تحول التلوث في العقدَين الماضيَين إلى غول يلتهم مئات الآلاف من الضحايا، إذ غرقت مدن بأكملها في براثن هذا الشبح الذي أصبح ظاهرة لا يمكن تجاهلها أو غضّ الطرف عنها، فيما فشلت كافة محاولات القضاء عليه عبر برامج التوعية والسياسات البيئية التي لجأت إليها الكثير من الدول للتقليل من تفاقم هذه الكارثة.
وكشفت دراسة أعدّتها شركة “آي كيو إير” (IQAir) السويسرية، المتخصصة بصناعة أجهزة مراقبة جودة الهواء وتقنيات تنقيته، عن أكثر المدن تلوثًا في العالم، وذلك من خلال الاستناد إلى قياس أجهزة استشعار مستويات تركيز الجزئيات التي يبلغ قطرها 2.5 ميكرومتر أو أصغر، وتسمّى PM2.5، تلك الجزئيات التي تمثل الخط الفاصل بين التلوث الطبيعي والخطير، والتي تأتي غالبًا من عادم المركبات وانبعاثات محطات الطاقة والعواصف الصحراوية ودخان مواقد الطهي وحرائق الغابات.
وتصدّرت المدن الهندية قائمة الـ 100 مدينة الأكثر تلوثًا في العالم، بحسب الدراسة، وذلك بعدد 46 مدينة موزعة على كافة أنحاء البلاد، تلتها الصين بـ 42 مدينة، ثم باكستان بـ 6 مدن وبنغلاديش بـ 4 مدن، كما تضمّنت القائمة بعض مدن الشرق الأوسط أبرزها المنامة والبحرين.
وربط الباحثون بين التعرض لتلك الجزئيات، سواء تعرض مباشر أو غير مباشر، والعديد من الأمراض المزمنة التي انتشرت بصورة هائلة خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها أمراض القلب والرئة والصدر، والمرتبطة بشكل كبير بالتلوث، تلك الأمراض التي يروح ضحيتها سنويًّا حوالي 7 ملايين حالة وفاة مبكرة.. فما هي أبرز تلك المدن التي يقبع سكانها على قوائم انتظار الموتى بسبب التلوث الغارقة فيه؟
نيودلهي.. أكثر مدن العالم تلوثًا
تتصدر العاصمة الهندية نيودلهي قائمة المدن الأكثر تلوثًا في العالم، إذ تظللُ سماء تلك المدينة الأكبر بعد مومباي ويقطنها أكثر من 13 مليون نسمة سحبٌ من الأدخنة السوداء والرمادية التي تحجب الرؤية في كثير من المناطق، ترجع في الأساس إلى اعتمادها على الفحم في توليد الطاقة، إذ إن أكثر من 70% من الكهرباء المولدة تكون عن طريق الفحم الأحفوري الملوث للهواء.
ورغم أن نيودلهي هي مقرّ الرئاسات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) في البلاد، إلا أنها تواجه أزمة تلوث لم تشهدها مدينة أخرى، سواء داخل الهند أو خارجها، وهو ما وضع حكومة رئيس الوزراء الحالي، ناريندرا مودي، في مرمى الانتقادات.
وتمتلك تلك المدينة (شمال البلاد) سجلًّا مشينًا مع الهواء النظيف، ففي عام 2015 صنّفت منظمة الصحة العالمية المدينة بأنها الأكثر تلوثًا في العالم من بين 1600 مدينة أجرت المنظمة عليها دراسات وأبحاث، وفي عام 2016 صنّفتها وكالة حماية البيئة الأمريكية بأنها أكثر مدن الأرض تلوثًا.
وقد اتخذت الحكومة الهندية بعض الإجراءات لوقف هذا النزيف البيئي في ظل الانتقادات الحادة التي تواجهها الدولة، لما يترتّب على ذلك من هروب للاستثمارات وتراجع للسياحة، من بينها منع الشاحنات من دخول العاصمة إلا في أوقات محددة وتغليظ العقوبة على استخدام الوقود ذات الانبعاثات الكبيرة.
تعدّ مدينة غوروغرام القريبة من نيودلهي هي الأكثر على الإطلاق في معدلات التلوث.
كما تبنّت الدولة خطة شملت الأهداف المناخية الهندية التي أعلنها رئيس الوزراء خلال “كوب 26″، منها التعهُّد بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2070، وخفض كثافة الكربون في الاقتصاد الهندي وأعمال القطاعات المختلفة بما يعادل مليار طن بحلول عام 2030.
