تعد المدينة المنوّرة، الوعاء الأبرز والأهم لسيرة النبي الكريم محمد، صلى الله عليه وسلّم، وعهد الخلافة الراشدة من بعده، إذ يمكنك تخيل أنك تتبع سيرة ومواقف وأحداث سيرة النبي ﷺ وآل بيته وصحابته ليس عبر محاضرة في المسجد أو عبر فيديو على الهاتف ولا في فصول وصفحات كتب التاريخ، وإنما عبر المشاهدة المباشرة والحية لمواقع تلك الأحداث والأزقة والبساتين والمساجد التي عاش فيها الرسول ﷺ ومجتمعه، ونقلت لنا سيرتهم منها وبقيت آثارهم فيها شاهدة على إرثهم.
ويكاد لا يخلو موضع في مدينة النبي من حدث يرتبط بسيرته عليه الصلاة والسلام، لكن تتبع ذلك بات صعبًا اليوم في ظل تقادم الزمان وتغير البنيان والعمران والإهمال الذي طالها في بعض الأحيان والحداثة غير المبالية بهذا الإرث العظيم، ما جعل زائر المدينة المنورة لا يمكنه قراءة السيرة النبوية من خلال الأرض.
في هذا المقال من ملف “مدن مستترة” سنقدم دليلًا تاريخيًا وأثريًا مصغرًا لزائري طيبة، مستعينين بمصادر تاريخية معتبرة، مثل كتاب “وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى” للسمهودي وكتاب “الدر المنثور في بيان معالم مدينة الرسول في العهد النبوي” للكعكي وكتاب “المدينة المنورة دُرة المدائن” لمختار بلوط وكتاب “تاريخ معالم المدينة المنورة قديمًا وحديثًا” للخياري.
وكذا؛ بالوقوف الميداني، لنقدم لكم خريطة مبسطة ترشدكم لدى زيارتكم للمدينة المنورة، إلى المواقع المتوارية خلف المواقع المعروفة التي سنلقي عليها التحية من بعيد، كالمسجد النبوي الشريف ومسجد قباء ومسجد القبلتين ومسجد ذو الحليفة (ميقات أهل المدينة) ومقبرة البقيع وجبل أحد، التي يعرفها ويزورها كل من قصد المدينة، لكننا – هذه المرة – نبحث فيما استتر من مدينة النبي ونعرّف بإيجاز له.
أبرز المساجد التاريخية في المدينة المنورة
1- مسجد الغمامة
مسجد الغمامة، أحد أكثر المواقع المرتبطة بأحداث السيرة النبوية، حيث صلى فيه النبي ﷺ صلاة العيد والاستسقاء، وسمي بالغمامة لأن الرسول خلال صلاة الاستسقاء ظللته غمامة ونزل بعدها المطر، وكذلك صلى به النبي ﷺ صلاة الغائب على النجاشي ملك الحبشة.
أمر عمر بن عبد العزيز ببناء المسجد خلال فترة إمارته للمدينة المنورة في موضع صلاة الرسول ﷺ، ويقع المسجد في الجهة الغربية الجنوبية للمسجد النبوي الشريف ويجاوره مسجد أبو بكر الصديق الذي بني كذلك في عهد عمر بن عبد العزيز في موقع صلى الصديق – رضي الله عنه – فيه صلاة العيد خلال فترة خلافته للمسلمين.
2- مسجد بنو أنيف
مسجد بنو أنيف، بناء صغير بلا سقف يقع على قارعة الطريق التي مر بها النبي ﷺ خلال هجرته من مكة إلى المدينة المنورة في المكان المعروف بـ”ثنيات الوداع”، وقد صلى فيه المصطفى عندما كان يعود الصحابي طلحة بن البراء.
وموقع المسجد هو ذات المكان الذي خرج إليه النبي محمد ﷺ لاستقبال ابن عمه علي بن أبي طالب خلال هجرته من مكة إلى المدينة المنورة بعدما فدى النبي ﷺ ونام في فراشه ليلة هجرته.
