في العملية الانتخابية التي جرت أواخر عام 2005، وهو ما اعتبره تحولًا مهمًّا في المزاجية السنّية نحو مزيد من الثقة بالحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة، أما التحدي الثاني فكان بالدور الذي لعبته الولايات المتحدة في تأسيس صحوات عشائرية في المدن السنّية، مثّلت فيما بعد رأس الرمح الأمريكي في مواجهة عناصر التنظيم في المدن السنّية.
دفعا هذان التحديان الزرقاوي عام 2006 إلى تفجير مرقدَي الإمامَين العسكريَّين في سامراء، ما ساهم في اندلاع حرب طاحنة بين السنّة والشيعة حتى عام 2008، ورغم نجاح الزرقاوي من تقديم نفسه كمدافع عن السنّة في هذه الحرب، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق أهدافه الأخرى، حيث تمكّنت القوات الأمريكية من قتله، ليدخل التنظيم في مرحلة جديدة.
كان من المأمول تغيير الوضع في العراق بشكل إيجابي، أو حتى في إمكانية أن يؤدي مقتله إلى أن ينهار تنظيم القاعدة في العراق بعد إقصاء قادته، وهو ما لم يتحقق، حيث اختار مجلس شورى المجاهدين في تنظيم القاعدة أبو أيوب المصري خلفًا للزرقاوي، وعقب قيادة المصري لفرع القاعدة سعى لتأسيس دولة العراق الإسلامية بالتنسيق مع ضابط آخر في الجيش العراقي السابق كان يُدعى أبو عمر البغدادي، الذي استطاع السيطرة على مجلس شورى المجاهدين، المكوّن من سرايا الجهاد وأنصار التوحيد والطائفة المنصورة وجيش أهل السنّة والجماعة، وغالبيتهم ضباط سابقين بالجيش العراقي السابق.
بعد الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، نجحت القاعدة في إعادة تنظيم نفسها على طول الحدود العراقية السورية، كما نجحت في تحويل المناطق الصحراوية وأطراف المدن إلى قواعد تتمركز بها، وتحديدًا مدن الأنبار ونينوى وصلاح الدين، ورغم قيام الولايات المتحدة بإعادة جزء من قواتها إلى العراق على شكل مستشارين ومتعاقدين لوضع حد للهجمات المسلحة، إلى جانب دور الصحوات العشائرية في المدن السنّية، إلا أن هذه الاستراتيجية لم تنجح في إعاقة عمليات التنظيم، كما سهّلت عملية هروب عشرات السجناء من سجن التاجي ومطار المثنى، كان جزء كبير منهم قيادات في تنظيم “داعش” فيما بعد، ما شكّل دورًا كبيرًا في إعطاء التنظيم دفعة معنوية.
أدّت ظروف الحرب التي تشهدها سوريا منذ عام 2011 إلى توفير بيئة آمنة للعديد من التنظيمات المتطرفة، ومنها القاعدة و”داعش” وجبهة النصرة، ورغم أن الظهور الأول لـ”داعش” كان في سوريا، إلا أنه نظرًا إلى كون أغلب قيادات التنظيم وعناصره، من العراقيين، حاول التنظيم مرارًا نقل عملياته للعراق، وهو ما تحقق عندما نجح تنظيم “داعش” في السيطرة على مدينة الموصل شمال العراق في يونيو/ حزيران 2014، ليعلن عن قيام “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
الموجة الثانية للفشل: عام 2014
رغم الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في تطوير عدة آليات لمواجهة التطرف في العراق، سواء على مستوى تطوير وتدريب الأجهزة الأمنية العراقية، أو على مستوى توفير بيئة آمنة للمصالحة الوطنية، إلا أنه على الجانب الآخر كانت هناك متغيرات جديدة بدأت تجدُ طريقها للحالة العراقية.
ففي الوقت الذي مثّلت فيه تجربة الصحوات العشائرية التي شكّلتها القوات الأمريكية بمثابة أول تحول فعلي لمواجهة القاعدة، إلا أنه في الوقت ذاته كانت السياسات التي اعتمدتها حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الأولى والثانية بمثابة حجر عثرة في طريقها، إذ نجح في استخدامها لمواجهة التنظيم، لينقلب عليها فيما بعد عبر حلّها وسحب سلاحها، وهو ما وضع هذه الصحوات في موقف صعب للغاية، حيث أصبح العديد من شيوخ العشائر في الأنبار وصلاح الدين ونينوى هدفًا لـ”داعش” بعد سيطرته عليها.
وفي السياق ذاته ساهمت إجراءات أخرى مارستها حكومة المالكي، كاستخدام المخبر السرّي، وتفعيل المادة الرابعة من قانون مكافحة الإرهاب بشكل أحادي الجانب، والاعتقالات العشوائية، والتهميش الواسع النطاق للعرب السنّة من المناصب الحكومية عبر هيئة اجتثاث البعث، في تعزيز حالة تمرد واسعة في المجتمع السنّي، في الوقت الذي تغاضت فيه هذه الحكومة عن سلوكيات العديد من الجماعات الشيعية المتطرفة، أو العناصر الشيعية المشمولة بإجراءات اجتثاث البعث أيضًا، حيث عزز هذا التعامل الازدواجي لحكومة المالكي من فرص عودة التطرف مرة أخرى للمجتمع السنّي، وهو ما تمّت ترجمته بصورة واضحة عام 2014.
