توقعت شركة أبحاث الطاقة “بلومبرغ إن إي إف” (Bloomberg NEF) في تقريرها المنشور مؤخرًا، بشأن آفاق النحاس عالميًا، أن الطلب على هذا المعدن الإستراتيجي سيرتفع بأكثر من 50% من اليوم حتى عام 2040، في ضوء الاهتمام العالمي بالتخلص من الوقود الأحفوري صاحب الكلمة العليا في التغيرات المناخية التي تشهدها الكرة الأرضية مؤخرًا وأسفرت عن العديد من الكوارث والخسائر، البشرية والاقتصادية.
وفي خطته للانتقال نحو الطاقة الخضراء خلال الـ22 عامًا القادمة، كشف الاتحاد الأوروبي عن حاجة العالم إلى ما يقرب من 700 مليون طن من النحاس للوصول إلى المستويات المقبولة من الطاقة النظيفة، وهو المعدل الذي يقترب مع كل إنتاج النحاس خلال مئات السنين.
يعد النحاس من أوائل المعادن التي اكتشفها الإنسان وطوعها لاستخدامه، وثانيها من حيث تعدد المنافع بعد الحديد، ويُقدر حجم الاحتياطي العالمي المؤكد منه بنحو 870 مليون طن، فيما يقدر العلماء أن الاحتياطيات غير المكتشفة تبلغ 3.5 مليار طن، وفي المجمل يصل معدل النحاس على وجه الأرض، ما تم اكتشافه وما لم يكتشف بعد، نحو 5 مليارات طن.
ويعتبر الباحثون أن النحاس واحد من المعادن الإستراتيجية الأساسية في صناعة المستقبل، فهو من أكثرها استخدامًا في الصناعات الحيوية، التقنية والدفاعية، وزادت أهميته مؤخرًا بعد إثبات قيمته وتأثيره في الطاقة النظيفة والتخلص من الوقود الأحفوري، الأمر الذي يتوقع معه زيادة معدلات الإقبال عليه بصورة غير مسبوقة.
وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022 تعرض سوق المعادن كغيره من أسواق السلع والخدمات إلى هزات مزلزلة، فقد قفز سعر المعدن الحيوي إلى أعلى مستوياته على الإطلاق بسبب مخاوف من تراجع الإمدادات مع تشديد الدول الغربية العقوبات على روسيا، فهل يصبح النحاس ساحة حرب جديدة بين القوى الاقتصادية الكبرى؟
ما النحاس؟
يرمز للنحاس اختصارًا بـ(نح)، و(Cu) ويقع في الفصيلة IB أو الفصيلة 11، عدده الذري 29، ووزنه الذري 63,54، كثافته 8,95، ونقطة انصهاره 1083 درجة مئوية، ونقطة غليانه 2310 درجة مئوية، وتكافؤه 1و2، ويوجد في الطبيعة إما بصورة منفردة وإما متحد على شكل أكاسيد مع عناصر أخرى.
وهو مادة لينة القوام قابلة للطرق، تتفاعل مع الجو ومتغيراته، بطيئ التفاعل مع الحوامض المختلفة، وهو في الأصل ذو لون أصفر ضارب إلى الحمرة, تحوي ذرته في طبقتها الإلكترونية الخارجية إلكترونًا S واحدًا مع إشباع المدارات d في الطبقة الداخلية، فيكون أحادي التكافؤ.
يعتبر من أقدم المعادن التي اكتشفها الإنسان القديم وطوعها لاستخداماته المختلفة، ويذهب بعض الباحثين إلى أنه الأقدم على الإطلاق، وذلك لعدّة أسباب، منها وجوده حرًا ونقيًا في الطبيعة، بجانب ألوانه البراقة والمميزة التي لا يمكن تجاهلها ويسهل تعرفها، فضلًا عن سهولة إرجاع فلزاته إلى معدن النحاس، كذلك وجوده في بقاع كثيرة من الأرض.
ويرجع المؤرخون اكتشاف النحاس إلى عام 6000 قبل الميلاد حيث وجد في أحد مساكن البحيرة عند روبتهاوزن في سويسرا، كذلك عثر على بعض آثاره في الجزيرة بين دجلة والفرات وتعود إلى نحو 4500 قبل الميلاد، أيضًا في مقابر البداري في مصر ما يقرب من سنة 4000 قبل الميلاد ، وفي آثار أور التي ترجع إلى سنة 3100 قبل الميلاد تقريبًا، الوضع ذاته في آثار بناة الجبال في أمريكا الشمالية.
