بدأنا سلسلة النظرات بمدخل تعريفى للنموذج الفريد للحركة الإسلامية فى الأردن وعوامل التأثير في هذا النموذج في الجزء الأول
ونكمل الغوص بعمق في هذه السطور في ماهية وحقيقة العلاقة بين النظام الملكي وجماعة الإخوان المسلمين.
بدأ النشاط الإسلامى لجماعة الإخوان المسلمين مبكرًا في الأردن، عندما وقعت وريقات من مجلة الإخوان المسلمين عام 1943 بيد الحاج “عبد اللطيف أبو قورة” فأعجب بهم وبرسالتهم الجهادية واهتمامهم بالقضية الفلسطينية، فتواصل مع الجريدة ومع الأستاذ “البنا” – رحمه الله – وبايعه وأصبح عضوًا فى الهيئة التأسيسية للإخوان في مصر، وتأسست في الأردن “جماعة الإخوان المسلمين” عام 1945.
كان من أهم أعمال الجماعة في ذلك الوقت إقامة الندوات والمحاضرات والاحتفالات الإسلامية والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ساهمت ممثلة بشخص قائدها الحاج “عبد اللطيف أبو قورة” – رحمه الله -، في إنشاء الكلية العلمية الإسلامية في عمان، والمشاركة في رابطة العالم الإسلامي والمؤتمر الإسلامي ولجنة نصرة الجزائر ومؤتمر بيت القدس وغيرها.
بدأت الفترة التأسيسة للإخوان المسلمين (1945-1953) بصورة مركزية حول الحاج “عبد اللطيف أبو قورة” الذي كان يمثل كل شيء في الجماعة واتسمت العلاقة بين الجماعة وبين الملك “عبد الله الأول” بحالة من الود والتعايش بدأت بافتتاح الملك للمركز العام للجماعة في الأردن، وأبدى إعجابه بدعوة الإخوان وعرض على الأستاذ “عبد الحكيم عابدين” أن يعينه وزيرًا في حكومة الأردن، وأن ينعم عليه وعلى الأستاذ “البنا” بـ “الباشاوية”، إلا أن الأستاذ البنا اعتذر له.
ومن الدلائل القوية على هذه العلاقة أيضًا حضور وفد من الإخوان في مصر وفلسطين احتفالات تتويج الملك عبد الله عام 1946، وخروج إخوان مصر لاستقبال الملك عبد الله عند زيارته لمصر عام 1948.
وشارك الإخوان فى حرب فلسطين 1948 – والتي كانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الجماعة – بقيادة أبو قورة وبسرية قوامها 120 رجلاً استشهد عدد منهم.
بعام 1953 دخلت الجماعة طورًا جديدًا على مستويين: الأول داخليًا باختيار “محمد عبد الرحمن خليفة”مسؤولاً عن إخوان الأردن؛ مما أدى إلى عزوف قيادات تاريخية للجماعة، وسيطرة الشباب على مقاليد الجماعة، وبدأت عملية إعادة بناء الجماعة تنظيميًا وقياديًا، على غرار الجماعة الأم، وتحولت الجماعة من جمعية إلى هيئة إسلامية جامعة وفقًا للقانون، وخارجيًا حدث تغيير في سياسات الجماعة التي أصبحت أكثر تسييسًا وقربًا من النظام بسبب التهديدات اليسارية والشيوعية كما حدث مع الجماعة الأم في مصر.
في عام 1956 دخل الإخوان الانتخابات بشكل مباشر بعد دعمها لأشخاص معينة كما في 1951 و1954؛ وحصلت الإخوان على أربعة مقاعد من ستة بنسبة 10بالمائة من مقاعد المجلس، عام 1957وفي خطوة خطيرة وقفت الجماعة مع الملك ضد الأحزاب القومية واليسارية واستغلت المنابر والمساجد والميادين في ذلك، وحملت السلاح دعمًا للنظام، وأمتن الملك لهذا الدعم وعرض عليهم الحكومة فأعتذروا.
على الرغم من هذه العلاقة الودية إلا أن مناهضة الإخوان للغرب، ومطالبتها بالشريعة الإسلامية، وانتقادها للحكومة واعتراضها على العلاقة المتميزة مع البريطانيين، ورفضهم لوجود ضباط بريطانيين في الجيش وطالبوا بترحيلهم؛ اُعتقل عدد منهم وكان من بينهم المراقب العام، ونددوا بحلف بغداد 1955 ورفضوامشروع إيزنهاور، لكن لم يمنع كل هذا من مدح الملك والإشادة به وتوثيق العلاقة معه وخاصة بعد موقف الأردن من العدوان الثلاثي عام 1956.
توترت العلاقة بين الإخوان والدولة أكثر من مرة، ففي عام 1959م صودرت الصحف والنشرات التي كانت تصدرها الجماعة، واُعتقل عدد من الإخوان، وكذلك المراقب العام، وفي 1960 وجهت الجماعة انتقادات حادة لسياسة الحكومة بسبب ما اعتبروه تساهلاً في الأمور الأخلاقية، حينما سمحت الحكومة لشركة أجنبية لتقديم عروض رقص على الجليد في الأردن، كما صوت ممثلوا الإخوان في كانون الثاني 1963 لحجب الثقة عن حكومة “وصفي التل”، متهمين إياها بالفشل في تطبيق الشريعة الإسلامية، وعدم احترام القيم الأخلاقية، وإبعاد الأردن عن تأثير المحيط العربي، وعدم القيام بأي شيء باتجاه الجهاد ضد إسرائيل، وتكرر الاعتقال.
