تعرض سوق النيكل في الأسواق العالمية إلى صدمة كبيرة بعد أيام قليلة من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط الماضي، فقد وصلت الأسعار إلى مستوياتها القياسية حين ارتفعت بنسبة 250% لتكسر حاجز الـ100 ألف دولار للطن المتري، وسط حالة من القلق بسبب وقف الإمدادات الروسية التي تمثل نحو 9% تقريبًا من إمدادات النيكل وما يقرب من ثلث خام كبريتيد النيكل في العالم.
لم يعد النيكل – كما كان يظن البعض في السابق في ظل توافر البدائل – ذلك المعدن المستأنس، سهل الاستخراج، متواضع الأهمية، بل تحول خلال السنوات الماضية إلى أحد أبرز المعادن الإستراتيجية التي وضعتها القوى العظمى ضمن قائمة “معادن الأمن القومي” التي بات توفيرها ضرورة قصوى من أجل مستقبل آمن.
الأزمة التي أحدثها نقص هذا المعدن في السوق خلال الأشهر التسع الماضية، والهزة التي تعرض لها سوق الرقائق الإلكترونية والصناعات الحديثة، سلطت الضوء مجددًا على هذا العنصر الحيوي الذي من المرجح أن يشكل إلى جوار أقرانه من العناصر المعدنية الإستراتيجية ساحة كبيرة للتنافس العالمي بين القوى الكبرى.. فماذا نعرف عن النيكل؟
ما هو النيكل؟
يرمز للنيكل بـNi وهو اختصار لكلمة “Nickel” ويحتل العدد الذري 28 في الجدول الدوري للعناصر، ينتمي للمعادن الانتقالية الصلبة، وفي الغالب يكون لونه فضيًا ذا مظهر ذهبي نسبي، ويظهر في صورتين: إما في الصورة النقية خاليًا من أي معادن أخرى أو الصورة الممزوجة مع نظراء له من نفس الخصائص، وهو ما أوقع الكثير من الباحثين في خطأ التعرف عليه بداية الأمر.
ينتمي النيكل إلى جوار الثلاثي (الحديد والكوباليت والكادولينيوم) إلى فئة المعادن المغناطيسية، حيث يكتسب صفة جذب المعادن الأخرى عند درجة حرارة الغرفة، وله حضور قوي نظرًا لخصائصه الكيميائية الفريدة كونه من أكثر أنواع الفولاذ المقاوم للصدأ، ما يجعله عنصرًا أساسيًا في صناعة السبائك، حيث يدخل فيها بنسبة 10%، وقرابة 7% في سبائك الفولاذ، و3% في المسابك، بجانب 9% في الطلاء و4% في التطبيقات الأخرى، فهو يحتوي على عدد من الاستخدامات المتخصصة في التصنيع الكيميائي، مثل محفز الهدرجة.
تتباين الرؤى بشأن تاريخ اكتشاف النيكل، غير أن أكثرها إجماعًا تلك التي أرجعته إلى 3500 قبل الميلاد، حين تم استخراجه ممزوجًا بالبرونز من سوريا، وأقوال أخرى تشير إلى أن الصينيين أول من اكتشفوه بين عامي 1700 – 1400 قبل الميلاد، ضمن مادة نحاسية تسمى “باي ثونك” وتعني النحاس الأبيض، التي تتكون من 32% من النيكل بجانب 40% من النحاس و3% زنك.
وتعود تسمية المعدن بـ”نيكل” إلى الألمان، فقد وجدوا خامًا أحمر في جبال الخام، وتم تجميعها على أنها نحاس، لكن بعد فحصها فشلوا في استخلاص النحاس منها، فاعتقدوا أن هناك أشباحًا تحول دون استخراج المعدن من تلك المواد الخام، رغم إيمانهم بأن النحاس موجود في تلك المواد، وعليه أسموها “كوبفر نيكل” حيث تعني “كوبفر” النحاس و”نيكل” شيطان، وسمي بعد ذلك هذا الخام باسم النيكلاين أو النيكولايت.