وفي الوقت الذي حاول فيه المالكي مسح الصورة الطائفية عنه عبر ضرب جيش المهدي، الذراع العسكرية التابعة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر عام 2008، فيما عُرف آنذاك بـ”صولة الفرسان”، إلا أن هذا الأمر لم يستمر طويلًا، إذ عاد المالكي ليمارس سياسات أكثر إقصاءً عبر التحايل الدستوري على حق القائمة العراقية التي فازت بأغلبية عدد مقاعد مجلس النواب في الانتخابات العامة عام 2010، التي تكونت في غالبيتها من العرب السنّة، ولم يكتفِ المالكي بذلك حيث لاحق العديد من القيادات السنّية التي أصبحت جزءًا من حكومته فيما بعد، عبر اتهامها بدعم الإرهاب في العراق.
أثارت هذه السياسات حفيظة المجتمع السنّي، وعقّدت من جهود السلم الداخلي، وعرقلت آليات إعادة دمج المجتمع السنّي ضمن النظام الجديد، وهو ما أدّى بالنهاية إلى نشوء حركة احتجاجية شملت المدن السنّية الستة في شمال وغرب العراق، والتي طالبت بتصحيح السياسات الحكومية، وإعادة النظر في تعريف الإرهاب في العراق.
وفي الوقت الذي لم تتجاوب فيه حكومة المالكي مع مطالب هذه المدن، نجح عناصر “داعش” في استثمار هذه الاحتجاجات، عبر شنّ الهجمات على عناصر الجيش العراقي، ما أدى في نهاية المطاف إلى تحويل هذه الحركة الاحتجاجية إلى مواجهة مسلحة، أثمرت بالنهاية عن صعود “داعش” للواجهة.
حيث كان عبور مئات الأرتال العسكرية لعناصر “داعش” من الحدود السورية نحو الفلوجة في يناير/ كانون الثاني 2014، ليتمَّ بسط السيطرة عليها، بمثابة تحول خطير جعل حكومة المالكي تتخبّط في طريقة التعامل مع الوضع الجديد، خصوصًا بعد انسحاب القوات الأمنية العراقية، وعدم وجود فعلي للقوات الأمريكية، ورغم محاولة المالكي لاستخدام القوة، إلا أنه لم يتمكن من احتواء الموقف، خصوصًا أن المظالم السنّية وجدت طريقها هذه المرة نحو “داعش”.
نجح تنظيم “داعش”، في يونيو/ حزيران 2014، في السيطرة على ثاني المدن، الموصل، وليواصل تقدمه نحو المدن الأخرى كصلاح الدين وديالى، وخلال تقدمه ارتكب العديد من المجازر، والتي كان أبرزها مجزرة سبايكر التي راح ضحيتها 1700 جندي عراقي، ليؤسّس لصورة متوحشة في العراق قد تطال كل من يقف أمامه.
وفي هذا السياق نجح التنظيم أيضًا في السيطرة على الحقول والمصافي النفطية والمعابر الحدودية مع سوريا، هذا إلى جانب استحواذه على ملايين الدولارات في المصارف الحكومية في هذه المدن، وفي هذا الإطار طلبت الحكومة العراقية مساعدة المجتمع الدولي على مواجهة التنظيم، وهو ما تمّ، عبر تشكيل “تحالف دولي ضد تنظيم “داعش””، لتبدأ عمليات مواجهة التنظيم التي استمرت 3 سنوات.
كما أدّت سيطرة “داعش” إلى قيام المرجع الشيعي الأعلى، علي السيستاني، بإطلاق فتوى الجهاد الكفائي، التي أسفرت عن تشكيل ما يُعرَف اليوم بـ”الحشد الشعبي”، المكوّن من فصائل مسلحة يتبع أكثرها إيران من حيث الولاء والارتباط، وهنا أيضًا وجدت إيران الفرصة سانحة للتدخل وتعزيز نفوذها داخل العراق، عبر دعم جهود حلفائها في دحر “داعش”، وكذلك تأمين ممرّ برّي يربطها بحلفائها في سوريا ولبنان.
أسفرت هذه المتغيرات عن تعزيز التصور السنّي في مرحلة ما بعد “داعش”، بأن موجة التطرف لن تنتهي دون أن تكون هناك إجراءات عملية تعيد ثقة السنّة بالعملية السياسية، فالأسباب التي دفعت “داعش” للظهور والسيطرة ما زالت موجودة في المجتمعات السنّية.
ممّا لا شك فيه أن أحد الأسباب الجوهرية لاستمرار موجات الفشل في وضع حدّ للتنظيمات المتطرفة في العراق، ومنها “داعش”، هي أن هذه الأسباب نابعة من مشاكل اجتماعية واقتصادية ساهمت بطريقة أو أخرى في إيجاد بيئة لنموّ الجماعات المتطرفة.
إذ لم تسفر الحرب في مرحلة ما بعد “داعش” عن نهاية المظالم السنّية، بل زادتها تعقيدًا، إذ ما زالت أعداد كبيرة من المجتمع السنّي لا تستطيع العودة إلى المدن التي نزحت منها، إلى جانب أعداد كبيرة من النازحين واللاجئين، فضلًا عن سيطرة الفصائل المسلحة الشيعية على مدن بأكملها، وما رافقها من عمليات تغيير ديموغرافي.
هذا ناهيك عن المكاتب الاقتصادية التي افتتحتها هذه الفصائل في المدن المحررة من سيطرة “داعش”، والتي تمارس عمليات السيطرة على التجارة والاقتصاد والأعمال، وفرض إتاوات مالية على المشاريع والاستثمارات، ما دفع سكان هذه المدن إلى المطالبة بإخراج هذه الفصائل منها بسبب الإجراءات التي تقوم بها.
يمثل “داعش” تحولًا مهمًّا على مستوى التنظيمات المتطرفة، فهو أثبت حتى هذه اللحظة القدرة على التكيُّف السريع مع التحديات التي يتعرض لها، سواءً بعد هزيمته بالعراق، أو مقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، حيث اعتاد “داعش” على التكيف بسرعة استثنائية مع الصدمات والتفكّكات التنظيمية التي ألمّت به بعد مقتل خلفاء وقيادات كبيرة له.