3- مسجد الجمعة
أول مسجد يصلي فيه الرسول ﷺ الجمعة بالمدينة المنورة، حيث بقي في قباء أربعة أيام ثم توجه للمدينة المنورة صبيحة الجمعة وأدركته صلاة الجمعة في وادي رانوناء فصلى الجمعة بمن معه.
يقع المسجد اليوم في جنوب غرب المدينة المنورة، في سفح وادي رانوناء بالقرب من مسجد قباء.
4- مسجد السجدة
هو مسجد صغير يؤرخ موضع سجود الرسول ﷺ سجدة شكر بعد تلقيه البشارة فيقول النبي ﷺ: “إن جبريل عليه السلام أتاني فبشرني، فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه. فسجدت لله عز وجل شكرًا”.
ومكان السجدة كان عبارة عن بستان للنخيل يطلق عليه بستان البُحير ويقع المسجد اليوم في الطريق لجبل أحد.
5- مسجد الإجابة
مسجد بناه في عهد الرسول ﷺ الصحابي الأنصاري معاوية بن مالك بن عوف من الأوس ويسمى باسمه اليوم، ويقع شمال مقبرة البقيع على موقع ليس بالبعيد عن المسجد النبوي، إذ صلى به النبي وطلب من الله عز وجل ألا يهلك أمته بانقطاع المطر والفزع واستجيب له، فسمي المسجد بمسجد الإجابة، وذكر الذهبي أن المسجد حدثت فيه حادثة المباهلة الشهيرة بين النبي والنصارى لذلك يطلق عليه مسجد المباهلة أيضًا.
6- مسجد السقيا
في موضع قبة الرسول ﷺ خلال الاستعدادات لمعركة بدر بني مسجد السقيا التاريخي، وسبب التسمية لكونه مجاور لبئر سقيا، ويؤرخ المسجد عددًا من الحوادث كحادثة البشارة بنزول الآية الكريمة {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، ودعاء النبي لأهل المدينة المنورة.
استخدم المسجد كمكان للاستسقاء في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بحادثة طلب المطر ببركة العباس عم النبي ﷺ، يقع مسجد السقيا في المدينة المنورة بباب العنبرية، وبالتحديد داخل سور محطة السكة الحديد.
7- مسجد بني حرام
صلّى الرسوم محمد ﷺ في موضعه في أثناء حفر الخندق، وقد حدثت معجزة تكثير الطعام في هذا الشعب على يد الرسول في غزوة الأحزاب.
يعتبر هذه المسجد السابع ضمن ما يعرف بالمساجد السبع التي تؤرخ موقعة غزوة الأحزاب.
8- مسجد الدرع
حمل هذه المسجد لقبه لأن رسول الله ﷺ توقف به في أثناء خروجه لغزوة أحد وخلع درعه (أو درعيه) وصلى العصر والمغرب والعشاء وبات ثم صلى الصبح وتوجه لموقع معركة أحد.
يقع المسجد في الجهة الشمالية الغربية للمسجد النبوي في موضع يسمى الشيخين، لذلك يطلق عليه أيضًا لقب مسجد الشيخين.
9- المساجد السبع
على سفح جبل سلع وفي موضوع حفر الخندق، وثق أمير المدينة عمر بن عبد العزيز أحداث تلك الغزوة المهمة في تاريخ الإسلام ببناء ستة مساجد صغيرة توثق مواقع قيادة الجيش أو أحداث مهمة، فبني موضع خيمة الرسول التي قاد منها المعركة مسجد الفتح، ومواقع قيادات الجيش بنى مسجد سلمان الفارسي ومسجد أبو بكر الصديق ومسجد عمر بن الخطاب، فيما بنى مسجد علي بن أبي طالب موضع مبارزته الشهيرة التي قتل فيها عمرو بن ود العامري، والمسجد السادس مسجد فاطمة الزهراء وهو ذات الموضوع الذي استشهد فيه الصحابي سعد بن معاذ، وقد ذكرنا المسجد السابع المعروف بمسجد بني حرم.
