لعلّ أبرز الهواجس التي تدفع شباب ومثقفي كل أمة للعمل بجدّ، بل لتسخير أعمارهم وأوقاتهم لخدمة مجتمعاتهم وقضاياها، يتمثّل بحيوية الأمة، أي بقائها حية فاعلة، ذات مكانة وتأثير بين أمم العالم.
لكن الأمة التي تركن إلى ما عندها من منجزات ومقومات فتفتُر همّتها ويتكاسل أبناؤها عن العمل، قد تحافظ على مكانتها بالقياس للنقطة الزمنية التي وقفت عندها، إلا أنها في تأخُّر مستمر بالقياس مع سيرورة حركة التاريخ وتقدُّم ونشاط الأمم والمجتمعات الأخرى، لتصبح إن طال خمولها على هامش العالم.
على أنه وفي طريق العمل لإبقاء حيوية الأمة متقدة قد يقع الناس في خطأين نقيضَين، خطأ الذين يريدون الجمود على كل تفاصيل مكتسبات مجتمعهم التاريخية ومنتجاتهم المادية والفكرية، ظنًّا منهم أن ذلك يعني الحفاظ على تفرُّد مجتمعهم وتميُّزه وقوته؛ وخطأ الذين يسيرون مع كل موجة يجدونها في مجتمعات أخرى بدعوة مواكبة التطور، رغم أنها قد تخالف تعاليم الدين والجغرافيا والتاريخ وطبيعة الحياة والاحتياجات في بيئاتهم.
فترى أن الذي دفع الفريقَين إلى الرأي الذي تمسّكا به هو الحرص على مكانة مجتمعاتهما، فالأول حرص عليها من خلال الحفاظ على هويتها ونسيَ أنها بحاجة إلى تجديد، والثاني حرص عليها من خلال نقل كل جديد إليها ونسيَ خصوصيتها الحضارية، والحرص على هذا الأمر يحتاج فاعلية مستمرة، ونشاطًا إنسانيًّا متجددًا، حتى لا يطوي تلك المجتمعات التاريخ فلا تُذكَر بشيء.
في هذا التقرير الذي نستفتتح به ملف “مجددون”، نحاول قراءة مفهوم التجديد وتأصيله ومجالاته في الدين والحياة، قبل أن نستعرض في تقاريرنا المقبلة سيرة ومسيرة عدد من أبرز مجددي الأمة المعاصرين وإرثهم.
التجديد في التصوّر الإسلامي
يعدّ مفهوم التجديد أحد المصطلحات السارية عبر العصور في الأدبيات الإسلامية، وإن كان القرن العشرين قد شهد ذروة النقاش حوله، ويعدّ المجدد صاحب منزلة رفيعة، يتنافس طلبة العلم والعلماء على الفوز بنصيب منها، انطلاقًا من المكانة السامية لحفظ الدين، والدعوة إليه وتبليغ تعاليمه، وصون حياة الناس والمجتمعات المسلمة.
بل قد يتنافس أبناء التيارات والمذاهب الإسلامية المختلفة من خلال وصف أئمتهم وعلماء مذهبهم بأنهم مجددون، هذا ما يقودنا إلى ضرورة الاطّلاع على مفهوم “التجديد” و”المجدد”، وما يتعلق بذلك في التصور الإسلامي عن الحياة.
ينطلق علماء المسلمين في حديثهم عن التجديد من حديث نبوي شريف، أخرجه أبو داود في “سننه” عن النبي ﷺ أنه قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها”، وقد اتفق على تصحيح هذا الحديث الأئمة الحفّاظ، كالحاكم والبيهقي وابن حجر وغيرهم، ولا بدَّ للقارئ من أجل فهم التجديد في التصور الإسلامي من الوقوف قليلًا عند هذا الحديث ودلالاته.
من المفاهيم الشائعة بين الناس أنه يوجد عالم واحد مجدد يأتي في أول كل قرن هجري، يجدد للأمة ما بليَ من حياتها، ويعيدها إلى دينها، وأرى أن لهذا الفهم الضيق أثرًا سلبيًّا على سلوك الناس، حيث يحصرون التجديد في رجل واحد يأتي كل 100 عام، ويلقون المسؤولية عن كاهلهم بانتظار هذا المجدد الذي سيصلح كل شيء.