لذا من الضرورة بمكان فهم العوامل التي يستند عليها هذا التنظيم والتي تبقيه متماسكًا كلما انحدر نحو الهاوية، وخسر أحد معاركه الكبيرة أو سقط أحد قيادات الصف الأول لديه، حيث إن تنظيم “داعش” هو منتَج معقّد تطوّرَ بسرعة فائقة وفرض نفسه بقوة في ظروف استثنائية، ويمثل طفرة حقيقية مقارنة بالجماعات الجهادية الإرهابية الأخرى، كونه يستند على محركات أساسية تطبيقية لا يحيد عنها سواء قويت شوكته أو ضعفت.
إضافة إلى ذلك، يتبع التنظيم بشكل صارم استراتيجية طويلة الأمد مرسومة على شكل خطط مدروسة، يقوم بمراجعتها وتطويرها بشكل مستمر، بحيث تتواكب مع الأوضاع المحلية والإقليمية المتغيرة، وتساهم في حماية التنظيم من الاندثار، فمثلًا تطبيق مبدأ اللامركزية في العمليات الميدانية يعطي للقيادات العسكرية حرية كبيرة في تنفيذ عمليات إرهابية تراها مناسبة طبقًا للظروف المحيطة بها، بل أن اللامركزية توسّعت وبشكل كبير نحو إطلاق يد القادة الميدانيين لتأمين قسط كبير من التمويلات المالية، وتعزيز عمليات التجنيد الأفقية في المجتمعات التي يعيشون فيها.
أما فيما يخص المحرك الأيديولوجي للتنظيم، فإنه يستند إلى أنه فقه جهادي خاصّ، وهو فقه هجين مستحدَث وغير مقنَّن كتلك المعمول بها لدى تنظيم القاعدة، فـ”داعش” يعتمد وبشكل كبير على كتاب من فقه الجهاد لشخص يدعى أبو عبد الله المهاجر، وهو فقه يبيح قتل كل شخص وفي أي وقت ولأي سبب بغية الوصول إلى الخلافة المنشودة.
ورغم إعلان القوات الأمنية العراقية بين حين وآخر تنفيذ عمليات عسكرية لملاحقة الخلايا النائمة التابعة للتنظيم المتطرف في مناطق نائية، إلا أنها لم تتمكن لغاية اليوم من الحد من هجماته، حيث إن هذه العمليات لم تحقق أهدافها كاملة، لأن التنظيم يعمل بجماعات منفردة لا مركزية تتنقّل هنا وهناك، كما أن العمليات الأمنية دائمًا ما تستند إلى معلومات استخباراتية بشأن أماكن التنظيم، لكنها بالنهاية مناطق نائية وواسعة جدًّا ومترامية الأطراف، ومن السهولة لعناصر التنظيم التخفي فيها.
حيث إن العمليات الأمنية التي تشنّها القوات العراقية باتت تقليدية، إذ أنه يجب ألّا نتكلم فقط عن استراتيجية أمنية وعسكرية، بل أصبحت الضرورة ملحّة لبناء استراتيجية جديدة لمواجهة الفكر المتطرف، حيث إن المقاربة الأمنية المحلية وحدها ليست كافية للقضاء عليه، فالعراق يحتاج إلى جهد دولي وإقليمي ومؤسسات الدولة بالكامل من أجل الحدّ من قدرات التنظيم وإنهائها بشكل كامل.
ففي تقرير صدر مؤخرًا للأمم المتحدة، أشار إلى أن “داعش” ما زال يحافظ على وجود سرّي كبير في العراق وسوريا، ويشنّ تمردًا مستمرًّا على جانبَي الحدود بين البلدَين مع امتداده على الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقًا، وأضاف التقرير أن التنظيم ما زال يحتفظ بما مجموعه 10 آلاف مقاتل نشطٍ في العراق وسوريا.
ويضاف إلى ما تقدم، أنه ممّا لا شك فيه أن أحد الأسباب الجوهرية لاستمرار موجات الفشل في وضع حدّ للتنظيمات المتطرفة في العراق، ومنها “داعش”، هي أن هذه الأسباب نابعة من مشاكل اجتماعية واقتصادية ساهمت بطريقة وأخرى في إيجاد بيئة لنموّ الجماعات المتطرفة.
ومع استمرار هذه المشاكل، يحاول “داعش” الاستمرار بالاستفادة من استياء العرب السنّة، الذين قد يجدون بالعنف أو دعمه وسيلة لتصحيح الأوضاع التي استجدّت بعد دحر “داعش”، والتي يأتي في مقدمتها تصاعد الهيمنة الإيرانية، والدمار المستمر في المدن السنّية، والافتقار للفرص الاقتصادية، وضعف سلطة الدولة في حصر السلاح، ووضع حد لسلوك الفصائل المسلحة.
قصور أم غياب الرؤية؟
بالتوافق مع حالة الفشل السياسي التي كان يمرّ بها العراق، بفعل الوضع الأمني المتأزّم والسياسات التي كانت تعتمدها حكومة المالكي، إلا أن ذلك لم يمنع من بذل جهود لإعادة تأهيل المتطرفين العنيفين الذين كانوا يقبعون في السجون العراقية، إذ بذلت الولايات المتحدة جهودًا حثيثة في هذا السياق.
ففي عام 2007 قاد قائد السجون الأمريكية في العراق، دوغلاس ستون، برنامجًا واسعًا لإعادة تأهيل المتطرفين، عبر ما عُرف في ذلك الوقت ببرنامج التنوير الديني، وكان البرنامج يهدف إلى معالجة وضع المعتقلين في السجون الأمريكية عبر إعادة تأهيلهم تعليميًّا وفكريًّا، فضلًا عن إعادة احتكاكهم برجال دين معتدلين وأطباء نفسيين، من أجل تعريفهم إلى الإسلام المعتدل وإبعادهم عن الفكر السلفي الجهادي.