شهدت الجماعة نقلة نوعية بعد هزيمة حزيران 1967 من حيث التنظيم واجتذاب العناصر الشابة، بعد تراجع وانحسار موجة المد القومي واليساري، وظهر داخل الإخوان توجهًا يعارض التوجه الإصلاحي، ويطالب بفتح باب الجهاد، فقد أسس الإخوان قواعد جهادية عُرفت باسم معسكرات الشيوخ، نفذت سلسلة من العمليات الحربية الناجحة ضد أهداف عسكرية إسرائيلية، وانتهت تلك التجربة بعد خروج المقاومة الفلسطينية من الأردن عام 1970 بعد انتهاء أحداث أيلول بعد محاولة الجبهة الشعبية محاولة اغتيال الملك حسين، والتزمت الجماعة فيها الحياد.
وانعكس الموقف الإخواني على علاقتهم بمؤسسة الحكم، التي فتحت المجال للإخوان للعمل بحرية أكبر داخل المخيمات والمناطق الفلسطينية لملئ الفراغ الذى خلفه خروج العناصر الفلسطينية المسلحة، وقد استغل الإخوان تلك الفترة بطريقة جيدة.
لم يكن الإخوان خلال تلك المرحلة يشكلون قوة سياسية نافذة في الشارع فقد كان اليساريون والقوميون المدعومون من الدول العربية المجاورة (سورية والعراق ومصر الناصرية) يشكلون خطرًا سياسيًا وخصمًا شرسًا للنظام والإخوان مما يفرض عليهما الالتقاء.
طور الإخوان من أدواتهم الاجتماعية في هذه الفترة، وتوسعوا في العمل العام، وانتقلوا للمشاركة النقابية واتحادات الطلاب، وأصبحت فترة الثمانينات مرحلة خصبة لجماعة الإخوان، وشهدت نمو وبناء مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية؛ وفرت لها شبكة عمل اجتماعي فاعلة شكلت رصيدها الشعبي.
وبعد أن كانت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن عصا يتوكأ عليها النظام الملكي ويهش بها خصومه وله فيها مآرب أخرى حتى قضى منها وطرًا بدأ ينهش في لحمها و عرضها وأبنائها، فعلا “دوام الحال من المحال”، هذا المثل لن يفارق كل قارئ لتاريخ جماعة “الإخوان المسلمين”، التي بدأت وجودها في الأردن بمباركة النظام السياسي، بل إن المحلل السياسي جهاد الرنتيسي يصفها أثناء حديثه إلى “السفير” بأنها كانت ركنًا من أركان النظام الأردني، وهكذا تخبرنا الصيرورة التاريخية بأن العلاقة بين الجماعة والنظام الملكي في الأردن ارتبطت منذ البداية بتبادل المنافع أو “الزواج القسري”، وقد شهدت قفزات متباينة فانتقلت من الاحتواء الودي إلى التعامل الحذر وتسجيل النقاط والمواقف، وأخيرًا دخلت في عملية قضم مصادر نفوذ الجماعة، وإذا جزمنا أن علاقة الحكم بالجماعة تدخل في نسق المشاركة السياسية المشروعة دون الإمساك بالسلطة، فإن صور التعايش المختلفة بين الجانبين بمستوياتها امتازت بحالة من المد والجزر تبعًا لسياسات الحكم والتحول في تحالفاته الداخلية وعبء المتغيرات الإقليمية في ضوء عدم رسوخ قواعد الديمقراطية وتغليب الجانب الأمني، ويطل علينا المتغير الدولي/ الغربي الذي يتحرك تبعًا لقاعدة المصلحة ليؤثر في هذه المعادلةظ ليصبح لدينا في المحصلة النهائية إدراك داخلي وخارجي يدعم إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية لعدم القدرة على تجاوز نفوذ الإسلاميين وحضورهم في الشارع، علمًا بأن الغموض المتعمد من دعوات الإصلاح أتاح الفرصة للحكومة كي تحدد بنفسها حجم مشاركة الإسلاميين وطبيعتها وأدوارهم، وعبر العقود المتتالية كانت مواقف الجماعة من عوامل الاستقرار السياسي والاجتماعي للدولة الأردنية، ولم يُسجَّل في تاريخها اللجوء للعنف، وهذا أمر أدركه الملك الراحل وكانت من الأسباب الهامة وراء مقاومته للضغوط التي مارستها قوى إقليمية ودولية لضرب الحركة الإسلامية مكتفيًا بتحجيم هنا أو هناك.
…………………………
المصادر
(1) الحل الإسلامى في الأردن: الإسلاميون والدولة ورهانات الديمقراطية والأمن (د/محمد أبو رمانة وحسن أبو هنية).
(2) الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين (إخوان الأردن/حزب جبهة العمل الإسلامي).
(3) الحركات الإسلامية في الأردن (مجموعة باحثين) عرض/ وليد الزبيدي – الجزيرة نت.
(4) السقوط والاختفاء في عَمّان: صعود جماعة “الإخوان المسلمين” الأردنية وأفول نجمها .. ديفيد شينكر (معهد واشنطن).
(5) الإخوان المسلمون والنظام الأردنى: نحو تجربة راشدة (عبدالجبار سعيد -الجزيرة نت)
(6) النظام الأردني والإخوان المسلمون: هل هو طلاق ناعم؟(رانية الجعبري –السفير).