كما أكّد مودي التزام بلاده بزيادة قدرة الكهرباء غير الأحفورية المولدة إلى 500 غيغاواط بحلول عام 2030، بما يلبّي 50% من الطلب على الكهرباء في البلاد، لكن ذلك لم يسفر حتى اليوم عن أي جديد، إذ لا تزال المدينة تتصدر قائمة الدول الملوثة عالميًّا.
وتعدّ مدينة غوروغرام القريبة من نيودلهي هي الأكثر على الإطلاق في معدلات التلوث، وذلك بسبب أعمال البناء المستمرة وما ينجم عنها من مخرجات ملوثة للبيئة بجانب الانفجار السكاني الواضح، حيث تغطي سماءها سحب رمادية تحول دون رؤية السماء بشكل كامل، هذا في الوقت الذي تكتظ الشوارع بالأطفال والشباب الباحثين عن العمل، علاوة على عوادم السيارات التي تغطي شوارع المدينة، كل ذلك ساهم في تدمير الأراضي الزراعية وزاد من معدلات السكان بأمراض الصدر والرئة والقلب، وحوّلها إلى مدينة من الأشباح، فيما وصفها البعض بأنها “غرفة الغاز”.
دكا.. مركز التجارة العالمي الذي تحوّل إلى مستنقع نفايات
وتأتي في المرتبة الثانية مدينة دكا عاصمة بنغلاديش، والتي يسكنها أكثر من 20 مليون شخص، حيث تعاني من مستويات غير معقولة من التلوث على كافة المسارات، فهي بيئة خصبة لجميع الملوثات، الهواء والمياه والضوضاء والنفايات، بجانب أفران صناعة الطوب والفحم، والتي تحوّل المدينة إلى بقعة سوداء لمن يراها من أعلى.
وانحدرت دكا التي كانت في يوم من الأيام مركزًا للتجارة والأعمال بحكم موقعها المتميز، إذ تطل على 6 أنهار رئيسية (بوريغانجا وسيتالاخيا وبانغشي وتوراغ وبالو وداليشاوري) حتى أنها كانت تعرَف باسم “مدينة الأنهار”، إلى واحدة من أكثر مناطق العالم تلوثًا، هذا التلوث الذي طال أنهارها كذلك، وكاد أن يقتلها “بيولوجيًّا” كما أشار البعض.
العثور على مقدار سامّ من المعادن مثل الرصاص والكادميوم والكروم والزئبق في رواسب الأنهار بدكا، يجعل من تنقية المياه للشرب أمرًا مكلفًا للغاية.
وكشفت منظمة البيئة والتنمية الاجتماعية في بنغلاديش في دراسة لها أنه يتمّ إلقاء 6 آلاف طن من النفايات السائلة في منطقة بوريغانجا الرئيسية جنوب دكا بشكل يومي، هذا بخلاف تصريف النفايات الصناعية غير المعالَجة ومياه الصرف الصحي المنزلية في مجرى نهر بوريغانجا، ما يؤدي إلى انقراض الحياة المائية وفشل النُّظم البيئية.
وأدّى هذا التلوث إلى أن أصبحت مياه الأنهار الست جميعها غير صالحة للاستخدام، كما أنه لا يمكن تنقيتها أو معالجتها، بحسب الخبير البيئي شهريار حسين، الذي أرجع ذلك إلى اعتياد إلقاء جميع نفايات المدينة والقمامة الصناعية والسوائل السامة مباشرة في تلك الأنهار، مضيفًا في حديثه لـ”الأناضول” أن “هيئة الإمداد بالمياه في دكا يتوجب عليها جلب المياه من خارج المدينة.. فليست المياه السطحية فقط هي الملوثة، بل إن المياه الجوفية في دكا أصبحت بالفعل شديدة التلوث بالمعادن الثقيلة”.
وبحسب الدراسات والأبحاث التي أُجريت على مياه الأنهار في دكا، عُثر على مقدار سامّ من المعادن مثل الرصاص والكادميوم والكروم والزئبق في رواسب الأنهار، ما يجعل من تنقية المياه للشرب أمرًا مكلفًا للغاية، إذ يحتاج سكان المدينة حرق غاز بقيمة 3.32 مليارات تاكا بنغالي (38.77 مليون دولار) سنويًّا لإنتاج مياه صالحة للشرب، وفقًا لمنظمة الشفافية الدولية في بنغلاديش.
فيصل آباد.. عاصمة النسيج تغرق في التلوث
لم تكن مدينة فيصل آباد أفضل حالًا من جارتها نيودلهي، إذ تصنَّف تلك المدينة التي تقع في إقليم البنجاب بجمهورية باكستان، ويسكنها أكثر من 3.2 ملايين نسمة حسب تقديرات عام 2017، كواحدة من العشرة الكبار في قائمة المدن الأكثر تلوثًا في العالم.