وفي هذا الإطار أيضًا قامت الولايات المتحدة بافتتاح سجون للأحداث في سبتمبر/ أيلول 2007، لمعالجة وضع الأطفال ممّن هم دون 18 عامًا، وإعادة دمجهم في المجتمعات التي وُجدوا فيها، خصوصًا أنهم كانوا خاضعين لأدلجة عقائدية أكثر تشددًا من كبار السن.
وكان هدف الولايات المتحدة هو تحييد الأطفال عن محاولات التنظيمات المتطرفة، وتحديدًا تنظيم القاعدة، إلا أنه بعد نقل السجون التي كانت تديرها الولايات المتحدة إلى الحكومة العراقية بموجب اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقّعة في ديسمبر/ كانون الأول 2008، ورغم بقاء السياقات ذاتها التي كان معمول بها في التعاطي مع المتطرفين، إلا أنها أظهرت نجاحًا محدودًا، وهو ما أثبتته عملية انضمام العديد من المتطرفين الذين تمَّ الإفراج عنهم في وقت لاحق إلى “داعش”.
وممّا لا شك فيه كانت هناك العديد من الأسباب التي وقفت خلف إخفاق هذه البرامج، أبرزها سرعة تسليم إدارة السجون التي كانت تديرها الولايات المتحدة إلى الحكومة العراقية، دون أن تقوم بتهيئة كوادر عراقية قادرة على إدارة وتنظيم البرامج التي كانت تعمل بها الولايات المتحدة، فضلًا عن إهمال وضع السجون العراقية التي أصبحت بؤرة للابتزاز والمساومة مع عوائل المعتقلين، أكثر من الاهتمام بإصلاح وضعهم.
هذا إلى جانب عمليات الاعتقال العشوائي التي كانت تقوم بها الحكومة العراقية، ما سهّل على المتطرفين تجنيد الآلاف داخل السجون، إلى جانب محدودية الدور الذي كان يقوم به رجال الدين، حيث لم يكونوا قادرين على التواصل مع المتطرفين العنيفين، وصعوبة التمييز بينهم، بسبب الفوضى التي كانت تدار بها السجون العراقية.
ويضاف إلى ما تقدم إقدام حكومة المالكي على إطلاق سراح مئات المتطرفين ممّن لم يتم إعادة تأهيلهم بشكل جيد عام 2008، بعد إقرار قانون العفو العام، إلى جانب انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011، ما سهّل على “داعش” إعادة تجنيدهم، واستغلال فترة بقائهم بالسجن عبر تكوين علاقات مع السجناء الآخرين الذين لم يكونوا متطرفين.
وبهذه الشاكلة أصبحت برامج إعادة تأهيل المتطرفين برامج غير مؤثرة، وأصبحت جزءًا من فعاليات عادية تقوم بها الحكومة العراقية من أجل جعلها نشاطًا يمكن أن يحجب عنها الانتقادات الدولية، وتحديدًا المعنية بحقوق الإنسان، فحتى لحظة ظهور “داعش” لم يكن هناك أي أثر عملي لبرامج إعادة تأهيل المتطرفين التي كان يُعمَل بها في السجون العراقية.
إن غياب نظام الرصد والمتابعة داخل السجون العراقية، والذي يهدف إلى متابعة أنشطة السجناء المتطرفين وتقييد حركتهم واحتواء الفكر الجهادي، وفّر للمتطرفين حرية حركة داخل السجون العراقية، إذ تشير العديد من التقارير إلى أن سجن الحوت (سجن الناصرية المركزي) وسجن بوكا (معسكر اعتقال أمريكي) لعبا دورًا كبيرًا في تجنيد آلاف المتطرفين الذين التحقوا بـ”داعش” فيما بعد.
حيث إن زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي الذي كان معتقلًا في سجن بوكا عام 2004، التقى بالعديد من القيادات المتطرفة في القاعدة آنذاك، وبعد خروجه من السجن بنى البغدادي علاقات وثيقة مع زعيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي، واختير عضوًا في مجلس الشورى للتنظيم.
وفي عام 2010 اختار مجلس الشورى أبو بكر البغدادي أميرًا جديدًا للتنظيم بعد مقتل أبو عمر البغدادي مؤسّس التنظيم وأميره، وفي عام 2013 عدّل البغدادي اسم التنظيم ليصبح “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، حيث يعتبر البغدادي نموذجًا مهمًّا لفشل برامج إعادة التأهيل، وغياب أنظمة الرصد والمتابعة داخل السجون.
في إطار جهود إعادة تأهيل المتطرفين في السجون العراقية، أطلقت حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي مشروع “سترايف” الجديد في العراق، من أجل منع العنف الذي ترتكبه الجماعات الإرهابية والمتطرفة ضد الأطفال والأحداث والتصدي له.
إن الإشكالية الأكثر خطورة هي المقاتلون الأجانب، إذ لا يقتصر أمر فشل برامج إعادة التأهيل على الواقع الداخلي في العراق، وإنما على متغيرات أخرى عكستها ظاهرة فشل الدولة ومشكلة السيادة في العراق، إذ أدّى ضعف سيطرة الحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003 في المنافذ الحدودية للعراق، إلى تسهيل عملية دخول عشرات المتطرفين الأجانب إلى العراق.