العلماء يعتقدون أن اكتشاف النحاس وتحويله إلى معدن لين جاء مصادفة حين أوقدوا نارًا للتدفئة فأذابت نحاسًا كان ملاصقًا للأحجار التي أحاطوا بها النار؛ واستمر الوضع هكذا حتى عام 3500 قبل الميلاد، حتى وقع الناس على فن صهر المعادن واستخراجها من مناجمها، ثم بدأوا في صبهّا نحو سنة 1500 قبل الميلاد.
وهناك بعض الدراسات تشير إلى أن المصريين القدماء استخدموا مركبات النحاس بشكل عفوي منذ 15 ألف عام قبل الميلاد، وذلك في تلوين الزجاج، ويعتقد أنهم أول من استخلصوا النحاس النقي منذ 5 آلاف عام تقريبًا، حيث وُجدت بعض ذرات النحاس داخل الأنية القديمة، فبعد تحليلها اكتشف أنها مصنوعة من النحاس الخالص وليس من سبائكه.
من أين يستمد أهميته؟
تجدر الإشارة ابتداءً إلى أن النحاس يعتبر مؤشرًا ذات مصداقية عالية لقياس الاقتصاد العالمي، والترمومتر الأكثر موثوقية لتقييم الأداء العام، فيما وصفه موقع Investopedia، بـ”دكتور نحاس” (Doctor Copper)، وهو المصطلح الاقتصادي الذي يستند إليه المحللون والخبراء لقياس مؤشر الاقتصاد لما للنحاس من قدرة كبيرة على التنبؤ بالصحة العامة للاقتصاد، حيث يتمتع هذا المعدن بقدرة قوية على تقييم الرفاهية الاقتصادية الشاملة.
ويعتبر النحاس الحاضر الدائم في معظم الصناعات، فهو مرتكز أساسي في صناعة السيارات، وفي مختلف الأجهزة المنزلية، كما يدخل في كل الصناعات المعدنية وتلك المعنية في نقل الكهرباء، بجانب أنه يمتلك خصائص مذهلة في نقل الطاقة بين المعادن المختلفة.
المنقبين عن النحاس بحاجة إلى إنفاق نحو 150 مليار دولار في العقد المقبل لسد عجز سيبلغ 8 ملايين طن
ويعول عليه الباحثون في تعزيز مسار التحول نحو الطاقة النظيفة، فهو أحد الأركان المحورية في بناء مزارع طاقة الرياح والطاقة الشمسية، وزادت قيمته أكثر بعد صناعة السيارات الكهربائية، وهي سيارات المستقبل بلا شك، حيث تستخدم تلك السيارات أكثر من ضعف كمية النحاس المستخدمة في صناعة السيارات التي تعمل بالبنزينن وهو ما يزيد من الإقبال عليه.
وبحسب تقديرات جمعية تنمية النحاس (CDA)، فإن النسبة المئوية لاستخدام النحاس في الصناعات المختلفة تتباين من صناعة لأخرى، إذ تبلغ 46% المباني، 21% كهرباء، ونحو 16% للنقل، بالإضافة إلى 17% تستخدم في صناعة المنتجات الاستهلاكية والآلات الصناعية والمعدات، فيما يبلغ متوسط وزن النحاس المستخدم في السيارات العادية ما يقارب 30 كيلوغرامًا، ويبلغ معدل الاستهلاك عند بناء منزل أسرة واحدة أكثر من 180 كيلوغرامًا.
وفقًا لدراسة ممولة من “إس آند بي غلوبال”، فإن التحول نحو الطاقة النظيفة بهدف تصفير الانبعاثات سيزيد الطلب على النحاس إلى 50 مليون طن متري سنويًا بحلول سنة 2035، فيما يتوقع المتخصصون أن يشهد العالم عجزًا تاريخيًا يصل إلى 10 ملايين طن في سنة 2035، وذلك وفقًا للدراسة.
