ساهمت سياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن إفريقيا وتصريحاته المشحونة بالعنصرية العرقية، في خلق مجال أوسع أمام روسيا للعودة إلى إفريقيا، وما سهل هذه المهمة أكثر هو قلق الأفارقة من الهيمنة الصينية المتنامية، فضلًا عن رغبتهم في الانعتاق من بقايا الاستعمار الأوروبي والفرنسي على وجه الخصوص.
تخلو عودة روسيا إلى إفريقيا من أي برامج أيديولوجية، على عكس اتفاقيات التعاون المبرمة خلال عهد الاتحاد السوفيتي، التي كانت مبنية على ولاء مطلق للأفكار الماركسية اللينينية، مثل التمويل الذي حصلت عليه مصر من الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف من أجل بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي، وأيضًا دعم الجيش المصري.
عودة مدفوعة بالعقوبات
تعد القمة الإفريقية الروسية، التي انعقدت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 بمدينة سوتشي الروسية، بمثابة إعلان رسمي بعودة موسكو إلى القارة السمراء، رغم أن روسيا لم تكن غائبة بالكامل، فقد حافظت على نشاطها التجاري مع دول القارة الذي فاقت قيمته الـ20 مليار دولار عام 2018.
بدت هذه العودة مدفوعة بثقل العقوبات المفروضة على روسيا منذ ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014، وهذا بالفعل ما استدعى التحول نحو إفريقيا وآسيا، فقد خططت موسكو لإقامة قواعد عسكرية في عدد من البلدان الإفريقية، فضلًا عن المصالح الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية.
نما حجم التبادل التجاري بين روسيا وإفريقيا منذ عام 2015، مع ذلك فإن حصة روسيا في السوق الإفريقية لا تتجاوز 2.4% من سوق إفريقيا
يبدو مصطلح “العودة” غير دقيق، فرغم أن العلاقات السوفيتية الإفريقية عانت من تلف واضح بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن روسيا في الواقع تنضم في الوقت الحاضر إلى الهرولة الثالثة نحو إفريقيا، لأن كنوزها المدفونة ترسم خريطة الصراع الجيوستراتيجي، فإفريقيا ليست مركز العالم فحسب من حيث موقعها الذي تحيطه البحار والمحيطات من كل جانب، بل ويوجد في باطنها مواد خام، لم يتم استكشافها واستغلالها حتى الآن، وهي بلا شك عصب صناعات المستقبل.
في المقابل، ما الذي ستقدمه روسيا إلى إفريقيا؟ طبعا يتجاوز هذا السؤال التدخلات العسكرية في ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء من خلال نشر قوات “فاغنر”، وكذلك مبيعات الأسلحة الروسية التي تستحوذ على نحو نصف إجمالي سوق السلاح في إفريقيا، فعملاؤها الرائدون هم: الجزائر وأنغولا ومصر والمغرب نيجيريا والسودان والسنغال وزامبيا.
علاوة على استعادة روسيا لمركزها في عقود تصدير السلاح، فقد اتجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إحياء الاتفاقيات القديمة التي جُمدت نتيجة عدم التزام الدول بسداد ديونها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إذ أسقطت روسيا جزءًا من الديون عن بعض الدول وكامل الدين عن بعضها الآخر، مثل ليبيا التي وصل حجم ديونها إلى 4.6 مليار دولار، والجزائر التي وصل حجم دينها إلى نحو 4.7 مليار دولار.
نتيجة ذلك، نما حجم التبادل التجاري بين روسيا وإفريقيا منذ عام 2015، مع ذلك فإن حصة روسيا في السوق الإفريقية لا تتجاوز 2.4% من سوق إفريقيا مقابل 19.6% للصين و5% لكل من الولايات المتحدة وفرنسا والهند مجتمعة.
وبسبب جائحة كوفيد 19 لم تتجاوز المبادلات التجارية الروسية الإفريقية 14 مليار دولار عام 2020، غير أنه في جميع الأحوال يميل الميزان التجاري لصالح روسيا التي تصدر إلى إفريقيا منتجاتها أكثر بـ7 أضعاف ما تستوردها منها.
الواردات الإفريقية تهمين عليها الحبوب بنسبة 30% من مجموع المواد المستوردة من روسيا، وبالنسبة لروسيا فالقمح هو أغلب ما تصدره إلى الدول الإفريقية بنسبة 95%، ما يثير مخاوف من ارتفاع قياسي لأسعار القمح في خضم الحرب الروسية الأوكرانية.
بالإضافة للقمح، فإن وقود التعدين مثل الفحم والمشتقات البترولية والغاز، تمثل 18% من المواد التي تستوردها الدول الإفريقية من روسيا، وبدورها تصدر إفريقيا للدول الأورآسيوية المعادن النفيسة والفواكه والخضراوات والمنتجات البحرية والمواد الكيماوية والعضوية.
في المجال الثقافي والعلمي، يبرز دور المراكز الثقافية للعلوم والثقافة في العديد من الدول الإفريقية، فمن خلالها توفر روسيا المنح والتدريب للطلبة الأفارقة في الجامعات والمعاهد الروسية، فقد استفاد خلال السنوات الأخيرة 4 آلاف طالب إفريقي من أصل 15 ألف يدرسون في روسيا من منح دراسية، وبالنظر إلى محدودية فرص التعليم العالي في العديد من الدول الإفريقية، تعتبر هذه المنح موضع ترحيب كبير من المستفيدين.
الإستراتيجية الروسية الحاليّة المبنية على تقديم القروض والعقود الاستثمارية لا تشترط أبدًا الأسس الديمقراطية وحقوق الإنسان كما هو شأن العقود الغربية
وبما أن روسيا لها باع طويل في الصناعة النووية، فإن ذلك يتوافق مع طموح بعض الدول الإفريقية في إنشاء مفاعلات نووية لأغراض سلمية، ونتيجة ذلك أبرمت روسيا عقودًا مهمة مع عدد من الدول في مقدمتها مصر وليبيا والجزائر، وآخر هذه العقود كان مع المغرب الذي يهدف إلى بناء وتصميم مفاعلات للطاقة النووية وإنشاء محطات تحلية مياه وكذلك التنقيب عن رواسب اليورانيوم، بالإضافة إلى تطوير البحث العلمي لاستخدامات الطاقة النووية في المجالات الطبية والصناعية.
إبطال العودة
طبعا لا يمكن تجاهل المكاسب السياسية التي تستهدفها روسيا من خلال دعم البلدان الإفريقية، وبما أن القارة تشكل أكبر كتلة تصويتية في الأمم المتحدة، فإن ذلك سيكون مفيدًا لموسكو التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية ودول حلف الشمال الأطلسي التي تهمين على النظام العالمي، ولطالما كانت روسيا متهمة من طرف الغرب بتوريد الأسلحة بعقود تفضيلية إلى البلدان الإفريقية من أجل الحصول على أصوات.
إن الاستراتيجية الروسية الحاليّة المبنية على تقديم القروض والعقود الاستثمارية لا تشترط أبدًا الأسس الديمقراطية وحقوق الإنسان كما هو شأن العقود الغربية، وقد تكون هذه الإستراتيجية مجدية وناجحة على المدى القريب، لأنها تتوافق مع رغبات معظم الحكومات الإفريقية، لكن على المدى البعيد قد تفشل إستراتيجية موسكو أمام عودة الاهتمام الأمريكي بالقارة، كما ينذر تنامي وعي الشباب الإفريقي ورغبتهم بالتحول الديمقراطي بإبطال أهداف العودة الروسية.