إذ تشير معلومات ميدانية إلى أن “داعش” يمتلك اليوم ما يقارب 50 نفقًا على طول الحدود العراقية السورية، والتي يستخدمها في عمليات التنقُّل على طرفَي الحدود، هذا إلى جانب فشل العديد من الدول، وتحديدًا الأوروبية منها، في تطوير سياسات فاعلة لمكافحة الإرهاب، يمكن أن تحدَّ من عملية تدفق المتطرفين إلى بلدان الشرق الأوسط، وتحديدًا العراق، إذ ما زالت السجون العراقية تضم معتقلين من عناصر “داعش” من فرنسا وبريطانيا وألمانيا، ورغم مطالبة الحكومة العراقية لها باستلام مواطنيها إلا أنها حتى الآن ترفض ذلك.
إن الدرس الرئيسي الذي يمكن استخلاصه من تجربة فشل برامج إعادة تأهيل المتطرفين في العراق، هو أنه يجب إرساء نوع من الرابط بين برامج إعادة التأهيل وإعادة الدمج، وبين خدمات إنفاذ القانون والاستخبارات، من أجل تقليص الخطر الناشئ عن محاولة إعادة دمج أشخاص متطرفين ومصمِّمين على إلحاق الأذى، ويشكّل مثل هذا التقييم للمخاطر أمرًا ضروريًّا، ليس في مرحلة استقبال الأشخاص فحسب بل في المراحل اللاحقة أيضًا، وذلك من أجل أن يؤخذ في الاعتبار إمكانية عودة الشخص ذي الصلة إلى درب التطرف أو قد يصبح أكثر تطرفًا، كما حدث على ما يبدو مع الأخوَين كواشي في فرنسا.
ولا بدَّ أيضًا من السؤال عن الدور الذي يجب أن يلعبه الدين في هذه البرامج، وقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، بوضوح خلال قمة مكافحة التطرف العنيف، إن الغرب لا يخوض مطلقًا حربًا على الإسلام، لكنه شدّد مع غيره من المسؤولين الأمريكيين الحاضرين على الحاجة إلى الوقوف بوجه الأفكار المتطرفة، من هنا تبرز أهمية التعامل مع قضايا كمسألة الهوية ونزوات البحث عن المغامرة وهالة “العصرية” المحيطة بالجهاد، في سياق وضع حدّ لتقبُّل الناس للأيديولوجيات الخطيرة، إلا أن الأيديولوجيا هي العامل الذي يدفع في النهاية شخصًا ما إلى تخطي حدود الخطابات والانخراط في أعمال عنيفة.
وفي إطار جهود إعادة تأهيل المتطرفين في السجون العراقية، أطلقت حكومة رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي مشروع “سترايف” الجديد في العراق، من أجل منع العنف الذي ترتكبه الجماعات الإرهابية والمتطرفة ضد الأطفال والأحداث والتصدي له، بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومكتب الأمم المتحدة المعنيّ بالمخدرات والجريمة.
كما يهدف المشروع لتطوير وتنفيذ استجابات وطنية شاملة لمنع ومكافحة الإرهاب والتطرف العنيف الذي يؤثر على الأطفال والأحداث، ويدعم تطوير استراتيجيات متماسكة تخدم وتحمي الأطفال والأحداث بشكل أفضل، من خلال تعزيز المجتمعات الآمنة والمرنة والبحث عن بدائل للملاحقة القضائية، عبر إعطاء الأولوية لتدابير إعادة التأهيل بهدف إعادة دمج الأطفال والأحداث في المجتمع، حيث صرّح سفير الاتحاد الأوروبي في العراق، مارتن هوث، قائلًا: “تدعم مبادرة الاتحاد الأوروبي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة “سترايف جوفينيل” الجهود المبذولة في العراق لحماية الأطفال من التهديدات المرتبطة بالإرهاب والتطرف العنيف”.
هل العراق بحاجة لاستراتيجية جديدة؟
بالنظر إلى الواقع الحالي في العراق، وتحديدًا على مستوى محاولات “داعش” للعودة من جديد، تدفع الضرورات الأمنية إلى أنه لا بدَّ من تطوير استراتيجيات جديدة لإعادة تأهيل المتطرفين العنيفين في العراق، فضلًا عن اعتماد آليات سياسية واجتماعية واقتصادية تهدف إلى تجفيف منابع التطرف العنيف، حيث إن توفير إدارات فاعلة للسجون العراقية، وتقييم المخاطر الناجمة عن إيقاف المتطرفين العنيفين في السجون، وإعادة تأهيلهم ومن ثم دمجهم في المجتمع المحلي، يمكن أن تساهم بطريقة أو أخرى في الحدّ من هذه المعضلة.
حيث إن تهيئة الظروف العامة في السجون العراقية كي تتماشى مع المعايير الدولية الدنيا، ووضع أنظمة فعّالة للتقييم والتصنيف، وتوفير الأمن المادي والإجرائي، وتدريب موظفي السجون المهنيين، والمعاملة المنصفة والإنسانية، ومنع بؤر الفساد، وفكّ الارتباط بين السجناء المتطرفين وغير المتطرفين، وتوفير حوافز اقتصادية بعد الإفراج عنهم، كلها عوامل تحتاج لبرامج عملية لتحقيقها، حيث إن اقتصار الجهد الحكومي على الجانب العقابي وحده لن يحقق النتيجة المرجوة من برامج إعادة تأهيل المتطرفين في العراق.
إن الحاجة لتطوير استراتيجيات إعادة تأهيل المتطرفين نابعة من المتغيرات الجديدة التي سادت في سلوك التنظيمات المتطرفة، حيث تستفيد الجماعات المتطرفة من التقدم الحاصل في وسائل التكنولوجيا للتواصل مع جيل جديد من الشباب المحبَط من الوضع السياسي في العراق، عبر الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب وغرف الدردشة الخاصة، ما يسهّل عليهم نشر دعايتهم الخاصة، بشكل أسهل وأسرع حتى من جهود الحكومة العراقية التي ما زالت محدودة في هذا السياق.