ولعلّ هذا الفهم قريب من فكرة المهدي عند الشيعة، الذين ينتظرون خروج رجل يصلح لهم كل شيء، وإن كان الخميني قد حاول نزع هذه الفكرة من رأسهم من خلال فكرته البديلة “الولي الفقيه”، بل لعلّ هذه حيلة نفسية تجعل الناس يميلون إلى الكسل ويتهرّبون من مسؤولياتهم عن تخلف مجتمعاتهم، بانتظار ذلك الرجل الذي سيلقيه إليهم القدر.
ولو رجعنا إلى وقفات العلماء حول معاني هذا الحديث، لانقلبت كل تلك التصورات، حيث توقفوا وتكلموا حول النقاط التالية:
1- المجدد ليس عالم الدين فقط، بل مجالات التجديد متعددة متنوعة واسعة، بقدر اتّساع حياة الناس وتشعُّبها، كما قال ابن الأثير في تعليقه على “جامع الأصول”: “فإن كل قوم ينفعون بفن لا ينفع به الآخر، إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء ويتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر”، فهو يتحدث عن أن التجديد يكون في السياسة كما يكون في الدين، ولذلك اتفق العلماء على عدّ عمر بن عبد العزيز من المجددين عندما أعاد القيم والمبادئ السياسية العادلة في الحكم.
2- لا يلزم أن يكون المجدد على رأس كل قرن، بل استمرار تقلبات الحياة يقتضي استمرار وجود المجددين، فقد اختلف العلماء في رأس القرن متى يبدأ، بعد 100 عام من الهجرة أم من بعثة النبي أم من وفاته.. كما اختلفوا في تقديرات أخرى تتعلق بالتحديد الزمني، فهل هو في أول القرن أم في آخره، وهل رأس القرن على التحديد أم على التقريب كما قال المناوي في “فيض القدير”.
وتجعل هذه الاختلافات الاحتمالَ يشمل كل القرن لا رأسه فقط، ولذلك قال المناوي في “فيض القدير”: “ولما كان ربما يتوهم من تخصيص البعث برأس القرن أن القائم بالحجة لا يوجد إلا عنده، أردف ذلك بما يبين أنه قد يكون في أثناء المئة من هو كذلك، بل قد يكون أفضل من المبعوث على الرأس”.
3- كما أن المجدد لا يكون رجلًا واحدًا فقط، بل كلمة “من” في هذا السياق تحتمل الجمع، وهو ما رجّحه جماعة من العلماء، فقال الذهبي في “تاريخ الإسلام”: “الذي أعتقده من الحديث أن لفظ “من يجدد” للجمع لا للمفرد”، وقد علل ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” هذا التوجه بقوله: “فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد”.
فإذا كان التجديد في مختلف مجالات الحياة وكان المجددون متعددين ولم يتعيّن ذلك في رأس القرن، عادت المسؤولية التي كان المجتمع قد تهرّب منها بإلقائها على المجدد المنتظَر، لتلقى على عاتق المجتمع بعمومه.
معنى التجديد ومجالاته
قد يختلف الناس في الحاجة للتجديد، ولكن الخلاف الأكبر يكون في تحديد مفهوم التجديد ومجالاته، حتى قال بعضهم إنه لا يوجد تجديد في الإسلام بل التجديد في المسلمين، والذي تدلّ عليه الأدلة اللغوية والشرعية أن التجديد قد يكون بالتبديل، تبديل القديم بشيء جديد، وقد يكون بصيانة القديم ممّا اعتراه وتنظيفه ممّا علق به، وإعادته إلى سالف عهده كما كان عندما كان جديدًا، أو بعبارة العلّامة ابن عاشور في مقالته “من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”: “تجديد الشيء هو إرجاعه إلى حالة الجدة، أي الحالة الأولى التي كان الشيء عليها في استقامته وقوة أمره”.
والتجديد الذي تحتاجه المجتمعات المسلمة هو تجديد في الدين وله مجالاته، وتجديد في شؤون الحياة وله مجالاته، وإن كان قد دلَّ الحديث على ضرورة التجديد في الدين، فقد دلت الأدلة العقلية والتاريخية والحياتية على ضرورة التجديد في شؤون الدنيا.
فمن مجالات التجديد في الدين:
1- تجديد الإيمان في قلوب الناس، وهذا يكون بجهد الدعاة والوعّاظ، ويحتاج إلى جهد شخصي من كل فرد من أفراد المجتمع، فحتى يعود الدين جديدًا لا بدَّ من إذكاء جذوته في قلوب المؤمنين به، حتى يكون المهيمن على ضمائرهم ومشاعرهم والضابط لأقوالهم والموجّه لأفعالهم.