جرى بناء مسجد حديث ضخم على سفح الجبل سمي بمسجد الخندق، لكن زوار المدينة يقصدون تلك المساجد التاريخية لتذكر تلك الأحداث المهمة من تاريخنا الإسلامي المبكر المرتبط بشكل وثيق بسيرة المصطفى ﷺ.
10- مسجد العصبة
بنى الأنصار الذين أسلموا قبل الهجرة هذا المسجد قبل وصول النبي ﷺ إلى المدينة، واتخذته بنو جحجبا مسجدًا لهم وصلى فيه المهاجرون الأوائل قبل قدوم النبي للمدينة المنورة، كما صلى الرسول ﷺ في هذا المسجد.
يطلق أيضًا على المسجد لقب مسجد النور ويقع داخل بساتين النخيل في منطقة العصبة ضمن قباء ولا يصله إلا القليل من الزوار لعدم معرفة الكثيرين به.
الآبار والمزارع الأثرية في المدينة المنورة
تعد المدينة المنورة عبر تاريخيها مدينة زراعية بامتياز، امتهن أهلها الزراعة لقرون طويلة قبل الإسلام واستمروا بعده إلى يومنا الحاليّ، لذلك تشكل الوديان والآبار ومزارع النخيل جزءًا من تراث وتاريخ مدينة طيبة، ولأن أحداث السيرة النبوية امتزجت بعدد من تلك البساتين وحوائطها ومياهها وثمارها، أصبح من المهم الوقوف عندها والاطلاع عليها.
وإليكم أبرز ما تبقى من آبار وبساتين المدينة المنورة:
بستان المستظل
على بعد أمتار قليلة غرب مسجد قباء يقع بستان المستظل وهو المكان الذي استقبل فيه الأنصار الرسول ﷺ عند قدومه مهاجرًا للمدينة المنورة، وتعود سبب التسمية للبستان بالمستظل لأن أبو بكر الصديق قام يظلل النبي بردائه حتى لا تؤذيه الشمس، فحمل البستان هذا اللقب حتى يومنا هذا.
والبستان قائم اليوم، يمكن زيارته والشرب من بئر عذق الذي شرب النبي ﷺ منه وما زال قائمًا يتدفق بالماء الغزير داخل البستان.
بئر رومة
تعود قصة “بئر رومة” التي كانت ملكًا لأحد الصحابة واسمه رومة الغفاري، وكان يبيع منها الماء فقال له الرسول ﷺ “تبيعها بعين في الجنة”، فقال ليس لي يا رسول الله عين غيرها لا أستطيع.
فبلغ ذلك عثمان بن عفان فاشتراها بـ35 ألف درهم، ثم أتى النبي ﷺ فقال أتجعل لي مثل الذي جعلت له عينًا في الجنة إن اشتريتها فقال الرسول الكريم: “نعم”، فقال عثمان “قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين”.
ما زالت البئر إلى اليوم قائمة وسط بستان للأسف مهمل ولا تتلقى الرعاية التي تستحق، ويمكن مشاهدة البئر من أسوار البستان دون الدخول له لأنه مغلق أمام الزائرين في مشهد محزن يتكرر في الكثير من واقع المدينة التاريخية!
مزرعة سلمان الفارسي
حينما اشترط سيد سلمان الفارسي أن يزرع 300 نخلة لكي يعتقه، تضامن معه الصحابة بتوصية من النبي عليه الصلاة والسلام، فجمعوا النخل المطلوب، وغرس الرسول ﷺ النخل بيده الشريفة ونال سلمان الفارسي حريته، وبقيت هذه المزرعة ونخيلها شاهدة على تلك القصة.
تقع مزرعة سلمان الفارسي في منطقة العوالي وفيها بئر ما زالت تتدفق، يمكن زيارة المزرعة والاستمتاع بالتجول بين نخيلها وشرب الماء من ينابيعها.