وتعدّ تلك المدينة التي يحدّها من الشمال غجرانوالة وشيخوبورة، ومن الشرق ساهيوال، ومن الجنوب طوبة طيك سنغة، ومن الغرب جهنغ، ومساحتها 5 آلاف و856 كيلومترًا؛ مركزًا صناعيًّا محوريًّا للإقليم، فهي موطن ماركات الأزياء العالمية الكبرى، وعصب صناعة النسيج في آسيا بأكملها، حيث تحتضنُ أكثر من 3 آلاف مصنع.
وتشكّل فيصل آباد عصب الاقتصاد الباكستاني وعموده الفقري، فهي ثامن أكبر مصدر لمنتجات المنسوجات في آسيا، هذا القطاع الذي يمثل 8.5% من الناتج المحلي و60% من إجمالي صادرات الدولة، إضافة إلى امتصاصه لـ 40% من العمالة الصناعية، حتى أنه أُطلق عليها “ليتل مانشستر” نظرًا إلى مكانتها الكبيرة في صناعة النسيج.
لكن لكُلّ شيء ضريبة، إذ تسبّبت تلك المصانع التي يعمل معظمها بالوقود الأحفوري والفحم، ويسفر عنها مخرجات بيئية كارثية نظرًا إلى المواد الخام الداخلة في الصناعة والتي تحتوي على عناصر كيماوية سامة، في تحويل المدينة الصناعية إلى سحابة سوداء قاتلة.
وكشفت أجهزة الرصد البيئي خلال السنوات الماضية أن نسبة تلوث الهواء في المدينة الباكستانية بلغ 75%، فيما تجاوز التلوث الضوضائي حاجز الـ 45%، أما تلوث المياه فبلغ ذروته حين اقترب من 80%، لتواجه المدينة مستقبلًا كارثيًّا إن لم يتم تدارك ذلك، هذا في الوقت الذي تعاني فيه الدولة من أزمة اقتصادية خانقة تحول دون التدخل العاجل لإنقاذ الملايين من سكان المدينة وأضعافهم من سكان الإقليم والبلاد بأكملها من الموت أو الإصابة بالأمراض الصدرية.
هوتان.. قنبلة الصين الموقوتة
تصنّف 42 مدينة صناعية ضمن الـ 100 الأكثر تلوثًا في العالم، يتصدرها مدينة هوتان أو خوتان الواقعة في إقليم شينجيانغ، داخل صحراء تاكليماكان العملاقة، حيث يصل متوسط جودة الهواء فيها إلى 182 درجة وفق المقاييس البيئية، فيما يرتفع في موسم الجفاف إلى 358 درجة، ما يجعلها واحدة من أكثر المناطق تلوثًا.
وتعدّ هوتان قلعة صناعية في المقام الأول، وهو ما يسبب التلوث الغارقة فيه تلك المدينة، حيث ترتفع مستويات حرق الفحم الحجري وكثافة إنتاجه، هذا بجانب الطبيعة غير المستقرة للمدينة التي تتعرض لعواصف رملية استثنائية تستمر لأكثر من 300 يومًا في العام، ما يجعلها مدينة غير صالحة للحياه الطبيعية وفق المؤسسات البيئية الصينية.
ومنذ عام 2006 تعدّ المدن الصينية أكبر مصدر سنوي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، لا سيما انبعاثات ثاني أكسيد الكروبن الناجمة في أكثر من 80% من مستوياتها عن الطاقة وأساليب توليدها، إذ ما زال السواد الأعظم من الشعب الصيني، أفراد ومؤسسات، يستخدمون الوقود الأحفوري والفحم.
المؤشرات العامة تقود إلى “لا جديد يذكر”، فالصين لا تزال تسير باتجاه زيادة المحطات العاملة بالفحم.
ويُسفر عن هذا التلوث الذي تعاني منه هوتان وغيرها من المدن الصينية، خاصة الـ 45 الأخرى، وفاة ما لا يقلّ عن 1.24 مليون شخص سنويًّا وفق تقديرات عام 2017، ومنذ عام 2000 وحتى عام 2020 تجاوز عدد الصينيين الذين لقوا حتفهم بسبب التلوث والتغيرات المناخية في البلاد 30 مليون مواطن.
ورغم الوعود التي قطعها على نفسه الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي تعهّد مؤخرًا بتحقيق هدف الحياد الكربوني المرجو بحلول العام 2060، إلا أن المؤشرات العامة تقود إلى “لا جديد يذكر”، فالدولة لا تزال تسير باتجاه زيادة المحطات العاملة بالفحم، ما يعني أن التصريحات الصادرة ربما تأتي في إطار “الدعاية السياسية” في مواجهة الانتقادات التي تتعرض لها الدولة الصينية بسبب سجلّها البيئي الكارثي.