أي الانتقال من كون الدين شيئًا محفوظًا على رفوف المكتبات معروفًا في الأذهان، محصورًا في المساجد، إلى كونه دمًا مندفقًا يجري في عروق الناس ويدفعهم ليكونوا كما كانت الأجيال الأولى عندما كان الدين جديدًا في عبوديتهم وخضوعهم لله تعالى، وفي نشاطاتهم الحياتية وعمارتهم للأرض.
وهذا المجال من التجديد من أكثر المجالات حاجة إلى الدوام عليها، لأن الناس من خلال انشغالهم بالدنيا ومتطلباتها، واهتمامهم المشروع بالأهل والأموال والأولاد، قد يَخْلَق الإيمان في قلوبهم فيحتاج إلى تذكير ووعظ وتجديد، كما أخرج الطبراني في “المعجم الكبير” أن رسول الله ﷺ قال: “إنَّ الإيمان لَيَخْلَق في جوف أحدكم كما يَخْلَق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم”.
ولعلّ هذا أحد أهم مسؤوليات خطيب الجمعة، فهو تذكير إجباري وتجديد للإيمان في قلوب الناس بعد انشغالهم بالدنيا طيلة أيام الأسبوع، وهذا التجديد وإن كان مطلوبًا لذاته عبودية لله، إلا أنه لا يخفى دوره وأثره في مجالات الحياة الأخرى، كما بيّن ذلك الشيخ القرضاوي في كتابه “الإيمان والحياة”، حيث كان موضوع الكتاب بيان أثر الإيمان في الحياة العملية للناس.
2– العودة إلى النبع الصافي الذي لم يشب، إلى القرآن والسنّة، لتخليص الحياة الدينية ممّا علق بها خلال القرون المتطاولة، حيث تكون تلك العودة من خلال جهود تراكمية من نظرات وأبحاث نقدية علمية، تخلّص الدين ممّا علق به من شوائب، حيث قد تأتي هذه الشوائب من خلال تطور حياة الناس المستمر، وتفاعُل المجتمعات المسلمة مع غيرها من المجتمعات بما فيها من عقائد وأفكار، فتنحرف حياة الناس عن تعاليم الدين الأصلية.
ولعلّ انتشار البدع والخرافات من أخطر ما هدد المسلمين خلال تاريخهم، حيث بيّن كثير من المؤرخين أن ذلك كان أحد أهم أسباب سقوط الخلافة العثمانية، إذ قد أوصلت تلك الخرافات المجتمعات المسلمة إلى حالة من الركون والضعف والتواكل، والبُعد عن العقلية العلمية، والبُعد عن قانون السببية.
3- التجديد في الفتوى، فالفتوى هي تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع الجارية في حياة الناس، ولما كانت حياة الناس في تطور وتغيُّر مستمر، لا بدَّ من تجديد في الفتوى لتكون الفتاوى منزلة على الوقائع الجارية في حياة الناس اليوم، فتلائمها، لا أن تؤخذ الفتاوى التي نزلت على حياة الناس في عصور سالفة لتطبَّق على وقائع اليوم.
ولذلك قال العلماء إن الفتوى تتغير بتغيُّر موجباتها، فقد تتغير الفتوى لتغيُّر الزمان أو المكان أو الحال أو العُرف كما قال علماء الأصول، وقد عدّ ابن القيم جمود فقهاء عصره وعدم تقديمهم اجتهادات جديدة تلائم المتغيرات، من أسباب فساد الحياة السياسية.
4– الاستجابة لمقتضيات ومتطلبات العصر، ولعلّ هذا المجال يحتاج إلى جهود كبيرة من العلماء والباحثين، فهو يدل على أن الدين يصلح لكل زمان ومكان، فإن الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية لدى الناس تأتي في كل عصر بمتطلبات جديدة، وقد جاء الإسلام بمبادئ وتوجيهات عامة وقواعد، يستطيع الناس من خلالها الاستجابة لمتطلبات كل عصر.
فلم يهتم السابقون على سبيل المثال باستنباط المنهج الحضاري في الإسلام، ولم يؤصّلوا لنظرية سياسية شاملة، ولم يتحدثوا عن الاقتصاد الكلي، وإن تحدثوا عن بعض الأحكام الجزئية في هذه المجالات، ليس تقصيرًا منهم ولكن لأن هذه المفاهيم لم تكن مطروحة في ذلك الزمان.