ولأجل سد العجز في إمدادات النحاس فإن المنقبين عنه بحاجة إلى إنفاق نحو 150 مليار دولار في العقد المقبل لسد عجز سيبلغ 8 ملايين طن، وفقًا لتقرير صادر عن شركة “غولدمان ساكس غروب”، فيما تتوقع “بلومبرغ” أن تصل الفجوة بين ما يتم تعدينه والناتج النهائي إلى 14 مليون طن بحلول سنة 2040.
خريطة الإنتاج.. تشيلي وبيرو في المقدمة
تقدر الاحتياطيات العالمية من النحاس عند 870 مليون طن، فيما تتصدر تشيلي قائمة الدول الأكثر إنتاجًا لهذا المعدن برصيد 200 مليون طن أي ما يعادل 23% من الاحتياطي العالمي، وهي في ذات الوقت أكبر منتج له بمعدل قدره 5.7 مليون طن سنويًا.
وتشير التقارير إلى أن إنتاج النحاس في شيلي قد يستمر على تلك المعدلات لمدة 40 عامًا قادمة إذا ظلت الاحتياطيات كما هي عليه اليوم، وهو ما يعني الاستقرار الاقتصادي لهذه الدولة التي يمثل قطاع التعدين بها أكثر من 20% من ناتجها المحلي وأكثر من 50% من عائدات التصدير، إذ تصدر ما قيمته 18 مليار دولار من النحاس سنويًا، يذهب أكثر من 80% من تلك الصادرات إلى الأسواق الآسيوية، الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند.
وتأتي بيرو في المرتبة الثانية بإنتاج يبلغ سنويًا 2.2 مليون طن، واحتياطي قدره 92 مليون طن، تليها الصين بـ1.7 مليون طن إنتاج واحتياطي 26 مليون طن، ثم الكونغو الديمقراطية بـ1.3 مليون طن إنتاج، تليها الولايات المتحدة بإنتاج يبلغ 1.2 مليون طن واحتياطي قدره 51 مليون طن، يتبعها أستراليا بـاحتياطي قدره 88 مليون طن، ثم روسيا بـ850 ألف طن معدل إنتاج سنوي، واحتياطي يبلغ 61 مليون طن، تليها زامبيا بـ830 ألف طن إنتاج واحتياطي قدره 21 مليون طن، ثم المكسيك تاسعًا في قائمة الإنتاج بـ690 ألف طن واحتياطي يبلغ 53 مليون طن، وفي المركز العاشر تأتي كازاخستان بإنتاج يبلغ 580 ألف طن واحتياطي قدره 20 مليون طن، وفق هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية.
الاستعمار الاقتصادي
المكانة المرموقة للنحاس بين المعادن الإستراتيجية المصنفة كـ”أمن قومي” التي تهرول القوى العظمى لتأمين احتياجاتها منها حماية لمستقبلها وحفاظًا على نفوذها، دفعت تلك القوى إلى تجاوز أطرها الجغرافية الضيقة للبحث عن إمدادات إضافية في البلدان ذات الإنتاجية والاحتياطي الكبير من هذا المعدن.
وعليه سارعت كل من واشنطن وبكين خلال الآونة الأخيرة لتعزيز العلاقات مع تشيلي التي تنتج قرابة ربع الإنتاج العالمي من النحاس، ففي الخامس من أكتوبر/تشرين الماضي توجه وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، إلى سانتياغو، لتهنئة الرئيس اليساري الجديد غابرييل بوريك، الذي تقول الولايات المتحدة إنها تأمل في إقامة علاقات قوية معه، وهي الزيارة الأولى للوزير الأمريكي لتشيلي، حيث بحثا سبل تعزيز العلاقات الاقتصادية التي من بينها استغلال الثروات المتاحة.
الموقف ذاته مع الصين، التي دخلت على خط المنافسة مع أمريكا، فتشيلي أول دولة في أمريكا الجنوبية تقيم علاقات دبلوماسية وتوقع اتفاقية تجارة حرة مع بكين التي لم تكتف بأنها أكبر شريك تجاري وأكبر سوق تصدير لتشيلي، لكنها أيضًا شريك إستراتيجي شامل لتشيلي مع مجال واسع للتعاون الشامل في كل المجالات، الأمر نفسه إزاء بيرو وأستراليا والمكسيك وكازاخستان.