فمن خلال متابعة دور الحكومات العراقية بعد عام 2003، لم تحظَ فكرة العمل مع المتطرفين العنيفين من أجل فكّ ارتباطهم بالعنف سوى بالقدر الضئيل من الاهتمام، ربما باستثناء الوسائل التقليدية المتمثلة بالوسائل الردعية أو السجن، ففي الآونة الأخيرة أدركت بلدان كثيرة أنه لا يمكن وضع حد للعنف والإرهاب عبر الوسائل التقليدية فحسب.
كما أدركت أن الاعتماد على الوسائل القسرية قد تؤدي إلى نتائج أكثر خطورة، عبر توليد فرصة لنمو العنف المقابل، ولذلك يوجَّه الاهتمام على نحو متزايد إلى ابتكار وسائل أكثر فعالية وشمولية في فهم وإدارة مخاطر انضمام الأفراد إلى الجماعات المتطرفة أو عودتهم للانضمام إليها، إلى جانب استكشاف فرص فكّ ارتباط الأفراد بالجماعات المتطرفة، وإعادة إدماجهم بالمجتمع المحلي.
وفي ضوء المخاطر المتمثلة في كون السجون تشكّل مواقع محتملة لقيام السجناء المحكوم عليهم بجرائم لا تمتُّ إلى التطرف العنيف بصلة باعتناق التشدد المفضي إلى التطرف، وهي حالة منتشرة داخل السجون العراقية، ينبغي على السجون العراقية أن تطور وسائل فعّالة للحيلولة دون هذا، خصوصًا أن السجون قد تكون فرصة مناسبة لإعادة تأهيل الكثير من المتطرفين فكريًّا، ذلك أن الوقت الذي يقضيه المتطرفون في السجن قد يحدث تحولًا بعيدًا عن التطرف العنيف، بل يمكن أن يكون عاملًا محفزًا للتغيير الإيجابي.
ومع تكرار حالات هروب السجناء من السجون العراقية، وتحديدًا المنتمين للتنظيمات المتطرفة، فإن الإدارة السليمة للسجون تقلّل من فرص هروب السجناء المتطرفين العنيفين، والحد من سوء سلوكهم واتصالاتهم الخارجية غير الملائمة، كما يمكن لتحسين بيئة السجون أن يساعد بألّا تصبح السجون بيئة مناسبة لاعتناق السجناء الفكر المتطرف، كما أن عناصر الأمن القائمين على إدارة أمن السجون ممكن من خلال سلوكهم الإنساني والمهني أن يحدثوا تغييرًا في طريقة تفكير السجناء، وإبعادهم تدريجيًّا عن الفكر المتطرف.
الحاجة لتطوير كوادر أمنية فاعلة للتعامل مع المتطرفين العنيفين في السجون العراقية، قد تشكّل العنصر الأهم في أي استراتيجية جديدة للتعامل معهم، إذ يجب أن يخضع الموظفون المتعاملون مع العناصر المتطرفة لتدريب يومي.
إذ تتعرض السجون العراقية لانتقادات مستمرة، سواءً من قبل لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب العراقي أو من قبل المنظمات الدولية، وأبرزها منظمة العفو الدولية، وذلك بسبب طبيعة الأنظمة المتّبعة في السجون العراقية، حيث تتصدى أنظمة السجون في العديد من الدول للتحدي المتمثل في حبس السجناء العنيفين عبر السعي لتحسين ظروف إدارة السجون، ومن شأن تنفيذ هذا النهج تحسين طريقة إدارة السجون، وفي الوقت نفسه تمكين إدارة السجن من أن تحدّد بمزيد من الوضوح من يحتاجون إلى تدخلات محددة لفكّ ارتباطهم بالعنف القائم على أساس الأيديولوجيا.
إن طريقة تعاطي الأجهزة الأمنية العراقية مع الملفات المتعلقة بالإرهاب تحتاج هي الأخرى إلى إعادة تعريف وتنظيم، حيث تمتلئ السجون العراقية بعشرات السجناء الذين لم يتم حسم ملفاتهم القضائية، رغم مرور ما يقارب على 6 أو 7 سنوات على اعتقالهم، خصوصًا أن العديد منهم تمَّ اعتقاله بناءً على وشاية المخبر السرّي.
وفضلًا عن ذلك يحتاج النظام القضائي هو الآخر إلى إعادة إحياء دوره حيال الملفات الأخرى التي تدخل في إطار القضايا الإرهابية، خصوصًا تلك المتعلقة بسلوك الفصائل المسلحة الشيعية، وما مارسته من سلوكيات متطرفة أثناء وبعد نهاية الحرب على “داعش”، حيث إن التراخي معهم في مقابل التشدد مع العناصر من التنظيمات السنّية المتطرفة، قد يجعل من هذه الازداوجية مبررًا للانتقام والعنف.
كما ينبغي الإدراك أن محاولات الفرار المستمرة لا تقتصر على محاولات السجناء المتطرفين العنيفين الخروج من السجن من الداخل، ذلك أن الجماعات المتطرفة العنيفة، خصوصًا التي لها قوة عسكرية وسيطرة على الموارد والأرض كـ”داعش”، تشنّ هجمات بصورة متزايدة على السجون التي يتواجد فيها عناصر التنظيم، فضلًا عن سعيها المستمر لإثارة الفوضى داخل السجون، وفي بعض الحالات يهاجم عناصر التنظيم السجون من أجل خلق بيئة مناسبة لفرار السجناء.
حيث تمكّن عدد من عناصر “داعش” الفرار خلال انفجار استهدف سجنًا في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا في 23 يناير/ كانون الثاني 2022، كما يحصل بالهجمات المستمرة لعناصر “داعش” على سجن غويران الذي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في شمال شرق سوريا، أو الهجمات التي تطال السجون العراقية.