لكن الحديث عن ذلك اليوم بات استجابة لحاجات عصرية ملحّة، حتى يستطيع المجتمع المسلم أن يواكب التطور، إلى غير ذلك من المجالات الفكرية والفلسفية الجديدة التي تحتاج إلى استجابة في الدراسات الإسلامية، فإذا استطاع علماء الإسلام المتقدمون التعامل مع الفلسفة اليونانية أو أنماط الحياة الجديدة التي اطّلعوا عليها انطلاقًا من فهمهم للدين، فيجب على علماء العصر أن يكونوا كذلك.
والاجتهاد والتجديد في هذه المجالات واسعان مستمران لا ينقطعان، وقد قال القرضاوي في كتابه “موجبات تغير الفتوى”، في ردّه على من ادّعى انتهاء عصر الاجتهاد: “وأما قولهم ما ترك الأول للآخر شيئًا، فهو قول مردود، فكم ترك الأول للآخر، ولا يزال الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة”.
5– إعادة كتابة وصياغة العلوم الإسلامية صياغة معاصرة، أو بعبارة أخرى إعادة النظر بكتب التراث وتنقيتها، فالعلوم عامة تتطور باستمرار، والعلوم الإسلامية كذلك، ومن قرأ حول تاريخ كل علم من العلوم الإسلامية كالفقه وعلم الحديث وغيرها لأدرك ولاحظ ذلك بوضوح، وهذا يتعلق بالأسلوب والمضمون.
ومن أمثلة ذلك علم مصطلح الحديث، حيث عدّ بعض العلماء كتاب “منهج النقد في علوم الحديث” للدكتور نور الدين عتر إضافة جديدة في علم مصطلح الحديث، ولعلّ ذلك يلاحَظ في علم الفقه أكثر من خلال مقارنته “من حيث التنظير والترتيب” بالنظريات القانونية الحديثة.
6– استخدام أساليب دعوية وتعليمية جديدة، والاستفادة من النظريات التربوية الجديدة في الدعوة والتعليم، وذلك يختلف باختلاف ذائقة الناس التي تتأثر بالبيئة والمستوى الثقافي والعمر والحالة النفسية وغير ذلك، بل قد يلاحظ الإنسان نفسه أنه قد يتأثر بأسلوب خطابي في عمر معيّن، ثم يختلف تأثره مع تقدُّم العمر.
أما عن مجالات التجديد في شؤون الدنيا، فيمكن تلخيص الأمر في البنود التالية:
1– التجديد على الصعيد السياسي، حيث تكون العلاقة بين السلطة والشعب فيها شيء من التجاذب، فمهمّة السلطة التصرف بالمقدرات بما فيه الصالح العام، ومهمة الشعب أن يبقى متيقظًا متنبّهًا خوفًا من تفرد السلطة الحاكمة واستبدادها وتوجيه مقدرات الدولة لما فيه مصلحة متنفذيها دون عامة الشعب.
والتجديد في هذا المجال يكون في جانب عملي وجانب نظري، أما الجانب العملي فيكون من خلال الرقابة المستمرة والتيقُّظ الدائم والحيوية السياسية والحفاظ على النشاط السياسي التعددي، والتجديد في التيارات والأحزاب المتنافسة، وتقديم أطروحات وتيارات جديدة تقدم حلولًا جديدة لمشكلات الناس، وأما على الجانب النظري فيكون التجديد بالاجتهاد، والبحث في أفضل النظم السياسية والإجراءات القانونية التي تحفظ أكبر قدر من الحرية والعدالة والأمن وسير الحياة المستقرة.
2– التجديد في الجانب الاقتصادي، فالحياة الاقتصادية تطورت تطورًا كبيرًا، فتقزّمت قطاعات اقتصادية وتوسّعت أخرى، بل ولدت قطاعات اقتصادية جديدة، والتجديد في كل مجتمع يكون من خلال دراسة الواقع الاقتصادي وتقديم الحلول لمشكلات المجتمع الاقتصادية، وتوجيهه إلى قطاعات اقتصادية مناسبة تساهم في تحسين الدخل القومي، وقد رأينا دولًا لا تملك كثيرًا من الموارد الطبيعية استطاعت تطوير اقتصاداتها من خلال قطاعات صناعية أو خدمية.
3– التجديد في المجال التربوي، من خلال دراسة آخر ما توصّل إليه علم التربية، ونقل ما يناسب منه للتطبيق في التربية المنزلية والمدرسية في المجتمع.
4– التجديد في تعامل المجتمعات مع الثقافات الأخرى، فقد كانت النظرة القديمة محصورة بين القبول الكلّي أو الرفض الكلّي، لكن التجديد يكون من خلال دراسة ما تنتجه الثقافات الأخرى وتفكيكه وتحليله، والتفريق بين الحقيقة المطلقة في ذلك وما يرتبط بتلك البيئات الدينية والاجتماعية.