ومن أمريكا الجنوبية إلى القارة السمراء، حيث الحزام النحاسي الثري على الشريط الممتد بطول حدود زامبيا وجمهورية الكونغو، الذي يتجاوز طوله 90 ألف كم، تلك المنطقة التي تعد واحدة من أغنى المناطق النحاس بالعالم، وتحولت في الآونة الأخيرة إلى ساحة للتنافس بين الشركات العالمية ومتعددة الجنسيات.
كانت شركات التعدين الأمريكية والأوروبية والأسترالية تسيطر على هذا الحزام طيلة العقد الماضي، لكنها تراجعت بشكل ملحوظ بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية في تلك البلدان، لتحتل الشركات الصينية مكانها، وتفرض هيمنتها شبه الكاملة على ثروات الحزام من خلال عشرات الشركات.
الملياردير الأمريكي الشهير روبرت فريدلاند، بدأ مؤخرًا في الاستثمار في معادن إفريقيا حيث اشترى أحد مناجم النحاس في الكونغو الديمقراطية، في محاولة منه لأن يجعل هذا البلد ثالث أكبر منتج في العالم لهذا المعدن بحلول 2024 بدلًا من المركز الرابع، كما حصل بداية هذا العام على حقوق التعدين في منجم للحديد في غينيا.
أما شركة (بي إتش بي بيليتونBHP) (المعروفة سابقًا باسم بي اتش بي بيليتون، وهو تداول لكيان الأنجلو أسترالية متعددة الجنسيات التعدين، المعادن والبترول المزدوج المدرجة في شركة عامة مقرها الرئيسي في ملبورن في أستراليا)، التي تعد أكبر شركة تعدين في العالم، فباتت على بعد أمتار قليلة من إقامة مشروع لتعدين النحاس بجوار منجم كاموا كاكولا الجديد، في منطقة فريدلاند، بالكونغو، وفق ما ذكرت شبكة “بلومبرغ”.
وفي مايو/آيار 2022 وافقت شركة “فيرست كوانتوم مينيرال” (First Quantum Minerals) الكندية على مشروع بقيمة 1.25 مليار دولار لتوسيع منجم “كانسانشي” للنحاس في زامبيا، مضيفة في بيان لها “هذا الاستثمار سيطيل عمر أحد أكبر مناجم النحاس في إفريقيا حتى أربعينيات القرن الحاليّ، وزيادة إنتاج النحاس والذهب بنحو 25%. أقرّت الشركة أيضًا تطوير مشروع جديد للنيكل، الذي يُتوقَّع أن يكلّف نحو 100 مليون دولار”.
ودخلت على خط الاستثمار التعديني في إفريقيا، شركة “أنغلو أمريكان” (Anglo American) الأمريكية التي أعلنت عن مشروع مشترك جديد في زامبيا، يهدف إلى زيادة إنتاج المعادن وعلى رأسها النحاس والكوبلت، كما أن لها استثمارات مشابهة في زيمبابوي وباكستان.
يتناغم التنافس العالمي على معادن إفريقيا مع توجهات بعض الأنظمة والحكومات التي تعي أهمية تلك المرحلة التي باتت فيها بلادهم مطمعًا للقوى الكبرى، إذ تسعى لتوظيف ذلك لإنعاش اقتصادها وتعزيز مواردها، وهو ما كشفه الرئيس الزامبي الجديد هاكيندي هيشيليما، الذي أكد أنه سيبذ قصارى جهده لجذب المستثمرين، وإصلاح العلاقات التي دمّرها سلفه، منوهًا أنه يخطط لمضاعفة إنتاج النحاس 3 مرات خلال العقد المقبل، وهو الهدف الذي يحتاج إلى ميزانية لا تقل عن 30 مليار دولار من الاستثمارات، وفقًا لمحللين، ما دفعه لفتح الباب أمام الشركات العالمية مع الشركات متعددة الجنسيات.
وهكذا يفتح النحاس كغيره من المعادن الإستراتيجية الباب أمام صراعات من نوع مختلف بعدما تحول إلى سلعة إستراتيجية وسلاح بأيدي الدول لتعاظم نفوذها المستقبلي على حساب منافسيها، وهو ما يحوله إلى مسرح لتوتير الأجواء إذا ما تطلب الأمر، لتواجه إفريقيا وأمريكا الجنوبية مستقبلًا غامضًا، إذ لا يُعرف ما إن كانت ثروات تلك البلدان الطبيعية نعمة عليها أم نقمة.