ورغم نجاح القوات الأمنية العراقية في احتواء تأثير هذه الهجمات، أو تحصين الحدود مع سوريا، إلا أن احتمالية نجاحها تبقى واردة، خصوصًا أن هناك تجارب ناجحة للتنظيم في هذا السياق، ففي مايو/ أيار 2021 تمكّن 21 سجينًا من المدانين بالإرهاب من الفرار من سجن المثنى، وهذه الحادثة هي الثالثة من نوعها بعد حادثة هروب سجناء أبو غريب في العاصمة العراقية بغداد عام 2013، وهروب سجناء بادوش في الموصل عام 2014.
وفي إطار البحث عن استراتيجية جديدة لإعادة تأهيل المتطرفين في العراق، يشير ضعف الجهد الاستخباراتي العراقي داخل السجون إلى قصور واضح في كيفية جمع المعلومات عن السجناء واتصالاتهم الخارجية، حيث إنه من أجل جعل إدارة السجون فاعلة كما كان عليه الحال قبل عام 2007 عندما كانت الولايات المتحدة تشرف على السجون العراقية، وتطبّق برامج متكاملة لإعادة التأهيل، أن يكون لجميع السجون العراقية، وتحديدًا التي تتعرض لحالات هرب مستمرة، نظام استخبارات محكم لجمع المعلومات الأمنية، وغيرها من المعلومات ذات الصلة بالتنظيمات المتطرفة، وبما يتفق مع التشريعات الوطنية والمعايير الدولية.
وينبغي أن تقع على عاتق موظفي السجون مسؤولية العمل بنشاط على جمع المعلومات الأمنية ونقل هذه المعلومات إلى الدوائر الأمنية، من أجل تحييد جهود التنظيمات المتطرفة، وقطع أي ارتباط لها مع السجناء المتطرفين، ويعدّ هذا جانبًا مهمًّا من جوانب الأمن الدينامي في العراق، ويتطلب أن يتواصل موظفو السجن بنشاط مع السجناء من أجل الحصول على المعلومات الدقيقة، وبناء علاقات إنسانية معهم إذا أردوا أن يحصلوا على معلومات نوعية ودقيقة، بعيدًا عن العقلية التقليدية في إدارة السجون القائمة على العنف والقسر.
إن إيلاء هذه الجوانب أهمية قصوى قد يدعم أي جهود حكومية عراقية لبناء استراتيجية جديدة لإعادة تأهيل المتطرفين العنيفين، إذ تشير أغلب الوثائق التي تمَّ ضبطها أثناء اعتقال العديد من العناصر المرتبطين بـ”داعش” أثناء الحرب وبعدها، إلى أن التنظيمات المتطرفة العنيفة، ومنها “داعش”، تمكّنت من بناء شبكاتها التنظيمية داخل السجون العراقية من خلال ممارسات جرى تطويرها بعناية، حيث نجحت العديد من القيادات الداعشية من تطوير أدلة تدريبية بشأن كيفية التصرف والتنظيم داخل السجن، وتشكيل خلايا ناشطة داخل السجون شبيهة بالخلايا النائمة التي تتبع التنظيم في المدن والأرياف.
هذا إلى جانب استخدام رموز ومصطلحات لغرض التواصُل السرّي داخل السجن، وإن عدم تمكن الأجهزة الأمنية العراقية من تفكيك هذه النشاطات أو الحد منها داخل السجون العراقية، سهّل على التنظيم العمل بصورة فعّالة للحفاظ على الشبكات التي شكّلها داخل السجون، من أجل ضخّ دماء جديدة في صفوف التنظيم بعد الإفراج عنهم.
وأخيرًا، إن الحاجة لتطوير كوادر أمنية فاعلة للتعامل مع المتطرفين العنيفين في السجون العراقية، قد تشكّل العنصر الأهم في أي استراتيجية جديدة للتعامل معهم، إذ يجب أن يخضع الموظفون المتعاملون مع العناصر المتطرفة لتدريب يومي، ويجب أن يشمل التدريب مواضيع مهمة، منها فهم التطرف العنيف، وتمييز علامات التطرف المؤدية إلى العنف، وتقييم السجناء المتطرفين حسب مستوى ودرجة العنف، وتقييم المعلومات الاستخباراتية، والتدريب على مكافحة الشغب داخل السجون ومحاولات الفرار، والتقيُّد بالمعايير الأخلاقية والإنسانية، وتحصين الموظفين من حالات الرشوة التي يقوم بها عناصر التنظيم من أجل تسهيل تواصلهم مع الخارج، كل هذه العناصر يمكن أن تشكّل بطريقة أو أخرى فرصة لضبط سلوك العناصر المتطرفة داخل السجون، وتجعلهم أكثر قبولًا لبرامج إعادة التأهيل ودمجهم بالمجتمع المحلي.
آليات الحل
رغم نجاح العراق في هزيمة “داعش” عسكريًّا، إلا أن استراتيجية مواجهة التنظيم حاليًّا، المتمثلة باعتماد المقاربات الأمنية والعسكرية، دون الاقتصادية والاجتماعية، والأهم التأهيلية، ستمكّن التنظيم من العودة بأي لحظة، فالظروف التي سمحت بتحول العديد من عناصر القاعدة إلى عناصر يعملون ضمن “داعش” ما زالت حاضرة وبقوة بالساحة العراقية.
ولعلّ فشل المقاربة الأمنية في مواجهة تنظيم القاعدة، قد تتكرر مع تنظيم “داعش”، وهو ما يدفع للقول بضرورة أن تكون هناك رؤية عراقية جديدة تدرس الأسباب الجوهرية للتطرف، وتضع الأدوات المناسبة للتعامل معها، بعيدًا عن الحلول الأمنية التقليدية.