المنامة والكويت والقاهرة.. مثلث الرعب العربي
من الملفت للنظر في دراسة شركة “آي كيو إير” (IQAir) أن تأتي مدينة المنامة البحرينية في المرتبة الخامسة بين المدن الأكثر تلوثًا في العالم، وقد أرجع الباحثون هذا الأمر إلى القصور التشريعي الواضح في مكافحة التلوث، مع الكثافة السكانية للمدينة والبالغة 915 شخصًا للكيلومتر الواحد، بما يعني زيادة 100 مرة عن متوسط الكثافة في عواصم الخليج المجاورة.
وحصر المتخصصون أسباب تفاقم التلوث في المدينة الخليجية إلى زيادة الرقعة العمرانية والتوسع في الأنشطة البنائية، علاوة على النفايات الكبيرة التي يتمّ التخلص منها بأساليب غير علمية، والتغول الواضح على البيئة البحرية من خلال إقامة المشاريع كالجسور والردم العشوائي، وهو ما هدد الثروة النباتية والحيوانية والسمكية، مع الوضع في الاعتبار التلوث النفطي الكبير الناتج عن النقل البحري وتفجير آبار النفط إبّان حرب الخليج وغرق ناقلات النفط.
وعلى بُعد كيلومترات معدودة من المنامة، تأتي مدينة الكويت لتكون بمثابة الضلع الثاني من مثلث الرعب العربي الملوث، والذي يهدد المنطقة بأسرها، حيث الاستخدام المفرط لوسائل النقل ذات العوادم الكربونية، هذا بجانب مخرجات عمليات الصناعة والتكرير من نفايات بلاستيكية وإلكترونية وطبية، ما جعل المدينة من أكبر المنتجين للنفايات خليجيًّا وعالميًّا.
تصل أضعاف معدلات تلوث الهواء في طهران 6 أضعاف الحد المسموح به من قبل منظمة الصحة العالمية.
وفي 29 يوليو/ تموز 2018 سجّلت الكويت أعلى درجة تلوث هواء، وهي 301 على مؤشر جودة الهواء AQi المستخدم على نطاق واسع في الدولة الخليجية، فيما خلصت ورشة تدريبية أقامتها السفارة الأمريكية في الكويت حول الإعلام البيئي إلى أن التلوث سبب رئيسي لـ %10 من الوفيات في البلاد.
وتُكمل القاهرة الضلع الثالث من المثلث العربي، والتي تحتل مرتبة متقدمة بين المناطق الأكثر تلوثًا في العالم، فتلك البقعة التي لا تتجاوز مساحتها 3 آلاف كيلومتر بقليل، ويقطنها أكثر من 10 مليون شخص، باتت كما يسميها المصريون “علبة سردين” وقنبلة ملوثة قابلة للانفجار في أي وقت.
وتشير التقارير البيئية إلى احتلال العاصمة المصرية المركز الثاني عالميًّا في تلوث الهواء، بواقع تركيز 284 ميكروغرام/ متر مكعب للجسيمات ذات القطر 10 ميكرونات، ما يعادل 14.2 ضعف الحد الآمن طبقًا لمنظمة الصحة العالمية، كذلك تحتل المركز الثالث في قائمة المدن الحضرية الصاخبة في العالم، حيث سجّلت 1.7 نقطة من أصل نقطتَين طبقًا لتقييم التقرير لبيانات الضوضاء، وفي المرتبة ذاتها بالنسبة لتصنيف شدة الإضاءة الاصطناعية بواقع نحو (14900 ميكروغرام/ متر مربع)، ما يعادل 85 ضعف سطوع السماء الطبيعية وفقًا للتقرير.
وبجانب تلك المدن، هناك مدن أخرى لا تقل في معدلات تلوثها عمّا سبق الإشارة إليه، كما هو حال طهران التي يقطنها قرابة 15 مليون شخص، وتعدّ المحافظة الأكثر اكتظاظًا بالسكان من بين المحافظات الإيرانية البالغ عددها 31 محافظة، حيث تصل أضعاف معدلات تلوث الهواء بها 6 أضعاف الحد المسموح به من قبل منظمة الصحة العالمية.
الوضع ذاته في مدينة لاهور الباكستانية، والتي حققت مستوى قياسيًّا غير مسبوق في نِسَب التلوث في ديسمبر/ كانون الأول 2021، حيث وصل معدل جودة الهواء بها إلى 296، ما جعلها حينها أكثر المدن تلوثًا على مستوى العالم.