أما اكتشاف النيكل كمعدن مستقل فيعود الفضل فيه إلى العالم السويدي أكسل كرونستت وذلك عام 1751م، ثم توالت الاكتشافات التي تعدد خصائص المعدن كفلر مختلف عن النحاس، ثم استخراجه بدرجات نقاء عالية، وذلك تمهيدًا لوضعه ضمن المجموعة الفرعية الثامنة من مجموعات العناصر الانتقالية التي تقع بين المجموعتين الرئسيتين الثانية والثالثة من الجدول الدوري للعناصر، ليأتي بعد الحديد والكوبلت اللذين يشبهانه في كثير من الصفات الكيميائية.
ويوجد المعدن في صخور القشرة الأرضية بتركيز يصل إلى 90 ملغرامًا لكل كيلوغرام، وأحيانا في البحر لكن بتركيز أقل لا يتجاوز نحو ملغرام لكل لتر، ويمكن أن يوجد في المنشآت النووية كمادة ملوثة من تشغيل المفاعلات، كما أنه يعد واحدًا من المعادن المشعة الأقل حراكًا في البيئة.
كان أول دخول للنيكل في صناعة الصلب عام 1889، لتبدأ مرحلة جديدة من الثورة المعدنية الصناعية، يعقبها موجات من التنقيب في مختلف دول العالم عن هذا المعدن الذي أثبت نفسه كأحد العناصر الرئيسية في الصناعات الإلكترونية الدقيقة، لينضم سريعًا إلى قائمة المعادن المتصارع عليها بين القوى الصناعية الاقتصادية الكبرى.
الأهمية الإستراتيجية
تنبع أهمية النيكل من أنه عنصر دائم الحضور في معظم الصناعات المتقدمة التي ستكون ركيزة الانتقال نحو المستقبل، فهو الضلع الأكبر في صناعات السبائك، حيث يشكل 13% من المعادن الداخلة فيها، بجانب استخدامه في صناعة الصلب المقاوم للصدأ، فـ60% من إنتاجه يدخل في تلك الصناعة.
وبجانب ذلك يدخل في الصناعات الغذائية وبراميل نقل المواد الكيميائية وصناعة الأجهزة الإلكترونية، علاوة على استخدامه الحيوي في صناعة مكونات الصواريخ والمركبات الفضائية وصناعة المصابيح القلوية والمبادلات والعوازل الحرارية، إضافة إلى صناعة العملات المعدنية وصناعة الخزف والفخار وأطقم خلاطات المياه.
ويستمد المعدن الإستراتيجي موقعه الإستراتيجي كونه أحد مكونات الأقطاب الكهربائية خاصة القطب السالب (الكاثود) مثل النيكل – ثاني أكسيد المنغنيز، وهو ما يجعله أحد مرتكزات صناعة البطاريات الكهربائية وضلعًا أساسيًا في صناعة سيارات المستقبل الكهربائية، بجانب استخدامه في بعض السلاسل، وفي المجوهرات مع الذهب للحصول على قوة أفضل وألوان أصلية.
وجاءت المعركة الأخيرة في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين المعروفة باسم “معركة الرقائق”، قبل عامين، لتؤكد أهمية النيكل بصفته لاعبًا محوريًا في ميدان الرقائق الإلكترونية التي يتوقع بعض الباحثين أن تكون ساحة النزاع الكبرى بين القوى العظمى خلال السنوات المقبلة.
خريطة الإنتاج
تتصدر إندونيسا قائمة الدول الأكثر إنتاجًا للنيكل في العالم، بواقع 500 ألف طن سنويًا، وباحتياطي قدره 21 مليون طن، بما نسبته 22% من احتياطي المعدن، وتمتلك 13 مصهرًا لإنتاج النيكل، كما يوجد 22 منجمًا قيد التطوير، ويتركز هذا العنصر الحيوي في جزيرة سولاويزي، وكذلك في مقاطعة مالوكو الشمالية، ويعتبر أحد أبرز الموارد الاقتصادية التي تعتمد عليها الحكومة الإندونيسية في تيسير أمورها المالية.
حول هذا المعدن النفيس تلك الدولة المؤلفة من عدة جزر صغيرة في المحيطين الهادئ والهندي إلى قبلة عشرات الشركات العالمية ومعتددة الجنسيات، على رأسها شركات تصنيع السيارات الكهربائية والرقائق الإلكترونية، التي أدارت دفتها صوب تلك البقعة الغنية معدنيًا.
