مثّل ظهور زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر متحدثًا وواعظًا في خطبة الجمعة الأخيرة، تحولًا مهمًّا في سلوكه، خصوصًا أنه الظهور الأول له بعد اعتزاله العمل السياسي منذ شهرَين تقريبًا، فقد ظهر الصدر في حركته الأخيرة بمظهر رجل الدين أكثر من مظهر رجل السياسة، وهو على ما يبدو يحاول أن يؤسّس صورة نمطية جديدة له، بل تشير إلى أن الصدر بدأ يجد نفسه في إطار يتجاوز العمل السياسي، ويقترب أكثر من طرح نفسه كخيار مهم في مرحلة ما بعد المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني.
ورغم أن الصدر لا يمتلكُ مؤهّلًا حوزويًّا يُتيح له الدخول في سباق المرجع القادم، إلا أنه سيكون رقمًا صعبًا في طريق هذا المرجع، وقد يواجه المرجع القادم متغيرًا مهمًّا، تحديدًا في مسألة العلاقة مع التيار الصدري وزعيمه الصدر، الذي وإن لم يطرح نفسه كأحد الخيارات المرشَّحة في مرحلة ما بعد السيستاني، إلا أنه بالتأكيد سيكون له موقف مؤثر من عملية اختيار المرجع القادم.
إذ يعتبر مقتدى الصدر من أهم الداعين إلى أن يكون المرجع القادم عراقي، وله مواقف حاسمة من طبيعة الدور الإيراني في العراق، كما أنه يتمتع اليوم بنفوذ سياسي كبير في العراق، ويمتلك شبكات اقتصادية وعسكرية واجتماعية مؤثرة في الشارع العراقي.
لماذا ظهر الصدر هذه المرة بمظهر رجل الدين؟
ممّا لا شكّ فيه أن شرعية الصدر الدينية تعرّضت لضربة قوية بعد الخطوة التي أقدم عليها المرجع الشيعي كاظم الحائري، عندما طالب مقلّديه في أغسطس/ آب الماضي بتقليد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وليس أي مرجع عراقي آخر، والمعروف أن أغلب مقلّدي الحائري هم من أتباع التيار الصدري، بناءً على توصية سابقة من المرجع الشيعي السيد محمد صادق الصدر، والد مقتدى، قبل وفاته.
ورغم أنه لم يثبت أن الصدر قد قلّد الحائري في أي مرحلة من المراحل، إلا أن هذا لا يمنع من القول إن التيار الصدري اعتمد العديد من الفتاوي الدينية التي أصدرها الحائري خلال الفترة الماضية، وتحديدًا خلال فترة عمل جيش المهدي التابع للتيار.
يمكن القول إن الصدر يحاول اليوم ترميم شرعيته الدينية التي هدمها الحائري، بل الأكثر من ذلك يحاول أن يجعل من نفسه مرجعًا سياسيًّا ودينيًّا للتيار، دون الحاجة للبحث عن مرجع دين آخر، فالتيار الصدري في إطاره العام تيار سياسي أكثر من كونه تيارًا دينيًّا، وعلى ما يبدو يحاول الصدر إبقاء الوضع الراهن كما هو، حتى يحصل على المرتبة الدينية التي تُبيح له أن يكون المرجع الديني الرئيسي للتيار، بل الأكثر من ذلك جعل نفسه الوريث الشرعي للخط الصدري داخل حوزة النجف، التي تتصارع داخلها العديد من العوائل الدينية، وأبرزها عائلة الحكيم والسيستاني.
إن محاولة الصدر إظهار نفسه بمظهر رجل الدين العراقي، الذي يمزج العمل السياسي بالإرشاد الديني، كما حاول فعل ذلك في خطبة الجمعة الأخيرة، سيمنحه في المستقبل هامشًا كبيرًا للحركة، في استنساخ كبير لتجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بحيث يكون هو بمثابة المرشد العام الذي تستمد الجماعة شرعيتها السياسية منه، إلا أن هذه الخطوة قد تواجه عدة تحديات، أبرزها موقف القوى السياسية الشيعية وإيران اللتين ستحاولان كبح جماح الصدر عن الوصول إلى هذا الطموح.
رسائل غير مباشرة للإطار التنسيقي
حاول الصدر في ظهوره الأخير إرسال رسائل عديدة لقوى الإطار التنسيقي، أهمها أنه ما زال حاضرًا وإن غاب عن العمل السياسي، فهو يريد إفهام قوى الإطار التنسيقي ألّا تذهب بعيدًا في خياراتها السياسية بعد أن نجحت في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وألّا تستأثر بوضع الدولة والنظام السياسي، خصوصًا بعد التغيرات الإدارية والأمنية العديدة التي أجراها رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني.
إذ وجد الصدر أن بقاءه معتزلًا قد يعرّض نفوذ التيار الصدري للخطر داخل العملية السياسية، وهو نفوذ حرص التيار الصدري على ترسيخه خلال فترة حكومة مصطفى الكاظمي، فالصدر يدرك أهمية الحفاظ على هذا النفوذ وإدامته، من أجل مستقبل التيار داخل العملية السياسية.
كما أنه يدرك خطورة ترك الساحة السياسية لينفرد بها غريمه السياسي رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي يحاول اليوم إعادة تشكيل العملية السياسية وفق رؤيته السياسية، وقطع الطريق على أي فرصة يحاول الصدر توظيفها لإفشال الحكومة الجديدة.
إذ ترى قيادات التيار الصدري أن الإجراءات التي يعتمدها السوداني في الإعفاءات من المناصب الإدارية، والتي طالت بعض المحسوبين على التيار، قد تنهي صمت الصدر، وقد تنتج ردة فعل غير متوقعة منه، فضلًا عن أن تلويح السوداني باستمرار أنه سيحارب الفساد وسيسعى لفتح العديد من الملفات، يمثّل تهديدًا غير مباشر لبعض المحسوبين على التيار، وهناك خشية من أن يتمَّ اعتماد سياسة انتقائية في هذا السياق.
على أرض الواقع، إن الشقاق بين الصدر وإيران واضح بشكلٍ كبير، ومع ذلك ما زالت طهران تعتبر الصدر مصدر قوة في العراق، خصوصًا إذا ما تعرّضت الحالة الشيعية لتهديد خارجي مشترك، فحتى شعار الوطنية العراقية التي يرفعها الصدر قد لا تعني بالضرورة معاداة إيران، بقدر ما تعني إعادة تشكيل الدور الإيراني في العراق، بالإطار الذي يجعل الصدر بمنزلة الشريك وليس التابع لإيران.
وهذا الأمر قد تتفهّمه إيران وتحاول احتواء الصدر من خلاله، بل حتى هناك إمكانية الضغط على قوى الإطار التنسيقي بعدم اعتماد سياسة اجتثاثية لنفوذ التيار الصدري داخل الدولة، ومحاولة تجنُّب استفزازه على الأقل خلال السنة الأولى من عمر حكومة السوداني.