إن إعطاء الأهمية القصوى للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن إعادة تصحيح موضوع الحقوق والحريات في المجتمع العراقي، يمكن أن يساهما في تجريد “داعش” من أهم الأسلحة التي يحارب بها، حيث إنه عبر هذه المسارات نجحَ في تجنيد العشرات من العناصر الذين وجدوا أنفسهم دون فرص اقتصادية أو مستهدَفين من قبل برامج اجتماعية، وخضوعهم بطريقة انتقائية لسياسات الإقصاء والتهميش، وهو ما وفّر بدوره فرصة للبحث عن أدوات فاعلة تعيد تصحيح هذه الاختلالات الداخلية، وفي الوقت الذي نجح فيه “داعش” في إقناع هذه الأوساط بالقدرة على التصحيح والمعالجة، وجد التنظيم نفسه مهيّأ لاستقبال أعداد كبيرة من الناقمين على الوضع الجديد.
إن القدرة على إحداث توازن بين التكاليف والمخاطر، وبين الهدف المرجو والهدف الصعب، يمكن أن تضع العراق أمام رؤية واضحة لمواجهة عناصر التنظيم، وتحديدًا المستهدفين من برامج إعادة التأهيل، إذ ينبغي أن تكون هناك بيئة قادرة على ترسيخ هذه المسائل في عقلية المتطرفين العنيفين الذين يخضعون لهذه البرامج، من أن التعاون سيكون فرصة لإعادة اندماجهم في مجتمعاتهم المحلية، أما الإصرار على النهج المتطرف قد يجعلهم يتحملون أثمانًا باهظة، ورغم أنها استراتيجية غير مضمونة النجاح، إلا أنها قد تبدو نهجًا مرجّحًا في حالة انعدام البدائل الأخرى، أو ضعف فرص نجاحها.
بالإضافة إلى ما تقدّم، يحتاج العراق إلى خلق تصور جديد لإعادة تأهيل المتطرفين العنيفين فكريًّا وأيديولوجيًّا، وذلك عبر عدة آليات مهمة، أبرزها:
1. ينبغي لبرامج إعادة التأهيل، وتحديدًا المتّبعة في السجون العراقية، اتباع كفالة الاحتجاز الآمن للسجناء، وأن تمنع التشدد المفضي إلى العنف، وأن تسعى إلى ضمان فكّ ارتباط السجناء بالعنف مستقبلًا.
2. يجب تنفيذ التدابير الأمنية المناسبة التي تحافظ على التوازن بين الضرورات الأمنية والإجرائية، ويجب أن يكون لدى جميع السجون التي تضمّ سجناء متطرفين نظام استخبارات فاعل، يضمن عزل السجناء عن العناصر الفاعلة خارج السجن.
3. يجب أن تكون هناك برامج تأهيلية للموظفين العاملين في السجون التي تضم المتطرفين، وإخضاعهم لبرامج متخصّصة للتعامل مع هؤلاء المتطرفين، وضمان سلامتهم من أجل توفير بيئة مناسبة للعمل وتحقيق نتائج فاعلة.
4. ينبغي أن يكون هناك نهج فكري واضح لفكّ الارتباط بين المتطرفين والفكر المتطرف، وأن يكون ذا تأثير في دفع المتطرفين العنيفين الذين يعتنقون الفكر المتطرف إلى اعتناق أفكار أخرى أكثر اعتدالًا.
5. كما يجب أن يكون هذا النهج الفكري قائمًا على هيكلية واضحة تتضمّن المشورة والدعم النفسي، برامج سلوكية، مناقشات وحوارات، تعليم وتدريب، وأنشطة اجتماعية وثقافية تدفع المتطرف للتأقلم مع الوضع الجديد.
وإلى جانب المسارات التقنية والفنية التي ذكرناها، فإن التهديدات العابرة للحدود التي يشكّلها عناصر “داعش”، تتطلب أن تتوافر الجهود الإقليمية والدولية لمساعدة العراق على مواجهة التنظيم، ليس بالأساليب العسكرية فحسب، وإنما بمساعدته أيضًا على تطوير أساليب إعادة تأهيل سجناء التنظيم، وتزويده بالأداوت الضرورية لتحقيق هذا الهدف، وتحديدًا على مستوى خلق توءمة دولية مع البرامج الناجحة في هذا الصدد، فضلًا عن ضرورة أن يمارس المجتمع الدولي دورًا أكثر مسؤولية في ضبط الحدود ومنع سفر من لديهم سجلّات أو مؤشرات أمنية، فضلًا عن تفعيل دور اليوروبول والأنتربول، في مراقبة ومتابعة من يسعى للوصول إلى مناطق الصراع.
كما ينبغي على الحكومات العراقية أن تبذل جهودًا في استعادة ثقة المجتمع المحلي والدولي، عبر تقديمها جهود طموحة في هذا السياق، وأن تؤدي دورًا مهمًّا في تجفيف منابع التطرف في العراق عبر ممارسات وأساليب تعيد تشكيل المجتمع العراقي وفق نهج أكثر اعتدالًا، إذ إن البقاء على السلوكيات السابقة ذاتها لن يجدي نفعًا، كما أن الأزمات المعقدة التي يعاني منها العراق اليوم تستدعي أن تكون هناك استراتيجية أكثر كفاءةً تقود إلى هزيمة “داعش” فكريًّا وعسكريًّا، عبر توفير الموارد والإمكانات التي تعالج معضلة التنظيم من العمق.
إذ إن النجاح في معالجة الأسباب الجوهرية التي ساهمت في نشوء فكر التطرف وصعود “داعش”، ومن ثم إعادة تأهيل متطرفيه ودمجهم بالمجتمع المحلي، ستعطي نجاحات حاسمة ليست في إنهاء تأثير ووجود التنظيم فحسب، بل أي جماعة متطرفة قد تظهر في العراق مستقبلًا.