وثانيًا تحل الفلبين بإنتاج وصل في 2016 إلى قرابة 347 ألف طن، كما أنها تمتلك حجم احتياطي عالمي وصل إلى 4.8 مليون طن، لكن إنتاجها تراجع العام الماضي ليصل إلى 230 ألف طن فقط، وذلك بسبب إغلاق وزارة البيئة والموارد الطبيعية 23 منجمًا.
وفي المركز الثالث تأتي أستراليا، بمعدل إنتاج يصل إلى 170 ألف طن، واحتياطي يبلغ 20 مليون طن، بما يمثل 21% من الإجمالي العالمي، ويتركز المعدن في ولاية غرب أستراليا، ويأتي معظم الإنتاج من المناجم في Mount Keith وLeinster، الواقعين شمال كالغورلي.
كما تنضم البرازيل إلى قائمة الكبار في إنتاج النيكل بإنتاج يصل إلى 73 ألف طن، وباحتياطي يصل إلى 16 مليون طن، ورغم تراجع الإنتاج في البلاد خلال السنوات الخمسة الأخيرة، تذهب المؤشرات باتجاه استعادة المجال لعافيته مرة أخرى، لا سيما بعد دخول شركة التعدين البرازيلية Vale، وهي واحدة من كبرى الشركات المنتجة للنيكل في العالم، في مشروعات عديدة لاستخراج المعدن.
وكانت روسيا ثالث أكبر دولة منتجة للنيكل في العالم عام 2020 بعد إندونيسيا والفلبين، بمعدل إنتاج وصل إلى 280 ألف طن، حتى باتت الوجهة الأولى لأوروبا لاحتياطيات هذا المعدن الإستراتيجي بإجمالي تصدير بلغ 7% من الإجمالي العالمي أي نحو 6.9 مليون طن، لكن تراجع الإنتاج مؤخرًا بسبب الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد، لا سيما التطورات الأخيرة بشأن الحرب والعقوبات المفروضة عليها من الغرب.
وتزاحم كندا الدول ذات الإنتاجة العليا في قائمة الكبار، إذ يبلغ إنتاجها 210 ألف طن متري، لتعد واحدة من أكثر الدول خارج آسيا إنتاجًا للنيكل في العالم، كذلك كاليدونيا الجديدة (مجموعة خاصة في أوقيانوسيا بفرنسا) التي تنتج نفس إنتاج كندا تقريبًا وسط مؤشرات بزيادة معدلات الإنتاج خلال السنوات القادمة.
التنافس وحجم الصراع
القراءة الأولى لخريطة الدول الأكثر استهلاكًا للنيكل تكشف بشكل كبير عن حجم الأزمة بالنسبة للدول التي تتعامل مع هذا المعدن كمسألة أمن قومي، وتميط اللثام قليلًا عن حجم الصراع والنزاع المتوقع مستقبلًا لضمان الكميات اللازمة لدعم الصناعات الإلكترونية والدفاعية الدقيقة، وهو ما يعني بشكل أكثر وضوحًا أن تكون الدول ذات الإنتاجية العليا أهدافًا مشروعة لتلك القوى المستهلكة.
وتتصدر الصين كأكبر مستهلك للنيكل في العالم، إذ تستأثر وحدها بـ50.4% من الإنتاج العالمي للمعدن الذي تستخدمه بشكل أساسي في إنتاج الفولاذ المقاوم للصدأ إلى جانب الكروم (نحو 85% من حجم الاستهلاك)، علاوة على استخدامه في الطلاء لتوفير طبقة قوية ومقاومة للماء ومقاومة للتآكل أيضًا، أو لإنقاذ الأجزاء البالية من الآلات، بجانب الاستخدام التقليدي الشهير في صنع السبائك والبطاريات.
وتحل الولايات المتحدة في المرتبة الثانية في قائمة الدول الأكثر استهلاكًا للنيكل، مع الفارق الكبير في حجم الاستهلاك بينها وبين الصين، فالأولى تستهلك 8.1% فقط من الإنتاج العالمي، وذلك في صناعة الفولاذ، إلا أن الاستخدام الأكبر في أمريكا في تصنيع قطع العملات النقدية، حيث يتم دمجها مع معادن أخرى مثل النحاس، وقد ظهرت الحاجة له مؤخرًا مع ظهور تكنولوجيات جديدة في مجال النقل والاتصالات مثل المركبات الهجينة ووحدات البطاريات لأجهزة الكمبيوتر المحمولة وصنع الأدوات الكهربائية.
