يتسابق عدة سياسيين في دول غربية، على رأسها فرنسا، على إهانة المهاجرين واللاجئين، حتى أن البعض منهم لا يترك فرصة إلا وأظهروا فيها عنصريتهم وازدواجيتهم، في سعي منهم إلى تأكيد تفوقهم العرقي على الآخر، دون تسامح أو مساحة للاختلاف العرقي أو الديني.
“عُد إلى أفريقيا”
لم تعد العنصرية في فرنسا حكرًا على طرف معيّن أو جهة محددة، فقد أصبحت ظاهرة وصلت قبّة البرلمان الذي ما فتئ سياسيو هذا البلد الأوروبي يبعثون فيه برسائل إلى دول العالم الثالث، يطالبونهم فيها باحترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات على وجه الخصوص.
أمس الخميس، اضطر البرلمان الفرنسي إلى تعليق جلساته بعد أن صرخ نائب من اليمين المتطرف في وجه نائب آخر يقاسمه الوظيفة نفسها والدور نفسه بعبارة “عنصرية”، ففي الوقت الذي كان فيه النائب من أصول أفريقية، كارلوس مارتينز بيلونغو، عن حزب “فرنسا المتمردة” اليساري يوجّه سؤالًا للحكومة عن سفينة مهاجرين عالقة في مياه البحر المتوسط، ويتساءل عن كيفية تعامل فرنسا معها، وهل ستدعو دولًا أخرى للمشاركة في إيواء هؤلاء المهاجرين؟ حتى صرخ في وجهه النائب المتطرف غريغوار دو فورنا بعبارة: “عُد إلى أفريقيا”.
يرجع تصرف العديد من الفرنسيين إزاء بعض المواطنين من أصول أجنبية، إلى كونهم يعيشون في بيئة نمت فيها ثقافة العنصرية منذ أمد بعيد.
ليست المرة الأولى التي يصدر فيها فعل عنصري عن اليمين المتطرف، فقد بنى هذا الحزب أطروحته على معاداة المهاجرين واللاجئين، لكنها المرة الأولى التي تكون تحت سقف البرلمان، ما يؤكد أن ظاهرة العنصرية تغلغلت في المجتمع الفرنسي ومؤسّساته.
يُذكَر أن حزب اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان قد تمكّن لأول مرة من تشكيل كتلة نيابية في البرلمان الفرنسي، بعد حصوله على 89 مقعدًا في الانتخابات الأخيرة مقارنة بـ 8 مقاعد في الولاية البرلمانية السابقة متقدمًا على فرنسا الأبية الذي حصل على 72 مقعدًا.
العنصرية في المؤسسات والمجتمع
مظاهر العنصرية في فرنسا بلغت كل مكان، في شارع ومؤسسات الدولة والمدارس والجامعات والمساجد، فلا خطوط حمراء لديهم، معاناة يومية لذوي الأصول الأفريقية في البلاد، حيث الألفاظ العنصرية والاعتداءات تلاحقهم منذ الصغر، كما تطاردهم الصور النمطية في الإعلام العمومي كما أمام القانون.
وقبل نحو شهرَين، قضت لجنة تابعة للأمم المتحدة بأن فرنسا مارست التمييز ضد امرأة مسلمة مُنعت من الحضور بالحجاب في تدريب مهني بمدرسة عامة، حسب وثيقة للأمم المتحدة، وهي ليست المرأة الوحيدة التي تمنع من العمل بسبب الحجاب.
التمييز والعنصرية ليسا حكرًا على المدارس فقط، في القضاء أيضًا، فقد سبق أن كشف موقع “ميديا بارت” الفرنسي إنه اطّلع على وثائق داخلية كتب فيها طلاب من آخر دفعة في المدرسة الوطنية للقضاء، تعليقات عنصرية من باب “فرنسا للفرنسيين” و”اطردوا العرب”.
تظهر العنصرية في ممارسات الشرطة أيضًا، فقد شهدت فرنسا حالات خطيرة من عنف قوات الأمن ضد الشباب الأجانب من وادي رويا، جنوب شرق فرنسا، إلى ساحل المانش شمال البلاد، حتى أن أعمال العنف والمضايقات من الشرطة “باتت روتينًا شبه يومي”.
حين يعشّش “فيروس” العنصرية في الأجواء؛ سيكون من الطبيعي أن يشجّع بعض العنصريين بعضا؛ ما يعزّز الظاهرة.
في فرنسا ممارسات عنصرية كريهة تتورّط فيها الدولة ذاتها، وليس الأحزاب المتنافسة فقط.
في بقية الغرب يبدو الأمر أخفّ وطأة، لكن حقبة ترامب كانت علامة فارقة.https://t.co/yWNdyN0ZVl— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) November 4, 2022
أظهرت فيديوهات وصور تعرُّض شباب من أصول أفريقية للضرب المبرح على يد الشرطة، كما أقدم الأمن الفرنسي في السنوات الأخيرة على تفكيك مخيمات وتجمعات عشوائية وأحياء فقيرة في جميع أنحاء فرنسا في خطوة ممنهجة لتضييق الخناق على مئات المهاجرين.