5– التجديد في دراسة التاريخ الإسلامي، فلم تبقَ دراسة التاريخ في عصرنا مجرد سرد أحداث والتحقُّق من ثبوتها، بل أصبحت مدخلًا لفهم طبيعة القوانين الاجتماعية والعلاقات والحركة البشرية والنظريات الحضارية، ولعلّ كتاب عماد الدين خليل “مدخل لدراسة الحضارة الإسلامية” أو كتابه “الانقلاب الإسلامي في عصر عمر بن عبد العزيز” نموذجًا لذلك.
6– التجديد في الفنون والآداب، حيث تعدّ الفنون والآداب طريقة راقية للتعبير عن الأفكار والمشاعر بأسلوب جمالي، والتجديد يكون من خلال استجابة الأديب والفنان لمقتضيات المرحلة، ويعبّر عن مشكلات الناس وهمومهم وآلامهم وتطلعاتهم من خلال رواية أو أغنية أو لوحة أو مسرحية… بل يحفّز الفكر ويوجّهه من خلال ذلك.
7– أما التجديد فيما يتعلق في العلوم التطبيقية المادية فهو أوضح من أن يُدَلَّل عليه، والثورة التقنية أوضح دليل على ذلك، إلا أن التجديد يكون بتعامل المجتمع معها حيث يدخلها منتِجًا ولا يبقى مستهلكًا.
بتأمُّل الحديث النبوي وما قاله العلماء من شموله وعمومه لمختلف مجالات حياة الناس وأوقاتهم وأشخاصهم، وبإلقاء نظرة على مجالات التجديد التي ذُكرت وغيرها، يتبيّن أن التجديد يعني حياة المجتمع والأمة، وأن الأمة المرنة هي الأقدر على التكيُّف مع تقلبات الحياة المعاصرة.
وكأن هذا الحديث بشارة من الرسول ﷺ وتوجيه للمسلمين للاهتمام بهذا الجانب، وكأنه أراد أن يقول إنه بوجود التجديد لا يستمر تخلف وركود وضعف هذه الأمة، بل لا يطول، فالله تعالى يغرس دائمًا في هذا الدين غرسًا يستعمله في طاعته، ولا يمرّ قرن والمسلمون على حالهم.
التجديد والتراث
ذُكر في مقدمة المقالة فريقان، فريق يجمد على ما سلف، وفريق يمشي مع كل ثقافة ولا يحفظ هويته، ولعلّ التراث والعلاقة به من أهم الأسئلة التي تُطرح عند الحديث عن التجديد، ليس في المجتمعات المسلمة فقط، بل لكل أمة ومجتمع خصائص ثقافية وتراث يريد الحفاظ عليهما.
ولعلّ التفصيل فيما يتعلق بالتراث يعطينا جوابًا واضحًا حول ذلك، فالتراث هو نتاج عقل وجهد بشري، بما فيه من فنون وآداب وعلوم ومعارف وفلسفات وأفكار، وأنماط حياة من علاقات اجتماعية وعمران، فهذه ثمرات لتفاعل الجهد البشري مع “واقعه” منطلقًا من “مبادئه”.
وفي هاتين الكلمتين نجد قانونًا للتعامل مع التراث، فنفكّك كل ما يحتاج إلى دراسة، فنقبل ما يرتبط بالمبادئ والخصائص التي تشكّل هوية هذه المجتمعات، ونطوّر ما يتعلق بواقع تلك الأزمنة ويرتبط بتلك البيئات، لأن من التزم بكل ما جاء في التراث عاش متمسّكًا بمبادئ أمته، ولكنه عاش غريبًا عن واقعه وزمانه.
من سنن الله تعالى في خلقه أن لكل مجتهد نصيب، فإن كان التجديد يشمل مجالات مختلفة لا يستطيع رجل واحد أن يحصيها، إلا أنه قد يكون في مجال واحد كذلك، فيحتاج التجديد في كل مجال من المجالات إلى كثير من العلماء والباحثين والدعاة، وبذلك تحيا المجتمعات، ويستطيع كل فرد من أفراد المجتمع أن يكون صاحب نصيب في ذلك بقدر اجتهاده، فإن لم يتيسّر له أن يكون من كبار أعلام المجددين، يستطيع أن يقدّم جهدًا في ذلك يكون مؤثّرًا من خلال تراكم الجهود.