وجاءت اليابان كثالث أكبر مستهلك للنيكل في العالم، حيث تستخدم 7.5% من إجمالي الإنتاج في عمليات التصنيع المختلفة مثل بطاريات نيكل هيدريد، وفي تصنيع الحديد والفولاذ المقاوم للصدأ، وهي الاستخدامات الصينية ذاتها، مع الوضع في الاعتبار أن الصين واليابان كلتاهما تستورد من نفس الدول المنتجة للنيكل، وهو ما قد يحمل دلالات قوية بشأن التنافس بينهما مستقبلًا لتأمين الكميات المطلوبة من هذا المعدن.
صراع استثماري بطابع قومي
شهدت الأعوام الثلاث الأخيرة، منذ تفشي جائحة كورونا (كوفيد 19)، هرولة عشرات شركات التعدين العالمية من أجل البحث عن موطئ قدم لها في الدول ذات الإنتاجية العالية من النيكل، في محاولة للحصول على حصة من كعكة الاحتياطي العالمي بما يضمن العبور نحو المستقبل بأدواته الكاملة.
ففي مايو/أيار الماضي أعلن العملاق التعديني الصيني، شركة سي إن جي آر أدفانسد ماتيريال (سي إن جي آر) عن حزمة استثمارات لها في 3 مشروعات جديدة في إندونيسيا لإنتاج النيكل غير اللامع، وذلك بهدف زيادة الإنتاج بمقدار 120 ألف طن سنويًا، لتلبية الطلب المتزايد على بطاريات السيارات الكهربائية الذي يمثل المعدن عنصرًا رئيسيًا في صناعتها.
الشركة الصينية ضخت استثمارات أخرى في مشروعين آخرين مع شركة ريغكويزا إنترناشونال الخاصة المحدودة، العام الماضي، لاستخراج النيكل غير اللامع في جزيرة سولاويزي الإندونيسية، بسعة إجمالية سنوية تبلغ 60 ألف طن، بخلاف الاتفاق الذي توصلت إليه مع مجموعة تسينغشان هولدينغ العملاقة للنيكل، التي ستزودها بـ40 ألف طن من المنتج.
ومن آسيا إلى إفريقيا، التي أصبحت قبلة شركات التعدين العالمية مؤخرًا، لما تمتلكه من ثروة تعدينية هائلة، إذ إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال قراءة إحياء العالم لاهتمامه بالقارة السمراء خلال السنوات الأخيرة بعد سنوات من الجفاء، بمعزل عن هذا الملف الحيوي، حيث تحتل كل من زامبيا وزيمبابوي وجنوب إفريقيا مرتبة متقدمة في قائمة الدول المنتجة للنيكل، وهو ما أسال لعاب الكيانات الكبرى، وعلى رأسها شركة “بي إتش بي” الأنغلو أسترالية، التي أعلنت عن الاستثمار في مشروع عملاق للنيكل بتنزانيا تصل قيمته إلى 650 مليون دولار، بهدف تأمين المعادن اللازمة لصناعة السيارات الكهربائية.
وكانت الشركة الأسترالية قد أعلنت في وقت سابق استثمار 100 مليون دولار في شركة التعدين البريطانية الخاصة “كابانغا نيكل” المسؤولة عن تطوير المشروع التنزاني، حيث ستضخ قرابة 40 مليون دولار مباشرة في الشركة البريطانية و10 ملايين أخرى في شركة لايف زون المسؤولة عن تقنيات المعالجة والتكرير، بجانب ضخ مبلغ إضافي قدره 50 مليون دولار، وبذلك ستصبح حصتها 17.8% في العملاق البريطاني.
وفي 2020 وقعت شركة “باريك جولد” واحدة من كبرى شركات التعدين في كندا والعالم، مشروعا مشتركًا مع تنزانيا، لاستخراج عدد من المعادن الإستراتيجية، إذ تهدف لإنتاج 40 ألف طن سنويًا من النيكل على الأقل و6 آلاف طن من النحاس و3 آلاف طن من الكوبالت.