تمثل “محمية آرنستو” الملاذ الآمن للقطط الضالة والمصابة التي فقدت أصحابها نتيجة إجرام النظام الذي لم يترك ساكنًا ولا متحركًا إلا واستهدفه، فلهذه الحيوانات الأليفة دور أساسي في المحافظة على التوازن البيئي، كما تعد صديقة للإنسان الذي اعتاد تربيتها منذ القدم لاعتبارات إنسانية ودينية ترتبط بمعاني العطف والرأفة بالحيوان.
تُعرّف المحمية نفسها بأنها “محمية تعتني بضحايا الحرب المنسيين (حيوانات سوريا) في ملاذ آمن ومن جميع الأحجام والأشكال والألوان، كلهم ناجون وكل منهم لديه قصته الخاصة به عندما فرّ صاحبه من القصف أو ولد في شوارع بلدة مهجورة ومدمرة حيث يكاد يكون البقاء على قيد الحياة مستحيلًا”. وقد حملت المحمية اسم قط كان يعيش عند سيدة إيطالية أسهمت في تأسيس ودعم المحمية بشكل كبير منذ بداية انطلاقها وحتى الآن.
تعد المحمية أول محمية تعنى بالقطط في سوريا، فقد بدأت عملها منذ ثماني سنوات في شرق حلب، قبل أن تستقر في إدلب بقططها التي نفقت وأصيب الكثير منها بإصابات مختلفة بعد أن شنت قوات النظام حملة همجية مكنتها من السيطرة على المنطقة وتهجير أهلها.
يروي محمد وطار، مدير المحمية لـ”نون بوست”، كيف انطلقت الفكرة ووصلت إلى مراحل متقدمة، قائلًا: “فكرة إنشاء المحمية انطلقت بعد حدوث حالات موت وإصابات عديدة بين البشر والحيوانات جراء قصف النظام لمناطق المدنيين، فتمّ تشكيل فريق تطوعي، بدعم من سيدة إيطالية، لإنقاذ الحيوانات والعناية بها، ثم جرى تخصيص مكان آمن لمعالجة القطط، وبقائها داخله لحمايتها من الرصاص وشظايا القذائف”.
تبلغ مساحة المحمية 2000 متر، وتضم ألفي قط، يشرف عليها 18 متطوعًا، كما تحوي عيادة بيطرية مجانية لعلاج القطط، إضافة لأنواع أخرى قليلة من الحيوانات بالمنطقة، مثل الكلاب والخيول والمواشي، وتتألف هذه المحمية من ساحة كبيرة نصفها بلاط لوضع صحون الأكل عليها، والنصف الثاني عبارة عن تراب لقضاء حاجة القطط، إضافة إلى أقسام عدة منها ما هو مخصص للأمهات والحبالى وحديثي الولادة، ومنها ما هو مخصص لقطط التخلي (التي تخلى عنها أصحابها) والقطط المعافاة، ومنها ما هو مخصص للحجر الصحي، والقطط المصابة إصابات حربية كبتر الساق أو اليد أو إصابات العيون.
وتحوي الأقسام المكيفة صيفًا وشتاءً سريرًا لكل قط تقريبًا يجلس فيه وسجادًا لمكان الإقامة والجلوس.
تتعرض القطط لمخاطر عديدة بسبب التكاثر العشوائي الذي يؤدي إلى نفور بني البشر منها، وإظهار بعض القطط عدوانية نتيجة اعتيادها بفترة من الفترات نهش الجثث البشرية، ما يؤدي للتخلص منها بطرق غير سليمة، إضافة إلى اانتشار الكلاب الضالة الشرسة غير الملقحة التي تشكل عدوًا فتاكًا بالنسبة لها، وذلك عدا القصف العشوائي الذي يمكن أن يسبب إصابات مباشرة لهذه القطط كحال بقية الحيوانات.
يلفت وطار إلى أن إدارة المحمية لا تسمح بتكاثر القطط ضمن المحمية، لأن أغلب القطط لديها مشاكل مرضية وعند التكاثر تزداد هذه المشاكل، لذلك يلجأ الفريق الطبي إلى تعقيم جميع الذكور عبر الخصي أو الحقن، كما يذكر أن المحمية تمنع التبني فلا يمكن لأي قط الخروج من المحمية، لأن الهدف هو تشجيع الناس على تبني قطط الشوارع، ومن جهة أخرى لا توجد آلية قانونية تضمن معاملة القط معامله حسنة.
تواجه المحمية عدة صعوبات، تتمثل بتوفير الطعام المجفف المخصص للقطط والمعلبات الخاصة وطريقة إدخالها من تركيا، إذ يعتمد فريق المحمية على تقديم الأطعمة الجاهزة والمطبوخة وبعض اللحم، وهذا جيد نوعًا ما حسب وطار، مضيفًا “المعاناة تشمل أيضًا صعوبة توفير اللقاحات والأدوية اللازمة، ورغم ذلك ففريقنا حريص عبر جولاته على تقديم الدواء ولقاحات الأمراض والسعار لها وللحيوانات المنزلية من كلاب وقطط”.
يختم وطار حديثه قائلًا: “الرسالة التي نحاول توجيهها للمجتمع “الراحمون يرحمهم الله”، إضافة إلى ضرورة الرأفة والرحمة بالحيوان وإنقاذه ورعايته إذا أصيب أو غاب عنه الطعام”.
وتعتمد المحمية في دعمها على السيدة الإيطالية والتبرعات الصغيرة الأخرى، التي لا تكفي أحيانًا لتغطية مصاريف العيادة البيطرية المسؤولة عن تقديم خدماتها لأربعين حالة يوميًا ليس لقطط المحمية فقط، بل للخيول والمواشي والكلاب في المنطقة القريبة منها.