ووصل بهم الأمر إلى حد القتل، مثل وسام اليامني الذي مات أثناء اعتقاله عام 2012، وأبو بكر فوفانا الذي قُتل بعيار ناري أطلقه رجل أمن عام 2018، وأداما تراوري الذي قضى نحبه داخل ثكنة للدرك بعد ساعتَين من توقيفه في منطقة باريس عام 19 يوليو/ تموز 2016.
تبرز العنصرية في الملاعب أيضًا، فالعديد من لاعبي كرة القدم كانوا ضحية معاملات عنصرية على غرار اللاعب الجزائري إسلام سليماني، الذي اشتكى من تعرضه للعنصرية قبل نحو أسبوعَين في مباراة لفريقه بريست في الدوري الفرنسي لكرة القدم.
المجال الفني ليس بمنأى عن التصرفات العنصرية أيضًا، إذ سبق أن قالت المغنية كاميليا جوردانا في برنامج تليفزيوني شهير: “هناك فرنسيون من أصول عربية وأفريقية يتعرضون لعنف الشرطة، وهناك آلاف الأشخاص الذين لا يشعرون بالأمان أمامها، وأنا واحدة منهم”.
عنصرية تحت أنظار الدولة
يهدّد الخطاب الانفصالي وانتشار مظاهر العنصرية مستقبل فرنسا، لكن هذه العنصرية تتم تحت أنظار الدولة، فمع القيود التي يفرضها القانون على المدارس والملابس وأماكن العبادة وأنشطة المنظمات غير الحكومية والخطب التي تدعوا للكراهية والعنصرية، برزت حالات عدم المساواة في الحياة السياسية والاجتماعية بشكل أكبر.
يرجع تصرف العديد من الفرنسيين إزاء بعض المواطنين من أصول أجنبية، إلى كونهم يعيشون في بيئة نمت فيها ثقافة العنصرية منذ أمد بعيد، فالدولة تحمي ذلك، من خلال الدفاع عن المذنبين وسنّ قوانين لحمايتهم من الملاحقة القضائية.
تستفيد فرنسا كثيرًا من الأجانب خاصة الأفارقة في الوقت الحالي وفي الماضي أيضًا، لكن نظرة “الدونية” ما زالت مسيطرة.
أضفت القوانين التي صادق عليها البرلمان الفرنسي، من بينها قانون “تعزيز مبادئ الجمهورية” المعروف باسم “مكافحة النزعات الانفصالية”، طابع الشرعية للممارسات العنصرية ضد المسلمين، وعزز الإسلاموفوبيا.
العديد من القضايا تمَّ رفعها في المحاكم الفرنسية لتتبُّع المعتدين على الأجانب لكن لم يتم البتّ فيها، وإن تمَّ البتّ فيها فالعقاب غالبًا ما يكون مع وقف التنفيذ، ما جعل العديد من الحقوقيين يؤكدون أن النظام الفرنسي الرسمي يُشرعن العنصرية والكراهية.
تتأكد شرعنة النظام للعنصرية من خلال الخُطَب العنصرية تجاه الأجانب التي تصدر عن أرفع مسؤولي الدولة، ونعني بذلك الرئيس ماكرون الذي ما فتئ يهاجم الأجانب ويصفهم بأوصاف غير لائقة، ما دفع العديد من الأفارقة والعرب إلى مقاطعة بلاده اقتصاديًّا.
لولا أفريقيا لما كانت فرنسا
يعادي الفرنسيون من أصحاب البشرة البيضاء العرب والأفارقة، ويدّعون تفوقهم العرقي عليهم باعتبار العرق الأبيض أفضل وأرقى من العرق الأسود، لكنهم نسُوا أن الفضل لما هم فيه من تطور يرجع لأصحاب العرق الأسود، إذ سبق أن صرّح الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قائلًا: “دون أفريقيا، فرنسا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث”، للتأكيد على أهمية الدول الأفريقية لدى فرنسا خاصة من الناحية الاقتصادية، وهي الزاوية الأهم في العلاقات بين الدول.
سبق أن قال فرانسوا ميتران قبل أن يتقلد منصب الرئاسة: “دون أفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين”، ليتأكد بذلك الدور الكبير لدول أفريقيا في النهوض بفرنسا قديمًا وحديثًا ومستقبلًا أيضًا، ومع ذلك مظاهر العنصرية تتمدد ضدّ الأفارقة.
في ظل تصاعد العنصرية في اوربا وتحديدا فرنسا..
تم رفع جلسة البرلمان الفرنسي الخميس إثر توجيه نائب من حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، إهانة لزميله النائب اليساري الذي ينحدر من أصول أفريقية، حيث قال له “ارجع إلى أفريقيا”.pic.twitter.com/K9Ax3AqOk6— صوت السويد (@sweden_voice) November 4, 2022
نهبت باريس ثروات الأفارقة من ذهب وفضة ونحاس وحديد ومعادن كثيرة، ونفط وغاز وأورانيوم، فكل ما تنتجه الأرض يذهب إلى فرنسا دون أن تستفيد منه الشعوب الأفريقية، فقرارها السيادي بيد حكّام الإليزيه.
تستفيد فرنسا كثيرًا من الأجانب خاصة الأفارقة في الوقت الحالي وفي الماضي أيضًا، وخططها المستقبلية مبنية على ثرواتهم، لكن نظرة “الدونية” ما زالت مسيطرة على المجتمع الفرنسي ومؤسسات الدولة الأوربية، ما يجعل معاناة الأفارقة والأجانب هناك متواصلة.