هناك العديد من الآبار والبساتين التي أزيلت نتيجة توسعة المسجد النبوي مثل بئر الحاء وبئر الخاتم التي شرب النبي منها وسقط فيها خاتم النبوة من يد الصحابي عثمان بن عفان ولم يعثر عليه إلى يومنا هذا، وبئر الحاء التي أصبحت داخل حرم المسجد وغيرها من البساتين والمواقع التي اندثرت نتيجة غياب الاهتمام أو التوسعة العمرانية للمدينة دون مراعاة المواقع التاريخية والتراثية فيها.
مواقع تستحق الزيارة
منزل السيدة فاطمة
عند توسعة المسجد النبوي الشريف في عهد الوليد بن عبد الملك خرجت السيدة فاطمة من بيت جدتها فاطمة الزهراء لتسكن في حرة المدينة، فحفرت بئر بجوار منزلها، وينقل السمهودي في كتابه “وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى” قصة حفر البئر بعد أن انتقلت إلى موضع دارها بالحرة فابتنتها وهي يومئذ براح، وموضعها بين دار ذكوان وبناء إبراهيم بن هشام، قال: “فلما بنت قالت: مالي بد من بئر للوضوء وغير ذلك من الحاجة، فصلت في موضع بئر دارها ركعتين ثم دعت الله وأخذت المسحاة فاحتفزت بئرها وأمرت العمال فعملوا، فما لقيت حصاة حتى أماتها”.
المنزل وسبيل الماء المرتبط بالبئر ما زال قائمًا إلى اليوم في منطقة الحرة الغربية في طريق العقيق على شارع العنبرية ويمكن زيارته.
سقيفة بني ساعدة
في الجزء الجنوبي من المسجد النبوي الشريف وعلى بعد أمتار قليلة تقع حديقة صغيرة مسيجة توثق موقع سقيفة بني ساعدة، والمدينة المنورة كانت تشتهر بالسقائف التي تعتبر مواقع للسمر وجلسات المشاورة لأهالي المدينة، وقد وقع في هذه السقيفة الحادثة المشهورة التي بويع فيها أبو بكر الصديق أول خليفة للمسلمين بعد وفاة النبي محمد ﷺ.
متحف سكة الحجاز
تتعدد المتاحف في المدينة المنورة مثل متحف دار المدينة ومتحف السيرة النبوية، لكن متحف سكة الحجاز يعتبر أبرزها وأهمها من ناحية البناء والمحتوى الأثري، حيث يستحل هذا المتحف بناية تاريخية عثمانية وهي بناية محطة سكة حديد الحجاز وفي المتحف العديد من الآثار المهمة ككتابات تعود للعهد النبوي الشريف وقوس الصحابي سعد بن أبي وقاص.
المتحف الذي يضم 14 قاعة عرض تحاكي تاريخ المدينة المنورة منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم، مفتوح أمام الزوار ويمكن لمن يزور المدينة أن يقصد شارع العنبرية الذي تقع فيه بناية المتحف ويمكنه أن يزور جامع العنبرية الذي بني أيضًا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
ختامًا حملت لنا كتب السيرة النبوية والحديث الشريف تاريخ الحركات والسكنات والأحداث والمواقع التي جرت فيها كل تلك الأمور بوصف دقيق تفصيلي تجعل مهمة تحديد تلك المواقع والوقوف عندها مهمة رغم صعوبتها – بسبب عوامل كثيرة أبرزها الزمن الممتد لأربعة عشر قرن – ليست مستحيلة.
إن قراءة حديث نبوي أو حدث تاريخي في السيرة يولد معرفةً وفهمًا بالتأكيد، لكن الوقوف في موقع الحدث ومشاهدته بالعين المجردة، خاصة إن كان ذلك الموقع يمنح المتلقي شكل الأرض قبل 14 قرنًا يجعلنا أكثر فهمًا وأقرب للوعي الكامل بالمقاصد والغايات، وأوثق في مراجعة النص التاريخي، لذلك كتب هذا الدليل الأثري المصغر لموقع السيرة في مدينة النبي محمد ﷺ ليذكر بأهمية الحفاظ على القليل المتبقي من آثار المدينة الأولى في تاريخ الإسلام ويساعد الزائرين للمدينة بالوقوف على ما تبقى من تاريخنا في هذه الأرض المباركة.