يؤكد الطبيب البيطري العامل في المحمية، محمد دياب يوسف، أن العيادة البيطرية تقدم العلاج المجاني من أدوية، وفحص حمل بالإيكو، وأشعة لتشخيص الكسور، وتحليل مخبري لكشف الأمراض، وإسعاف ليلي لكل أنواع الحيوانات التي تأتي إليها والحيوانات الكبيرة التي لا تستطيع المجيء للعيادة مثل الأبقار والخيول، إلى جانب إجراء 15 عملية جراحية ضخمة شهريًا تشمل معالجة الكسور والفتق البطني واستئصال العين، وغيرها من الجروح التي تصيب البطن والقدم على وجه التحديد، ناهيك عن حالات التسمم والرضوض.
مضيفًا الطبيب “هناك تعاون كبير مع الدفاع المدني في استقبال الحالات المرضية التي يتم إنقاذها أو الحالات الطارئة الناتجة عن عمليات القصف أو الحيوانات التي تعرضت لحوادث سير أو سقوط حر من الطوابق أو تسمم بالمواد السامة الزراعية، حيث توضع هذه الحالات بعد علاجها في مصح بيطري لمتابعة العلاج والتغذية يوميًا وعلى مدار الساعة ريثما تستعيد نشاطها”.
ولم تغب وسائل الترفيه عن المحمية التي يعيش فيها 2000 قط، إذ تحتوي على بعض الأشجار ضمن المزرعة لتمارس الحيوانات هواياتها بالتسلق عليها، وبعض الألعاب التي تناسبهم مثل: فرشاة للاحتكاك فيها وكرات صغيرة للعب وأشكال إسفنجية وحبال ليف لحك وبرد مخالبها فيها.
يبدأ البرنامج اليومي للعناية بقطط المحمية منذ الصباح من خلال إعداد وجبة الفطور والحليب، ثم يتابع الطبيب البيطري المسؤول والممرض جميع القطط المريضة أو التي تشكو من أي مشكلة صحية ومعالجتها في العيادة الخاصة.
أما باقي أعضاء الفريق فيقومون بالتنظيف التام للمحمية بشكل يومي، ويشكل ذلك تنظيف الأرضية والأقفاص وأطباق الأكل والشرب، عدا عن اللعب معها لمنحها الشعور بالراحة والسعادة. وفي المساء يتم تحضير وجبة الطعام لها، خاصة للقطط المريضة منها، التي تحب أن تكون منعزلة.
محمد قسوم، ذو الثلاثين ربيعًا، عامل في المحمية منذ أكثر من سنتين ونصف، يقول لـ”نون بوست”، إن هناك عددًا كبيرًا من القطط من مختلف الأعمار والألوان، وهي متعددة الطباع، منها الهادئ ومنها متقلب المزاج، ومنها ما يحب المرح واللعب، ومنها الانطوائي، ومع الوقت نتعامل أنا وجميع أعضاء الفريق مع كل حالة بالطريقة التي تناسبها.
ينتاب قسوم شعور رائع وممتع إلى أبعد الحدود، عند التعامل مع مخلوقات تحب كل الأشخاص الذين يهتمون بها، فذلك يبني علاقة صداقة حقيقية مع القطط، حسب تعبيره، مضيفًا “لقد شاركت في العمل ضمن المحمية لما ينطوي عليه من رحمة بهذه المخلوقات، ولأنه عمل إنساني، ورغبة مني في تأمين حياة أفضل لهم في ظل ظروف الحرب الصعبة التي تمر على البلاد”.
وبدأت المحمية مؤخرًا في استقبال طلاب المدارس بأوقات متباعدة للاطلاع على نمط عيش هذه القطط ومشاهدة سلوكها عن قرب، بهدف حث الطلاب وخاصة الأطفال على رعايتها والرأفة بها وعدم التعرض لها وإيذائها.
يضيف قسوم قائلًا: “بدأنا تطبيق فكرة السماح لطلاب المدارس بزيارة المحمية ومشاهدة القطط، حيث نشرح أهمية العناية بها وأهميتها بالبيئة لهؤلاء الأطفال، وكيفية اقتناء قط في المنزل وأهمية مصادقته وإضفاء أجواء جميلة في المنزل، ولقد لاحظنا أن الأطفال الذين أتوا إلى المحمية كانوا سعداء جدًا”.
تشكل الجهود التي يبذلها كادر المحمية إضاءة مشرقة في نطاق الحفاظ على البيئة والتوعية المجتمعية بالأساليب الإنسانية للتعامل مع هذه الكائنات، كما تأخذ المحمية على عاتقها التوعية بطرق التعامل مع القطط والكلاب الضالة عبر منشورات دورية تنشرها على معرفاتها الرسمية.
يفرض قانون العقوبات السوري عقوباته على جرم قتل المواشي وحيوانات الجرّ والركوب فقط، بشرط أن تكون تلك الحيوانات مملوكة لشخص ما يسمى “صاحب الحيوان”، ما يعني أن هذا القانون لا ينطبق على قتل الحيوانات الشاردة من كلاب وقطط وغيرها، وهو ما يفاقم مشاهد إيذاء الحيوانات الأليفة التي يمارسها الأطفال دون وعي من جهة، وكرد فعل على العدوانية التي اكتسبتها هذه الحيوانات خلال سنوات الحرب من جهة أخرى، فضلًا عن استمرار النظام وميليشياته باستهداف كل من يعيش داخل جغرافية الشمال الغربي لسوريا من جهة أخرى.